قطاع الفنادق يواجه أزمة وجودية

حِدادٌ رمادي لأجنحةٍ مهجورة في عموم البلاد
خيوط
December 31, 2024

قطاع الفنادق يواجه أزمة وجودية

حِدادٌ رمادي لأجنحةٍ مهجورة في عموم البلاد
خيوط
December 31, 2024
.

تحقيق : شيماء القرشي & أحمد عوضة

على تلة مرتفعة، تُشرف على مدينة صنعاء من ناحية جبل (نُقم)، يشمخ واحدٌ من أفخم فنادق النجوم الخمسة المهجورة في اليمن، وهو فندق (موفمبيك) الذي لا يكاد يجهله معظم اليمنيين. منذ أواخر عام 2015 حتى الآن، غدا الفندق خاويًا وموصد الأبواب، بعد أن كان فيما مضى يضج بالنزلاء من السياح ورجال الأعمال والدبلوماسيين من جنسيات عربية وأجنبية، وتحتشد في قاعاته الندوات والمؤتمرات. 

لا يختلف موفمبيك عن عشرات الفنادق الأخرى في اليمن، سوى في رمزيته كشاهدٍ يلخص حالة العزلة التي انتهت إليها البلاد منذ اندلاع الصراع المسلح في خريف 2015، وانفرَاطِ العهد الذي لم يعد منه بالنسبة لليمنيين سوى ذكرياتِ ما يصفونه -على سبيل الحقيقة أو المجاز- بـ"الزمن الجميل". 

تكشف البيانات التي قمنا بجمعها -من المؤسسات الرسمية ومن الميدان- عن وجود 120 فندقًا من أصل 433 فندقًا في صنعاء (أغلبها فنادق شعبية)، توقفت نهائيًّا عن العمل خلال الفترة الممتدة من 2015 – 2024، منها 64 فندقًا تعرضت لأضرار متفاوتة جراء عمليات القصف الجوي لطيران التحالف الذي تقوده السعودية والإمارات منذ عام 2015. 

في حين لجأ 49 فندقًا إلى اتباع نمط مستحدث، يتمثل في تأجير أجنحتها كشقق سكنية، نتيجة لتراجع إقبال النزلاء بشكلٍ حَدَّ من قدرتها على الاستمرار في العمل، منها على سبيل المثال: الريان، اليمامة، الصياد، مرسيليا، الساحات... إلخ. 

https://www.datawrapper.de/_/smrlA/?v=4

أمين معوضة، مدير مكتب "معوضة للعقارات" بصنعاء، يقول في حديثٍ لـ"خيوط": "أصبح يتكرر كثيرًا التواصل معنا من أصحاب فنادق بغرض بيع الفندق كاملًا أو كشقق تمليك منفردة، وبعضهم بغرض البحث عن مستأجرين...، وأكثر تلك الفنادق هي الفنادق الموجودة في الأماكن الشعبية، أو في الشوارع المزدحمة". 

يعلل معوضة لجوء مُلّاك الفنادق إلى هذا الإجراء، بوجود فجوة بين التكلفة التشغيلية التي يتجشّمها مُلَّاك الفنادق، بالمقارنة مع العدد الضئيل من النزلاء الذي لا يتجاوز أحيانًا نزيلًا واحدًا (تأجير غرفة واحدة فقط)؛ "لذلك يلجؤون إلى تحويل فنادقهم (المباني) إلى شقق سكنية، لإنقاذ الوضع"؛ يضيف. 

محطة البحث التالية كانت محافظة تعز، في الجزء الذي تسيطر عليه الحكومة اليمنية المعترف بها دوليًّا. متغيرات الوضع العام من حيث الواقع المعيشي والأمني وتبعات الحرب لا يختلف كثيرًا عن واقع الحال في صنعاء على الجانب الآخر.

ذات الاستنتاج يؤكده طارق الجماعي، وهو سمسار عقارات بمكتب الريان بصنعاء، مشيرًا إلى رواج نمط بيع مباني الفنادق كشقق تمليك، وهي طريقة ناجعة في حال تعذّر الحصول على مشترٍ للعقار (المبنى) بالكامل. مُستطردًا: "قبل أسبوع تواصلت معي طبيبة ترغب في بيع فندق ورثته، في شارع تعز (جنوب صنعاء) كشقق تمليك، بسبب غياب النزلاء".

يلفت الجماعي إلى أنه رغم استمرار وتيرة تنقل اليمنيين وتوافدهم على صنعاء من شتى المحافظات اليمنية بزخمٍ متزايد، لغرض العلاج أو الدراسة، فإنهم يفضلون استئجار شقة عوضًا عن المكوث في فندق، حتى لو كانت المدة التي يقضونها قصيرة. 

"يتواصل معي العديد من القادمين من محافظات مختلفة، يريدون استئجار شقة من غرفة أو غرفتين فقط، ليقضوا أمورهم في صنعاء، ولعل السبب في ذلك هو عدم قدرتهم على دفع تكاليف المكوث في الفنادق، خاصة مع تدهور أوضاع اليمنيين المادية"؛ يقول الجماعي لـ"خيوط". 

"تعز" في حال مثيلاتها 

محطة البحث التالية كانت محافظة تعز، في الجزء الذي تسيطر عليه الحكومة اليمنية المعترف بها دوليًّا. متغيرات الوضع العام من حيث الواقع المعيشي والأمني وتبعات الحرب، لا تختلف كثيرًا عن واقع الحال في صنعاء على الجانب الآخر. 

يوجد في تعز 36 فندقًا، يعمل منها حاليًّا 32 فندقًا، بينما لا تزال أربعة منها مغلقة، وهي فنادق: سبأ، السلام، النصر، شمسان. 

تُبيِّنُ وثيقةٌ حصلت عليها "خيوط" من مكتب السياحة بتعز، وجود 20 فندقًا من هذه الفنادق، تعرضت لأضرار متفاوتة خلال الحرب. 

تفيد ميسون النجاشي، مديرة مكتب السياحة بتعز، لـ"خيوط"، أن عددًا من هذه الفنادق تحوَّلَ إلى شقق سكنية أو عُرض للبيع، تستدرك: "لكن بالنسبة لنا في مكتب السياحة، لم نوثق عدد تلك الفنادق حتى الآن".

وبالبحث في سجلات المركز الوطني للتخطيط والرصد بمدينة تعز، حول ما إذا كان هناك فنادق يتم إنشاؤها حديثًا، تبيّنَ من خلال التدقيق في الوثائق الخاصة بطلبات تراخيص/ تصاريح الإنشاء، خلال عام 2023؛ خلوها تمامًا من وجود أي تصاريح لإنشاء فندق، في مقابل 354 تصريحًا لإنشاء عمائر سكنية، و33 تصريحًا لإنشاء مبانٍ تجارية، الأمر الذي يكشف حالة الركود في قطاع الفنادق في مدينة تعز، كما الحال في صنعاء وأخواتها. 

قطاعٌ يترنح تحت ضغط التحوّلات 

التحولات المرحلية وانقسام خارطة السيطرة والنفوذ بين قوى الصراع في اليمن، وبالأخص فيما يتعلق بإخراج مطار صنعاء عن الخدمة عدة سنوات، وازدهار منفذ الوديعة على حساب إغلاق منفذ حرض، الذي كان أكبر وأهم منفذ حدودي بري في اليمن، ونقل مراكز إصدار الجوازات إلى المحافظات الواقعة ضمن نفوذ الحكومة اليمنية المعترف بها دوليًّا، خلق واقعًا جديدًا وطارئًا لم يخلُ من حدوث بعض الاستثناءات التي تواكب ذلك التحوُّل الطارئ، كما حدث في مدينتَي عدن ومأرب اللتين شهدتا انتعاشًا ملحوظًا في قطاع الفنادق، على نحوٍ ما كان ليحدث لولا الواقع الذي فرضته إرهاصات الحرب، بخلاف بقية المحافظات اليمنية، وفي القلب منها العاصمة صنعاء التي نالها الأثر الأكبر من تبعات الحرب فيما يخص قطاع الفنادق والمرافق السياحية.  

آخر مسحٍ شامل عملت عليه وزارة السياحة اليمنية -قبل أن تتفتت إلى وزارتين- لإجمالي عدد الفنادق في الجمهورية اليمنية الموحدة، كان عام 2010، بمجموع يناهز 1479 فندقًا، في عموم المحافظات اليمنية، تتفاوت في تصنيفها حسب مستوى الخدمة. 

يعزو بسام مهدي – مسؤول إداري في وزارة السياحة بصنعاء، توقف وزارة السياحة عن القيام بتحديث المسوح حول حالة الفنادق في الوقت الراهن، إلى عدم وجود السيولة المالية لتغطية تكاليف المسح لتحديد عدد الفنادق التي خرجت عن الخدمة أو تحولت إلى مبانٍ سكنية.

حتى الآن، لا يوجد إحصاء مُحدَّث ودقيق يمكن الاتكاء عليه لمعرفة العدد الإجمالي للفنادق التي خرجت عن الخدمة أو تعرضت للضرر في عموم المحافظات اليمنية، باستثناء تقرير رسمي مطوَّل أعدته لجنة البيئة والسياحة بصنعاء عام 2021، أشار في سياقه إلى عددٍ قَدَّرَهَ بنحو 252 فندقًا، تعرضت لأضرار في عموم المحافظات اليمنية، خلال الفترة ما بين 2015  و2021. 

مع أن العدد الرسمي السابق قد يبدو منطقيًّا (حال أخذنا في الاعتبار الأضرار الخفيفة والمتوسطة)، فإن أقصى مجموع تمكنت "خيوط" من الوقوف على توثيقه -بالاسم والمكان- لعدد الفنادق المتضررة، لم يزد عن 130 فندقًا، في عموم المحافظات اليمنية.

https://www.datawrapper.de/_/dGaZ5/?v=9

 نزيف اقتصادي ومئات العاطلين 

أفضى الصراع المسلح في اليمن، إلى توقف تدفق السياح القادمين إلى اليمن، حيث كان قطاع السياحة أحد أهم الروافد الاقتصادية للعملة الصعبة، وتوفير فرص عمل لعشرات آلاف العامـلين/ـات في القطاع الفندقي والمرافق السياحية المختلفة.

إلى جانب ضعف القدرة المادية بكونه سببًا يجعل الإقامة في فندق خيارًا غير مُحبَّذ بالنسبة لأغلب المُستَطلَعين، كان لافتًا وجود سبب آخر لدى بعضٍ منهم، يتمثل في المحاذير الأمنية، كالتعرض للاعتقال أو الابتزاز من جانب "الجهات الأمنية" لمجرد تشابه الأسماء أو لقب العائلة، أو الاشتباه.

بحسب الإحصاءات الصادرة عن وزارة السياحة اليمنية، فإن عائدات السياحة الدولية خلال عام 2014، بلغت 937 مليون دولار، بتراجع ضئيل بلغ (-3 ملايين دولار) عن عام 2013، وبنسبة انخفاض (-0,3%). وقد كان المخطط -قبل اندلاع الحرب- أن تكون المؤشرات السياحية مع نهاية عام 2015، رفع العائد إلى 1056 مليون دولار (أي ما يعادل 60% من الصادرات غير النفطية، و2% من إجمالي الناتج القومي)، ووفود 1487 ألف سائح، إلا أنّ أيًّا من ذلك لم يحدث بعد أن أفسدت الحرب كل شيء.

يَذْكر بيان صادر عن وزارة السياحة ومجلس الترويج السياحي بصنعاء، أن حجم خسائر القطاع السياحي في اليمن، خلال الفترة الممتدة بين عامي 2015 و2021، بلغت أكثر من 745 مليون دولار، وتسريح 95% من العاملين في قطاعات السياحة المختلفة؛ كانوا يَعُولون بعملهم أكثر من نصف مليون نسمة على مستوى المحافظات، بمتوسط أربعة أفراد في الأسرة الواحدة. 

على المستوى الداخلي، شهد اليمن خلال السنوات الماضية أحد أفظع الأزمات الإنسانية والاقتصادية والمعيشية على مستوى العالم، بحسب الأمم المتحدة. ونتيجة لذلك، حدث انكماش اقتصادي في نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 52%، خلال الفترة ما بين 2015 إلى 2022، بحسب البنك الدولي.

من ثَمّ، كان من الطبيعي تراجع السياحة الداخلية ونسبة نزلاء الفنادق، مع الأخذ في الاعتبار أن نسبة معتبرة من الفنادق أصبحت -في ظل هذا الوضع، وبمردود نشاطها الهزيل- غير قادرة على دفع التكاليف التشغيلية، بما في ذلك أجور العاملين ورسوم الخدمات (التي تضاعف بعضها بنحو 300%)، والضرائب والإتاوات. 

شيءٌ آخر غير المال! 

خلال استطلاع قامت به "خيوط"، لاتجاهات عينة نموذجية من اليمنيين الوافدين من محافظات يمنية عدة إلى صنعاء، بغرض العلاج أو الزيارة مدة محدودة، كان نحو 89% منهم يفضلون المكوث لدى الأقارب أو الأصدقاء، أو استئجار شقة سكنية ولو بسعرٍ مضاعف، عوضًا عن النزول في أحد الفنادق. 

إلى جانب ضُعف القدرة المادية، بكونه سببًا يجعل الإقامة في فندق خيارًا غير مُحبَّذ بالنسبة لأغلب المُستَطلَعين، كان لافتًا وجود سبب آخر لدى بعضٍ منهم، يتمثل في المحاذير الأمنية، كالتعرض للاعتقال أو الابتزاز من جانب "الجهات الأمنية" لمجرد تشابه الأسماء أو لقب العائلة، أو الاشتباه، كما حدث مع عدد يتعذر حصره من نزلاء الفنادق خلال السنوات العشر الماضية، ولا سيما أنه أصبح يتعين على جميع الفنادق تقديم تحديثات دورية حول بيانات النزلاء والزوار، فضلًا عن إمكانية المداهمة والاستجواب للنزلاء. علمًا أن هذه الإجراءات لا تقتصر فقط على صنعاء، بل تكاد تكون ذاتها في جميع المحافظات اليمنية، ترافقًا مع حالة الاستقطاب الشامل الذي تعيشه البلاد.

https://www.datawrapper.de/_/woXr1/?v=2 

نوستالجيا الزمن الجميل

بينما تتعمق العزلة التي يعانيها اليمن من تطاول أمد الصراع والانقسام، يظل مشهد الفنادق المغلقة شاهدًا صارخًا على التحولات الاقتصادية والاجتماعية العميقة التي ضربت البلاد. كل ذلك، أصبح يؤكد أن معضلة انهيار القطاع السياحي ليست مجرد مسألة اقتصادية، بل تعكس واقعًا أوسع يعانيه اليمنيون في ظل الصراع، حيث تتقوض فرص العمل، وتذبل قطاعات حيوية، ليبقى الحلم بعودة "الزمن الجميل" مجرد فكرةٍ في مهب الاحتمال.  

•••
خيوط

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English