كيفن سيرل
أكاديمي بريطاني مختص بالدراسات الاجتماعية
ترجمة: ربيع ردمان
تشكلُّ الجالية اليمنية جزءًا صغيرًا، غير أنه مهمّ، من سكان مدينة شفيلد، ومعظم أبناء هذه الجالية ينحدرون من عائلات عمال صُلْب سابقين ممّن هاجروا إلى بريطانيا خلال خمسينيات وستينيات
القرن العشرين(1).
قدَّم اليمنيّون إسهاماتٍ مهمّةً في التنمية الصناعية في بريطانيا قبل الحرب العالمية الثانية وبعدها، لكن هؤلاء يظلّون من وجهة نظر كثيرين، على نحو وصف فريد هاليدايFred Halliday في دراسته الرائدة (العرب في المنفى) Arabs in Exile ، "جاليةً مُغَيِّبةً"، وغالبًا ما يتم تمثيلها داخل هويات جماعية أوسع نطاقًا، مثل: البَحَّار، والمسلم، والعربي، والآسيوي، وغيرها (2).
يقوم هذا المقال على الجمع بين مصادر الأرشيف الوطني والمقابلات الشخصية فيما يُعرف بالتاريخ الشفوي، لتكوين رؤية واضحة بشأن الرحلات التي خاضها اليمنيون من عمَّال الصُّلْب السابقين أثناء هجرتهم إلى شفيلد بعد الحرب العالمية الثانية.
الجذور السياسية والاجتماعية
قَدِمَ الجزء الأكبر من اليمنيين في شفيلد من محمية عدن، وخاصة ممن ينتمون إلى مناطق يافع والشعيب والضالع، وكذلك من شمال اليمن من مناطق رداع وجُبَن والشَّعِر والحديدة، ويمكن رؤية بعض هذه المناطق على خريطة وزارة الخارجية والكومنولث (3).
أسَّسَ البريطانيّون محطة في عدن في عام 1839، ومِن ثَمّ أحكموا سيطرتهم على جنوب اليمن في سبعينيات القرن التاسع عشر. كانت عدن تقوم بدور مميز للمستعمرات الاستراتيجية خلال الحقبة الإمبراطورية؛ فلم يتم استغلال ما تكتنزه من ثروة معدنية الاستغلال الأمثل، ولكن جرى استغلال موقعها على المسار البحري القصير إلى الهند، وكذلك إلى الشرق(4).
إنّ أهمية الميناء في تيسير التجارة مع الهند -توفير نقطة انطلاق للسفن البخارية، فضلًا عن العمالة الرخيصة القادمة من المناطق الداخلية لتغذية أفران السفن بالفحم– تتجلى بكل تأكيد في هذا الملصق (المُرفق) الذي تستخدمه هيئة التسويق التابعة للإمبراطورية، وتظهر عدن كخلفية لها.
هناك ملاحظة مسجلة بخط اليد على إحدى وثائق وزارة المستعمرات تكشف لنا عن الأسباب التي جعلت البريطانيين يحتفظون بمحمية ذات نطاق أوسع، "فالهدف منها هو حماية المداخل البرية المؤدية إلى ميناء عدن".
كما يوضح هاليدي (1974، ص164) أنّ «الازدهار الذي عاشته عدن لم يكن له سوى تأثير محدود على المناطق القبَلية، ومردّ ذلك إلى أنّ نمو عدن كان ناتجًا عن الخارج وأرباحه تذهب إلى الخارج". وهذا يعكس قرارًا سياسيًّا من قبل البريطانيين للحفاظ على المناطق القبلية دون تغيير قدر الإمكان... وإذا كانت التغيرات الاقتصادية قد ألحقت أضرارًا بالمناطق النائية، فربما جرى تقويض الاستقرار السياسي والمنطقة العازلة التي تريدها بريطانيا بين القبائل».
لقد مثّل هذا العزل للمناطق الداخلية عما كانت تشهده عدن من نمو "الدافع" الرئيسي للهجرة، في حين أنّ ازدهار ما بعد الحرب في بريطانيا (فضلًا عن الهجرة المتفرعة – حيث يعمل المهاجرون السابقون على تيسير رحلات المستوطنين اللاحقين والزوار المؤقتين) مثَّل عامل "الجذب" الرئيسي.
الرحلة إلى بريطانيا
تكتسب الوثائق الرسمية في الأرشيف الوطني البريطاني أهمية بالغة في جمع أجزاء الصورة لفهم خلفية الهجرة اليمنية والسياق الأوسع لها، غير أنّها لا تكشف لنا سوى القليل عن التجارب الغنية والمتنوعة التي خَبَرَها المهاجرون أنفسهم. ومن ضمنها تجربة السفر إلى بريطانيا، وهي خبرة خاصة لا يمكننا العثور عليها في الغالب سوى في قصص حياة كبار السن اليمنيين. وهذا ما يستدعي اعتماد وسائل بحث تَجْمَع بين المصادر الأرشيفية والتاريخ الشفوي، إذ يتعين على المؤرخين التواصل مع الجاليات والاستماع إلى الرواية الشخصية من المهاجرين أنفسهم. وسوف نتعرض فيما بقي من المقال لبعض هذه القصص.
قام العديد من اليمنيين برحلات غير مباشرة إلى بريطانيا على متن سفن فرنسية، حيث كانوا يتوقفون في مستعمرة جيبوتي الفرنسية، وحين يصلون إلى فرنسا يستقلون سفنًا أخرى لمواصلة رحلتهم إلى بريطانيا؛ ونتيجة لذلك لم تظهر أسماؤهم ضمن قوائم الركاب القادمين إلى المملكة المتحدة، لأنهم كانوا يتقاعسون عن تسجيل سفرهم داخل أوروبا (5). ناصر هو أحد المهاجرين الذين يتذكرون توقفهم في جيبوتي:
«حين جئتُ إلى إنجلترا لأول مرة من اليمن في عام 1959، سافرتُ على متن سفينةٍ من ميناء جيبوتي. لم نكن نملك الكثير من المال؛ لذلك اشترينا تذاكر للنوم في مقصورات الجزء السفلي من السفينة. كان بإمكاننا رؤية البحر تحتنا مباشرة عندما نظرنا من الفتحات. الأرجح أن نزولي في أسفل السفينة جعلني أشعر بالسوء، لأنني أُصبت بدوار البحر، وصعدتُ إلى ظهر السفينة لاستنشاق بعض الهواء النقي ورأتني سيدة إنجليزية. لاحظتْ أنني مريض ودعتني إلى مقصورتها في الطابق العلوي لإعطائي مهدئًا للصداع أو أسبرين. كانت مقصورتها نظيفة وفخمة للغاية، ومفروشة بأثاث ناعم وجميل، إنها مختلفة تمامًا عن مقصورات الجزء السفلي من السفينة حيث كنا ننام. وبينما كانت تتحدث إليّ وتعطيني الأسبرين، دخل القبطان إلى مقصورتها، وبدا غاضبًا للغاية عندما رآني هناك وطلب مني أن أغادر إلى الأسفل، وقال لي ما الذي تفعله في هذا الجزء من السفينة. لم يكن مهتمًّا بما قالته السيدة ولم يستمع إليها...».
لمزيد من المعلومات، راجع دليل أبحاث الأرشيف الوطني للمهاجرين.
كان الركاب اليمنيّون يسافرون من خلال الحجز في أدنى الدرجات تحت سطح السفينة، ومن المؤكد أنهم كانوا يلاحظون الاختلافات بين ظروف إقامتهم ومقصورات ركاب الدرجة الأولى التي يشغلها غالبية من الأوربيين البيض.
انطلق غالبية المهاجرين من عدن من خلال الطريق البحري القصير عبر قناة السويس. لكن الذين سافروا في فترة حرب السويس عام 1956، حين كان التمييز العنصري المعادي للعرب في ذروته، اضطروا إلى خوض رحلة عدائية وصعبة بشكلٍ خاص. لدينا وثيقة صادرة عن وزارة الخارجية والكومنولث من ملف بعنوان "موقف الدعاية تجاه عبدالناصر والجمهورية العربية المتحدة"، تؤكد بشدة على أنّه بعيد عن كون التمييز العنصري انتكاسة معيبة عن التقاليد الليبرالية الواسعة النطاق، فقد كان جزءًا لا يتجزأ من التوسع الإمبراطوري، وشنت الحرب من أجل الحفاظ عليه(6).
وعلى الرغم من أن ملف وزارة الخارجية البريطانية أبعد ما يكون عن تحليل الآثار النفسية الناجمة عن الاستعمار الذي قدمه مؤلفون أمثال فرانز فانون (7)، إلا أنه يعترف بتجذر التمييز العنصري داخل الدولة البريطانية والجهات المكلفة بتنفيذ طموحاتها الإمبريالية. ومن الأمور الصادمة أنّ طبيعة التمييز العنصري كانت راسخة بين كلٍّ من المسؤولين المعنيين بممارسة "القوة الناعمة"، وكذلك القوات التي تمثل ما وصفه لويس ألتوسير (1971، ص132) بـ"جهاز الدولة القمعي [الذي] يستخدم "العنف"(8). تكتسب هذه الوثيقة قيمة إضافية لكونها من الوثائق التي نجت من برنامج وزارة الخارجية لتدمير وإخفاء الملفات التي ينظر إليها على أنّها «تُحرج حكومة صاحبة الجلالة... وأفراد الشرطة أو قوات الجيش أو الموظفين العموميين...»(9). وهذه مسألة تلفت انتباهنا مرة أخرى إلى أهمية التواصل مع أبناء الجالية وسماع روايتهم الشخصية، مثل عبدالله الذي سافر في عام 1956:
«سافرنا على متن سفينة فرنسية وتلقينا معاملة سيئة للغاية من قبل طاقمها. ردد القبطان والضباط على مسامعنا القول بأننا نحن العرب ينبغي أن نبقى في أسفل السفينة، وألا نصعد إلى السطح ونختلط مع ركاب الدرجة الأولى الذين كانوا يستمتعون بدفء الشمس... وتناول الكثير من المشروبات. حدث هذا في عام 1956، وقبيل الحرب حول قناة السويس، أظهر ضباط الهجرة المصريون دعمهم لنا وطلبوا من الطاقم الفرنسي أن يعاملونا بطريقةٍ حسنة. لكننا شعرنا بالغضب منهم وقررنا التعبير عن احتجاجنا على معاملتهم. لذلك قبل وصول السفينة إلى مرسيليا مباشرة، بدأنا بإلقاء الكثير من أثاث السفينة وأغطية الأَسِرَّة في البحر الأبيض المتوسط».
تسلط قصة عبدالله الضوء بقوة على مثال مبكر من أنواع الاضطهاد المتشابك بين التمييز العنصري والتمييز الطبقي، فضلًا عن النضال الذي كان يخاض ضدهما، والذي من شأنه أن يؤثر على حياة اليمنيين في شفيلد، لأنهم جاؤوا للعمل في العديد من الوظائف غير المرغوب فيها في الصناعة، وهذه الوظائف غالبًا ما كانت ترفضها الطبقة العاملة الأصلية.
ومن هذه الخلفية يأتي ما يطلق عليه سيدريك روبنسون "الرأسمالية العِرْقِيَّة" – وهو مصطلح يلفت الانتباه إلى الطرق التي «تتغلغل فيها العنصرية في البنى الاجتماعية الناشئة عن الرأسمالية»(10)، ومع ذلك فقد كان بعض المهاجرين محظوظين بما فيه الكفاية ليحصلوا على معاملة لطيفة وتعاون من قبل أفراد من السكان المحليين. وكان هذا بالتأكيد هو الحال في قصة عَليّ، الذي يشعر بالامتنان بشكلٍ خاص لسائق سيارة الأجرة ودورين التي استضافته:
«عندما وصلتُ إلى محطة شفيلد قادمًا من لندن بعد أن غادرتُ السفينة في تيلبوري Tilbury [مدينة ساحلية قريبة من لندن]، لم أكن أعرف أي شخص ولا أدري إلى أين أذهب. قال لي سائق التاكسي: "ما رأيك لو تذهب إلى أتركليف Attercliffe [ضاحية صناعية في شمال شرق شفيلد]، أعتقد وجود بعض العرب هناك"، ولكني لم أفهم ما يقول لأنه لم يكن يعرف العربية ولم أكن أتحدث الإنجليزية. وقد ذهب بي إلى أتيركليف، وبعد ذلك إلى طريق دارنال Darnall [ضاحية شفيلد الشرقية]. وبدأ يطرق أبواب البيوت ليسأل السكان الذين يعيشون هناك إن كانت هناك غرفة للإيجار. وبعد أن وصل في بحثه إلى المنزل الحادي عشر، فتحت الباب سيدة تدعى دورين. عندما رأتني قالت: "يمكنه البقاء معي، إنه مرحب به". لذا انتقلت إلى ذلك المنزل. كان بالقرب من المنزل مصنع براون بيلي لصناعة الصلب. وفي وقت لاحق من الليل ذهبتُ إلى هناك للبحث عن عمل. وحصلت على عمل هناك عند منتصف الليل. عندما عدتُ إلى منزل دورين كانت غاضبة وقلقة علي، وصفعتني. وصرخت: "أين ذهبت طيلة الليل؟" أجبتُ باللغة العربية: "لقد حصلتُ على عمل"، وكنتُ سعيدًا جدًّا، ولكن لم يكن هناك من يفهم لغتي».
مؤخرًا، أخذت سجلات الأرشيف الوطني والقصص المقتبسة تلمح إلى أهمية روايات اليمنيين من عمال الصلب السابقين في شفيلد. وعلى الرغم من أنه، كما لاحظ هاليداي، غالبًا ما تكون هذه الجاليات مغيبة، إلا أن إسهاماتهم في الصناعة والمجتمع في المناطق الصناعية في بريطانيا (وكذلك إسهامات جاليات الساحل من قبل)، كانت مهمة في كلٍّ من فترات ما قبل الحرب وما بعدها (11).
* العنوان الأصلي للمقال From Yemen to Yorkshire: Using mixed methods to investigate migration، وقد أجرينا بعض التغيير في العنوان الفرعي منه ليكون أكثر دلالة على المحتوى وملاءمة لسياق الترجمة والنشر.
الهوامش:
1-تشير التقديرات إلى أن عدد سكان الجالية اليمنية يصل إلى نحو 2500 نسمة. انظر على سبيل المثال: أرشيف ومعلومات مكتبات شفيلد (2014). مصادر دراسة الجالية اليمنية في شفيلد متاحة على الموقع التالي: www.sheffield.gov.uk/home/libraries-archives/access-archives-local-studies-library/research-guides/yemeni-community
2-Halliday, Fred (1992) Arabs in Exile: Yemeni Migrants in Urban Britain, London: I B Tauris, p. 59& 141.
3-لمزيد من المعلومات، انظر: Searle, Chris and Shaif, Abdulgalil (1991) ‘Drinking from one pot: Yemeni unity, at home and overseas’, Race and Class 32 (4), pp. 65-85
4- لتقديم ملخص موجز، يطرح سيشرمان السؤال (1972، ص33): لماذا احتفظ البريطانيون بعدن؟ لسببين؛ أثبت المكان أنه مناسب تجاريًّا ومفيد عسكريًّا. ففي المرحلة الأولى، تم بناء تجارة التزويد
بالوقود الضخمة في عدن التي تأتي بعد نيويورك ولندن فقط من حيث الحجم. وفي المرحلة الثانية تم بناء قلعة ساحلية تراقب الغرب لحراسة الشرق، ومراقبة السويس لحراسة الهند. انظر: Sicherman, Harvey (1972) Aden and British Strategy, 1839-1968 Philadelphia: Foreign Policy Research Institute. See also; Halliday, Fred (1974) Arabia Without Sultans, Middlesex: Penguin Books, pp.153-177
5-لمزيد من المعلومات، راجع دليل أبحاث الأرشيف الوطني للمهاجرين.
6- وكما وصفه سيفاناندان: «التمييز العنصري لا يبرر ذاته. فالتمييز لا موجب له إلا لغرض الاستغلال؛ فأنت تميز من أجل الاستغلال أو، وهو الشيء نفسه، تستغله عن طريق التمييز». Sivanandan A. (1991) A Different Hunger: Writings on Black Resistance, London: Pluto Press, p.113.
7- Fanon, Frantz (1986) Black Skins, White Masks, London: Pluto Press.
8-Althusser, Louis (1971) Lenin and Philosophy and Other Essays, New York: Monthly Review Press.
9- انظر على سبيل المثال: Cobain, Ian (2016: 123) History Thieves: Secrets, Lies and the Shaping of a Modern Nation, London: Portobello Books.
10- Robinson, Cedric (2000: 2) Black Marxism: The Making of the Black Radical Tradition, Chapel Hill: University of North Carolina Press.
11- لمزيد من المعلومات، انظر: Halliday (1992); Searle and Shaif (1991); Searle, Kevin (2010) From Farms to Foundries: An Arab Community in Industrial Britain, Oxford: Peter Lang. وفيما يتعلق بالجاليات المقيمة على الساحل، انظر: Lawless, Richard (1995) From Ta’izz to Tyneside: Arab Community in the North-east of England in the Early Twentieth Century, Exeter: University of Exeter Press.
لقراءة المادة من المصدر باللغة الإنجليزية، اضغط "هنا"