امتدت أذرع الأزمة الاقتصادية في اليمن، إلى جميع أركان الحياة، وكانت رؤوس الأموال في مرمى نيران الحرب منذ 2015، ما جعلها غير قادرة على الصمود أمام كافة التحديات والابتزاز الذي تتعرّض له، ما أدّى إلى هجرة غير مسبوقة، قدّرتها بعض التقارير الاقتصادية بأكثر من 50% من منسوب رأس المال الوطني.
يأتي ذلك في ظل تضارب الإحصائيات الرسمية للجهات والوزارات والمؤسسات المعنية التابعة للحكومة المعترف بها دوليًّا، وسط تصاعد مقلق للأحداث على كافة الاتجاهات والأصعدة، حيث فاقمت جميعها من حدة الأزمة الاقتصادية.
وتبرز الأزمة المصرفية الأخيرة الناتجة عن القرارات الصادرة عن البنك المركزي الحكومي في عدن -التي تراجع عنها بعد ذلك- بتأثير كبير وخطير بعدما أضافت صب المزيد من الزيت في نار الاستثمار بشكل عام، ورأس المال الوطني الذي لم يكد يخرج من أزمة حتى يدخل بأخرى، في ظل وضع اقتصادي ومصرفي محبط للغاية مع انخفاض النقد الأجنبي وصعوبة استعادة الموارد العامة، إضافة إلى انهيار سعر صرف العملة المحلية، وارتفاع نسبة الفقر والبطالة مع تسرّب الأصول المالية.
القرارات وازدواجية السياسات النقدية
بالرغم من تبعات أزمة القرارات الأخيرة للبنك المركزي اليمني في عدن، التي يعتبرها البعض بمثابة مسار أخير في رؤوس الأموال، فإنّ ذلك كان ضمن سلسلة من الأزمات الاقتصادية المتتالية منذ انقسام البنك المركزي اليمني وتكوين نظامين مصرفيين تابعَين لطرفي الصراع.
لم تكن هجرة رؤوس الأموال وليدة اللحظة، لكنها زادت مع تعقد الوضع الاقتصادي والسياسي في البلاد وانقسام المنظومة المالية والمصرفية، التي انعكست بشكل سلبي على بيئة ممارسة الأعمال في اليمن، إذ تشكّلت العديد من العوامل المنفرة للأعمال ورؤوس الأموال، تمثلت بزيادة الجبايات والابتزاز والتضخم الكبير في أسعار السلع والخدمات.
ذلك مس رؤوس الأموال والسوق المحلية بشكل مباشر، حيث يؤكّد الباحث الاقتصادي، وحيد الفودعي، لـ"خيوط"، أنّ تفاقم السياسات النقدية بين البنكين أدّى إلى تضارب وإرباك في السوق المالية، وتراجع ثقة المستثمرين في النظام المالي، وانخفاض قيمة العملة المحلية بشكل كبير؛ بسبب انخفاض الاحتياطات الأمنية، وارتفاع الطلب على العملة الصعبة.
وتسبّبت القرارات الأخيرة التي اتخذها مركزي عدن في إرباك المستثمرين، حيث تزايد تخوف المجموعات التجارية الكبيرة، ويشير الفودعي إلى أن مثل هذه القرارات لا تخدم استقرار الاقتصادي في البلاد، ولكنها تضع العراقيل أمام المستثمرين في الوصول إلى أموالهم وتحويلها؛ مما يعرقل عملياتهم التجارية، ويزيد من انعدام الثقة في النظام المصرفي المحلي، ويدفعهم إلى نقل أموالهم إلى البنوك الأجنبية الأكثر استقرارًا.
كانت منظمات أممية قد حذرت قبل إطلاق المبعوث الأممي مبادرته لاحتواء الأزمة بالحوار الاقتصادي، مما وصفتها بـ"العواقب الكارثية المحتملة" لقرار البنك المركزي في عدن، منبهة إلى أنّ هذه الخطوة تهدّد بمزيد من التفتت وإضعاف الاقتصاد اليمني المتعثر بالفعل.
كما حذّر أكثر من مسؤول أممي من التداعيات الخطيرة لهذه الإجراءات على عمليات الإغاثة الإنسانية، حيث إن البيئة المصرفية المتقلبة بشكل متزايد أدّت إلى تفاقم أزمة السيولة الحالية ومختلف الأنشطة الاقتصادية.
خلفية الأزمة تعود لبداية الحرب
لم تكن هجرة رؤوس الأموال وليدة اللحظة، لكنها زادت مع تعقد الوضع الاقتصادي والسياسي في البلاد، وانقسام المنظومة المالية والمصرفية، التي انعكست بشكل سلبي على بيئة ممارسة الأعمال في اليمن.
في السياق، يشرح رجل الأعمال، عمر عايض، وهو مستثمر ينشط في قطاع السياحة وقطاع الذهب، لـ"خيوط"، معاناتَه منذ اندلاع الحرب وزيادة الضغوط عليهم بصفتهم قطاعًا خاصًّا، والحصار الذي فرضته عليهم الحرب، بالقول إن الأوضاع زادت سوءًا بعد انقلاب الحوثيين ونشوب الحرب في العام 2015، حيث زاد التضييق الذي يتعرض له التجار والمستثمرون ورأس المال الوطني بشكل كبير من سلطة الأمر الواقع في صنعاء.
يضيف أنّ أهمّ مشكلة في هذا الجانب، وكانت من أهم العوامل المنفرة للأعمال ورؤوس الأموال، تمثلت بزيادة الجبايات والابتزاز والتضخم الكبير في أسعار السلع والخدمات، وعدم استقرار سعر الصرف، وانعدام العملة الصعبة من السوق المحلية، وصعوبة إجراءات التحويلات المالية؛ إذ أجبره هذا الأمر على نقل معظم أعماله إلى الخارج.
لم تقتصر مأساة رجال الأعمال والمستثمرين عليهم فحسب، فقد انعكست على جميع العاملين في القطاع الخاص كما يذكر عايض، إذ خسر 300 موظف كانوا يعملون معه لمصادر دخلهم في ظل الأوضاع المعيشية الصعبة التي يقاسيها اليمنيون.
في حين تحكي زينب محمد، لـ"خيوط"، نموذجًا يعكس واقعًا صعبًا يخلفه تراجع الاستثمار وتدهور الأنشطة الاقتصادية وهجرتها إلى الخارج؛ عن معاناتها بعد فقدانها مصدر دخلها الوحيد بعد إغلاق أحد المصانع في محافظة الحديدة أبوابه؛ وذلك بعد ما تشكّلت كثيرٌ من تفاصيل المعاناة على ملامحها، حيث تقول: "أصبحت الحياة أكثر صعوبة عليَّ وعلى أطفالي بعد فقدان والدهم في الحرب، وفقداني مصدر دخلي الوحيد؛ الأمر الذي دفعني إلى العمل في تنظيف البيوت والبيع في الشوارع، بعد أن كانت أوضاعنا ميسورة عندما كنت أعمل في المصنع".
تسرب الأصول المالية
غادرت العديد من الشركات والوكالات والمصالح التجارية والمراكز الاستثمارية المحلية والأجنبية اليمنَ بالتدريج منذ بداية الحرب، حيث سارع التجار والمسؤولون الكبار إلى إخراج أصولهم المالية التي تقدّر بمليارات الدولارات، إلا أن أحد المحاسبين المصرفيين -نأى عن ذكر اسمه- أكّد لـ"خيوط"، أنّ هذه الأرقام التي يتم تداولها لا يمكن التحقق منها، فقد تبدو أكبر أو أقل من ذلك، لأسباب عدة، أهمها: عدم كفاءة أداء أجهزة الإحصاء، وتسرب الأموال خارج المنظومة المالية والمصرفية، يحول دون الوصول إلى أرقام صحيحة.
تبعهم في ذلك الشركات المتوسطة والصغيرة، إضافة إلى النزوح الذي تسبّب بإغلاق الكثير من الشركات، حيث تشير المذكرة السنوية للاقتصاد القُطري في اليمن الصادر عن البنك الدولي، إلى مغادرة نحو 35 شركة نفطية مع انخفاض إجمالي الناتج المحلي بنحو 54% من نصيب الفرد، خلال الفترة (2015-2023).
بيئة العمل أصبحت صعبة وخطيرة وغير آمنة مع غياب دور مؤسسات الدولة في فرض الأمن والاستقرار وتفعيل القوانين النافذة التي تحمي الاستثمار ورؤوس الأموال، يأتي ذلك في ظل انقسام مؤثر -مع وجود نظامين مصرفيين وبنك مركزي برأسين وسعرين مختلفين لصرف العملة- على القطاع الخاص بشكل عام، الذي من الطبيعي في ظل هذه الأوضاع، أن يبحث عن بيئة آمنة لاستمرار أنشطته.
في هذا الخصوص، يؤكّد الفودعي أنّ تراجع الأنشطة الاقتصادية بسبب النزاعات المسلحة وتعرض البنية التحتية للدمار، أثر سلبًا على بيئة الاستثمار، في حين خلقت الحرب والصراع المستمر بيئةً غير مستقرة وغير آمنة للأعمال الاستثمارية؛ ما دفع الكثير من المستثمرين لنقل أموالهم إلى الخارج، بالإضافة إلى فرض قيود على التحويلات المالية والمصرفية؛ ما جعل من الصعب على المستثمرين التعامل مع الأموال بشكل فعّال داخل البلاد، والفساد الإداري أدّى إلى تآكل الثقة في المؤسسات المحلية والحكومية.
وتسبّبت سياسة الحوثيين في مناطق سيطرتهم، في زيادة الضغوط على رؤوس الأموال، خاصة بعد إجبارهم على التعامل مع ميناء الحديدة ورفع الرسوم الجمركية بنسبة 100%، إذ يلفت الفودعي إلى أنّ إجبار التجار على التعامل مع ميناء الحديدة يزيد من التكاليف اللوجستية والإجراءات البيروقراطية والرسوم على الواردات مع ضعف التزام السلطات الحوثية بالقوانين التجارية والمالية.
ويذكر تقرير صادر عن البنك الدولي نهاية يونيو/ حزيران الماضي، أنّ ضربات البحر الأحمر زادت من تكاليف الشحن وأقساط التأمين؛ ممّا وضع المزيد من الضغوط على رجال الأعمال والمستثمرين.
الحل في إنهاء الصراع
تسبّبت هجرة رؤوس الأموال في انخفاض الاستثمارات المحلية، ممّا أدّى إلى تراجع النمو الاقتصادي وارتفاع معدلات البطالة والفقر، وتفاقم الأوضاع المعيشية مع انقطاع الرواتب وارتفاع تكاليف المعيشة، مما جعل الكثير من الأفراد يعتمدون على التحويلات الخارجية لدعم أسرهم.
يقول علي إسحاق، مستثمر، لـ"خيوط"، إن بيئة العمل أصبحت صعبة وخطيرة وغير آمنة مع غياب دور مؤسسات الدولة في فرض الأمن والاستقرار وتفعيل القوانين النافذة التي تحمي الاستثمار ورؤوس الأموال التي تريد أن تقوم بدورٍ في مساعدة البلاد وتوفير الأعمال مع توسع الفقر والبطالة، لافتًا إلى تأثير الانقسام -بوجود نظامين مصرفيين وبنك مركزي برأسين وسعرين مختلفين لصرف العملة- على القطاع الخاص بشكل عام، الذي من الطبيعي في ظل هذه الأوضاع، أن يبحث عن بيئة آمنة لاستمرار أنشطته.
ويرى خبراء اقتصاد، أهمية التركيز على تعزيز الأمن والاستقرار، وإنهاء النزاعات المسلحة، وتحقيق الاستقرار السياسي، وتحسين البنية التحتية لإعادة بنائها وتطويرها لتسهيل الأعمال التجارية، إضافة إلى أهمية مكافحة الفساد وتبني سياسات شفافة ونزيهة لتعزيز الثقة في المؤسسات الحكومية، ودعم الاستثمار، وتوفير حوافز وضمانات قانونية للمستثمرين المحليين والأجانب.
إلى جانب العمل على توحيد السياسات النقدية والمالية بين مختلف المناطق لضمان استقرار النظام المصرفي، إذ يؤكّد الفودعي ضرورة أن تعمل الحكومة المعترف بها دوليًّا، بجدية على إيجاد حلول شاملة لإنهاء الصراع وتحقيق الاستقرار الاقتصادي، وكذلك التركيز على تعزيز التعاون الدولي للحصول على الدعم اللازم لإعادة بناء الاقتصاد وتحفيز الاستثمار الداخلي والخارجي، حيث إنّه لا يمكن تحقيق نمو اقتصادي حقيقي وبيئة مناسبة للاستثمار، ما لم يتم إنهاء الصراع وضمان وضع مستقر في البلاد.