حتى أولئك الذين يقودون اليوم تيارًا سياسيًّا مناهضًا للوحدة استطاع خلال السنوات الماضية شيطنة الحدث في وعي العامة وربطه بكل مشاكل أبناء المحافظات الجنوبية المتضخمة، بالتأكيد بعث فيهم يوم 22 مايو -وقت حدوثه قبل أربعة وثلاثين عامًا من اليوم- مشاعر جذلى بنوا عليها آمالًا عريضة لمستقبل بلد موحد يتشكل في ظرف دولي صعب، في وقت كانت تتشظى فيه بلدان كبيرة بفعل انهيار أوروبا الشرقية التي توحدت في معسكر اشتراكي قوي منذ منتصف أربعينيات القرن العشرين، وكانت جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية -الطرف الثاني في الوحدة- جزءًا من بنى العلاقات الحيوية معه في أزيد من عشرين عامًا، بفعل ثنائية الاستقطاب الذي شهدته سنوات الحرب الباردة.
قبل أن تكون الوحدة اليمنية مُعطى مؤثرًا في فكر وأدبيات الحركة الوطنية والسياسية، عملت تحت لافتاته في محطات التحول طيلة أربعين سنة، كانت في الأصل تجسيدًا هُوياتيًّا مكتمل الملامح لجغرافية مشتبكة وثقافة مذابة في وعي السكان في تاريخ اليمن المتعدد (القديم، والوسيط، والمعاصر).
ما قيل عن هروب سلطتَي الحكم، في الجنوب والشمال، إلى الوحدة في عالم مضطرب، مطلع تسعينيات القرن الماضي، هو واحدٌ من التخريجات السياسية المفخخة لقراءة الحدث والعواصف التي أحاطته، فقد كانت الوحدة شعارًا مركزيًّا تتربَّى عليه الأجيال في المدراس والجامعات وحلقات السياسة على نحو الشعار الذي رفعه الحزب الاشتراكي اليمني منذ "لنناضل من أجل الدفاع عن الثورة اليمنية وتنفيذ الخطة الخمسية وتحقيق الوحدة اليمنية".
ربما الاستعجال العاطفي غير المدروس في دمج الكيانَين، بدون تجاوز التناقضات في بنى السلطتين، واحدٌ من مشغلات الانهيار المتسلسل، وأتاحت لبنى السلطة القبَلية بتحالفاتها السياسية والدينية ومسنوداتها الإقليمية، الانقضاضَ على المكتسب، تقودها في ذلك غرائز التملك والاستحواذ.
استدعى تحالف المركز في صنعاء، ثارات عشرين عامًا، وألبسها شريك الحكم، وقاد معركةً رآها مقدسة لاجتثاث النظام الشيوعي من جنوب اليمن، بفتاوى شريكه الديني، وبدأت المعركة بتصفية كوادر الحزب والدولة في عملية ممنهجة لإضعافه، ثم أعقبها بسلسلة أزمات سياسية، ومنها الانقلاب على وثيقة العهد والاتفاق، التي وقّعت عليها جميعُ الأطراف في العاصمة الأردنية عمان في 20 فبراير 1994، قبل أسابيع قليلة من الاعتداءات على المعسكرات المحسوبة على الحزب في المحافظات الشمالية.
الوحدة باعتلالاتها السياسية وعقيلة الاستحواذ والنفوذ انتهت تمامًا، لكنها بوصفها فكرة وطنية كبيرة لمجابهة أخطار التشرذم والضعف، لا تزال الحاجة إليها قائمة عند أكثر اليمنيين، ويمكن تعزيزها في ظروف مواتية وشروط أفضل، أقلُّها الشراكة الحقيقية في السلطة والموارد ومعالجة المظالم وجبر الضرر.
كان اجتياح المحافظات الجنوبية، بعد ذلك، مرهونًا بضوء أخضر سعودي أمريكي، اشترط معه الجانبان أن تلتزم سلطة صنعاء بـ: تدمير ترسانة الأسلحة السوفيتية وأسلحة حلفائها الشرقيين في مخازن القوات الجنوبية، التي راكمتها لعقود بفعل التعاون الأمني والعسكري مع دول المعسكر الشرقي. وطمس العقيدة العسكرية للقوات الجنوبية، وتفكيك المنظومة الأمنية الثورية المرتبطة بسلطة الحزب، وتقعيد الكوادر الأمنية والعسكرية، وتخليص الجهاز الإداري من الكوادر التي يصعُب السيطرة عليها، وتوقيع اتفاقية حدود نهائية مع المملكة العربية السعودية بما هو قائم تحت سيطرتها الفعلية، وأخيرًا خصخصة القطاع العام وإعادة هيكلة المؤسسات، والمضيّ في برامج (إصلاح) يقترحها صندوق النقد والبنك الدوليين، بما فيها رفع الدعم عن السلع والخدمات والمشتقات النفطية.
والمتمعن في مثل هذه الشروط (غير المعلنة، والتي نفّذت بشكل كامل)، سيكتشف أنّ التآمر على الوحدة لم يكن فقط رغبة داخلية عند سلطة صنعاء بتحالفاتها الواسعة (القبَلية والدينية والسياسية)، بل كانت رغبة دولية وإقليمية لإضعاف الدولة الوليدة، وكانت سلطة صالح وحلفاؤها هي الأداة الطيّعة في ذلك؛ لأنّ الاستحواذ والتملّك (الضمّ والإلحاق) كان هو الذي يقطر توجهاتها، وليس التأسيس لمشروع وطني كبير، والدليل أنّ مؤسسات القطاع العام وفضاءات المجال الحيوي، وثروات البر والبحر، صارت ملكًا لأطراف تحالف الحرب والنافذين فيه، من بيت الأحمر (فرعي سنحان والعصيمات)، وحلفائهما القريبين من القيادات العسكرية والأمنية والدينية في حزب الإصلاح.
جرت مياه كثيرة في سنوات ما بعد حرب صيف 94، وزادت مظالم السكان الذين صودرت حقوقهم، ولم تُعِر السلطة المتغطرسة أيَّ اهتمامٍ بالصوت الذي بدأ برفع شعار تصحيح مسار الوحدة، بل عملت على شيطنته، قبل أن يتحول هذا الصوت إلى احتجاجات سلمية منذ مطلع يناير 2007، فضغطت الأجهزة أكثر على رموزه، لكنه حينما تحول إلى حراك جارف في الشارع، حاولت الترقيع بمبادرات، وكانت شعارات الاحتجاج قد سبقتها مطالبة بفك الارتباط (الانفصال)، ومنذ اجتاح تحالف الحرب الداخلي (الصالحوثي) المحافظات الجنوبية مطلع العام 2015، لإخضاعها بذات مزاج وطرائق حرب صيف 94، كانت الأمور قد تغيّرت تمامًا، إذ مكّنت التيار المُطالِب بالانفصال، من تثبيت أقدامه أكثر على الأرض، مسنودًا بإرث المظلومية المتعاظم.
الوحدة باعتلالاتها السياسية وعقيلة الاستحواذ والنفوذ انتهت تمامًا، لكنها بوصفها فكرة وطنية كبيرة لمجابهة أخطار التشرذم والضعف، لا تزال الحاجة إليها قائمة عند أكثر اليمنيين، ويمكن تعزيزها في ظروف مواتية وشروط أفضل؛ أقلها الشراكة الحقيقية في السلطة والموارد، ومعالجة المظالم وجبر الضرر، ولا مركزية الإدارة.