أصدر أنصار الله (الحوثيون) عبر مجلسهم السياسي وحكومتهم، في منتصف سبتمبر الماضي، قرارًا يحدّد الأهداف والمهام والاختصاصات العامة والتقسيمات التنظيمية الرئيسية لوزارة التربية والتعليم والبحث العلمي، وتضمن هذا القرار، ضمن ما تضمن، دمج مركز الدراسات والبحوث اليمني بمركز التطوير التربوي في إطار هيئة عامة للعلوم والبحوث والابتكار. أتبع الوزير مباشرة القرارَ بتفاصيل كثيرة جدًّا، مستوعبة في خمس صفحات، ولا يشبهه إلا برنامج حكومة!
ما يهم الجميع في هذا القرار، هو الإيغال أكثر في تدمير مؤسسات الدولة ورمزيتها التاريخية، فمركز الدراسات والبحوث اليمني الذي أنشئ في العام 1972، يعدّ أقدم مركز للدراسات في الجزيرة والخليج، وتعاقب على رئاسته شخصيات ثقافية وتنويرية؛ ابتداءً من الأستاذ أحمد جابر عفيف، مرورًا بالأستاذ أحمد حسين المروني، وصولًا إلى الدكتور عبدالعزيز المقالح، وتولى نيابة الرئاسة فيه شخصيات مرموقة، أمثال: الشاعر عبدالله سلام ناجي، والروائي يحيى بن علي الإرياني، والشاعر محمد حسين هيثم، وغيرهم، وعمل في دوائره خيرة عقول اليمن ومبدعوها، ولم يزل العديد منهم محسوبين على قوته الوظيفية، ولم تزل مكتبته -التي كبرت واستطالت طيلة خمسة عقود- تسدي خدمةً جليلة للباحثين والقرّاء حتى اليوم، في وقت تم فيه تدمير وتجريف كل المكتبات العامة.
إصدارات المركز المتنوعة والكثيرة طيلة أربعة عقود في التاريخ والثقافة والأدب والتراث والسياسة والاقتصاد، إلى جانب مجلته "دراسات يمنية"، وندواته الحيوية عن تاريخ اليمن المعاصر وثوراته المفصلية، تُحيلُ كلها إلى محطات عريقة في مسار التنوير الصعب الذي سلكه المركز وباحثوه الكبار.
عمل الباحثون في المركز طيلة سنوات مديدة، لانتزاع حقوقهم العلمية والمادية حتى يتساووا بأساتذة الجامعات، حسب قرار إعادة تنظيمه الصادر من مجلس القيادة رقم (23) لسنة 1975، الذي ربطه بجامعة صنعاء، وها هي القرارات الأخيرة تذيب شخصية المركز ووظائفه بمراكز أخرى، ويُلحَق بهيئة لم نسمع عنها، تتبع وزير التربية والتعليم. وبدلًا من العمل على انتشال المركز من وضعه الصعب وإعادته لأداء وظائفه، حسب القوانين واللوائح المنظمة لعمله، يتم إلغاؤه بالدمج، وكأنهم يريدون محو تاريخ طويل لواحدة من المؤسسات البحثية التي ارتبطت بمسار ثورتَي سبتمبر وأكتوبر وتاريخ الثقافة والفكر في اليمن. الخوف أن يتم تنفيذ هذا القرار دون أن تُرفع إشارة احتجاج واحدة من مثقفي وأدباء وأكاديميّي اليمن وباحثيه وناشطيه.
أَلَا يشفع مثل هذا التاريخ العريق لهذه المؤسسة بأن يتم الحفاظ عليها وتذليل كل المعوقات والصعاب التي تعترضها لتعود لأداء دورها التنويري؟ بكل تأكيد هذا الأمر لا يعني لا من قريب ولا من بعيد، سلطة الأمر الواقع في صنعاء، التي أصدرت مثل هذا القرار التجريفي الصاعق؛ لأنها باختصار، تملك إرثًا من الثأر الثقافي والتاريخي مع مؤسسات كهذه.
شخصيًّا، تربطني بالمركز وقياداته وباحثيه الأجلّاء، الأحياء منهم والراحلين، علاقة تمتد لأكثر من ثلاثة عقود؛ منذ كنت طالبًا جامعيًّا، وكانت مكتبته هي الحاضنة التي تشكل وعيي الطري بقضايا الأدب والثقافة، وكتابات باحثيه مصباحًا شديد الإضاءة لي عن الحياة وأحوالها.
في قاعته المركزية وقاعته الصغيرة، حضرت عشرات المؤتمرات والندوات، ابتداء من الحضور العفوي لجانب من جلسات المؤتمر العام الرابع لاتحاد الأدباء والكتّاب اليمنيين في العام 1987، وصولًا إلى احتضان قاعته الداخلية لاجتماعات فريق دراسة الآثار المتبادلة للهجرة اليمنية في 2020-2022، وبين التاريخين المديدين، شاركت بمؤتمرات اتحاد الأدباء السادس والسابع والثامن، والمؤتمر الثاني لحزب التجمع الوحدوي اليمني الذي انتُخبتُ عضوًا في أمانته العامة في سبتمبر 2006، وحضرت في قاعاته أيضًا ندوات عن سبتمبر وعن التسامح وعن أيام الشعر وتوقيع الإصدارات وتأبين الشخصيات، وغيرها من الفعاليات والمناشط التي يصعب حصرها في هذا المقال.
كان مقيل المركز الأسبوعي، الذي يتم برعاية أستاذنا الجليل الراحل، الدكتور عبدالعزيز المقالح، ويحضره كبار المثقفين والأدباء والسياسيون من اليمنيين والزائرون العرب والأجانب، واحدًا من عناوين صنعاء البارزة طيلة عقد التسعينيات وسنوات الألفية الأولى، حينما كانت واجهة مفضّلة لكثيرٍ من المثقفين والمفكرين والأكاديميين العرب، وأبواب جامعتها وغرف المركز مفتوحة للجميع. في ذلكم المقيل تشكّل وعي أبناء جيلي وحداثتهم الأدبية التي كانت تحظى برعاية خالصة من راعي المقيل، وفيها كنا نقرأ نصوصنا ونستمع لملاحظات الأساتذة الأجلّاء، وننتظر بتحفز شديد متى ستظهر منشورة في صفحة د. المقالح، في صحيفة 26 سبتمبر.
السؤال الآن
ألّا يشفع مثلُ هذا التاريخ العريق لهذه المؤسسة، بأن يتم الحفاظ عليها وتذليل كل المعوقات والصعاب التي تعترضها لتعود لأداء دورها التنويري؟ بكل تأكيد هذا الأمر لا يعني لا من قريب ولا من بعيد سلطة الأمر الواقع في صنعاء، التي أصدرت مثل هذا القرار التجريفي الصاعق؛ لأنها باختصار، تملك إرثًا من الثأر الثقافي والتاريخي مع مؤسسات كهذه.