يندر أن يكشف القارئ أو الناقد الجريء وغير المجامل بالأحرى في مقارباته لبعض الأعمال: عن اختلال واعتلال في طبيعة الزمن الروائي وبروز شخصيات قد لا تنسجم حركتها مع المكان والزمن السردي أو الفني المتعين وسياقاتهما في بنية خطاب ومتن السرد والثيمة الأساسية إجمالاً، حول طبيعة السرد وأسراره واستشكالاته أحايين. نستجوب هنا بعض الكتاب اليمنيين من المشتغلين بالسرود ومعاينة التجربة من الداخل بتقاطعاتها وتقنياتها في المتخيل السردي.
أحمد السلامي:
غياب الحبكة لا يلغي ظلال الحكاية
التي تشكل عماد السرد
يتحدث الكاتب اليمني أحمد السلامي صاحب رواية "أجواء مباحة" الصادرة أخيرا عن دار الآداب البيروتية 2024 حول مصير الحكاية في الرواية عمومًا حين تأتي بلا حبكة أحايين أو غالبًا. يقول: "إننا أمام تجريب في الكتابة ومقاربات لموضوعات يعكسها ما بات يشار إليه بالانفجار الروائي عربيًا، والذي يراكم سيولة يصعب معها مراقبة مدى احتكام الروائيين إلى خط سير أحادي في الكتابة أو قواعد ثابتة."
وهو إلى ذلك يؤكد رؤية "الاختلاف والتنوع في الخطاب الروائي العربي بما "يعزز من فرص الانفتاح على أساليب سردية تبتكر قواعدها وتشق طريقها إلى القارئ الذي بدوره أصبح منفتحًا على سرديات مقروءة وأخرى مرئية تتحدى ذائقته وتدرب وعيه على تفكيك الأحداث بعيدًا عن السرد التقليدي الذي يعتمد على البناء الأفقي للسرد."
في السياق نفسه يجد السلامي: "في الكثير من سيناريوهات الأعمال الدرامية الأجنبية التي تبثها المنصات الرقمية سقفًا عاليًا على مستوى التلاعب بالحبكة والزمن وبوسع المتلقي العربي: التعاطي مع هذا النمط دون أن يظل يبحث عن الحكاية والحبكة بشكلها البسيط."
بالإمكان تغيير هندسة النص ومعماره الحكائي، دون التباهي بالتجريب الذي يضع البعض في خانة من ينتجون روايات ليست للقراءة وإنما للتباهي بالتجريب الذي ينتج نصوصًا مغلقة، ولطالما صادفت أعمالًا من هذا النوع الذي ينتسب للرواية كما يظهر على الغلاف من حيث التجنيس لكنك لن تجد سوى كوابيس مكتوبة لا وجهة لها في سياق يمكن للقارئ العادي التعاطي معه
وحول غياب الحبكة في الرواية المعاصرة أو عدم بروزها فإن أحمد السلامي يرى أن ذلك "لا يلغي ظلال الحكاية التي تشكل عماد السرد، بل إن الكاتب ومثله القارئ يجد في تفكيك الحكاية وتمويه الحبكة تجاوزًا للأساليب السردية التقليدية ووسيلة لاستكشاف مداخل جديدة لجذب انتباه القارئ وجعله شريكًا في تفكيك وتركيب النص، دونما مبالغة في الاعتماد على تغييب الحبكة، ويرى: "أن على كل رواية أن تبتكر أسلوبها وسحرها والقدر الممكن من أسلوبها في نسج أحداثها ورويها للقارئ."
وتفيد هنا رؤية الكاتب السلامي التي تشخص نظرته عبرها وقراءته العميقة جوانب من خطاب وبنيات الرواية العربية إلى"أن البعض ينجح في دفع القارئ إلى الاستمتاع باستكشاف العالم الداخلي للشخصيات وإثارة التساؤلات الوجودية دون أن يلجأ إلى اصطناع الحبكة التقليدية، وإن كانت الرواية- كما يقول-:"لا تستطيع الاستغناء عما يجعلها رواية، "مشيرًا بحدس الناقد إلى"أن بالإمكان تغيير هندسة النص ومعماره الحكائي، دون التباهي بالتجريب الذي يضع البعض في خانة من ينتجون روايات ليست للقراءة وإنما للتباهي بالتجريب الذي ينتج نصوصًا مغلقة، ولطالما صادفت أعمالًا من هذا النوع الذي ينتسب للرواية كما يظهر على الغلاف من حيث التجنيس لكنك لن تجد سوى كوابيس مكتوبة لا وجهة لها في سياق يمكن للقارئ العادي التعاطي معه."
ويبقي الروائي أحمد السلامي"السؤال الذي يطرح ثنائية الحكاية والحبكة فاتحًا لشهية التساؤل بشأن جدوى الحبكة في عصرنا الذي يتداخل فيه الواقع والخيال، وهذه أيضا فرصة لتجاوز القوالب الجاهزة وخلق عوالم سردية تعيد صياغة مفهوم الحكاية وأسلوب عرضها."
أمين غانم:
قدرة الخيال
أكبر من افكار المؤلف
وحول تعثر طرق الحدث السردي ومساراته لدى الكاتب يقول الروائي اليمني أمين غانم: "لا توجد مسارات سرد، بالنسبة لي. بل تدفق حكائي مؤكد، أحيانا يتوقف وتنعدم اللحظة السردية، من تجربتي ينشأ أو يطرأ هذا النضب فجأة، ما يوحي للكاتب أن الرواية الحالية لن تتم وربما تتوقف."
وقال: "نحتاج للتوقف ولو لعدة أيام ونعاود الكرة مجددًا، سنجد أن تدفق السرد صار أكثر حيوية وأكثر تجليًا، وإن لم نجد شيئًا فعلينا أن ننتظر ونحاول."
وذكر في السياق أسبابًا نفسية مبهمة وغامضة موضحًا: "باعتقادي ثمة ارتدادات طفيفة مما نعيشه في حياتنا اليومية، لكنها برأيي ذات تأثير محدود، لهذا تبقى مسببات التوقف فنية وخيالية، منها أن النص لا يحتمل كثيرًا من المسارات ولا يمكن تحميله إضافات مباشرة، وهنا يكون فعلاً قد تم إفساد النص وقتله."
يتابع غانم: "عادة التدفق مكتمل الأركان الإبداعية أو بالأحرى شبه المكتمل أو الصادق بين هلالين لا يتوقف إلا لمامًا، لأن الخيال لا ينضب ومهما تشابكت المسارات يظل الخيار في قدرتنا على الاغتراف من حركة الخيال كأداة هائلة للخلق والابتكار."
ويرى غانم أن المؤلف بصفته كائنًا أعزل خارج النص يظل عاجزًا في كل الحالات سواء بأفكاره خارج النص أو بأسئلته الجوفاء، الحلول في استمرار القص وفي توقفها تبقى في ماهية الإبداع والموهبة وفي طبيعة ودوافع اللحظة الكتابية.
عليك أن تغيب وترجع للخيال وسوف تجد الجواب الشافي، فأحيانًا نعول على شخصية ما كي تكون ساردة رئيسة للنص في غالبية المشاهد لكننا نفاجأ بنضوبها بعد عدة أسطر، ما يؤكد لنا أن قدرة الخيال أعظم وأكبر من افكار المؤلف المجردة.
د. عبده المحمودي:
تداعٍ أدبي ورغبة
في تدوين التجارب!
وعما قد يبدو جهلاً أو تطفلاً لبعض المقبلين على كتابة الرواية، وما تكشفه عملية التلقي من فجوات وعثرات فادحة وعدم اتساق عناصر العمل السردي مع بعضها، قال الناقد الأدبي والباحث الأكاديمي في جامعة عدن عبده منصور المحمودي: "إن ذلك يأتي بصفته تداعيًا أدبيًا ورغبة في تدوين التجارب."
استسهال بعضهم هذا النوع من الكتابة وبذلك يقدمون على اقتحامه غير متسلحين بأدواته اللازمة. فهم لا يسعون إلى استيعاب المشهد الروائي وتحولاته، لا يقرأون ما يكفي من الإصدارات الروائية، لا يقفون على أهم ما ينبغي الوقوف عليه من رؤى نقدية في هذا المجال، ثم لا يزودون أنفسهم بالثقافة الخاصة بالموضوع الذي يشتغلون على كتابته
محيلاً إلى: "أن هناك كثيرًا من الاختلالات والإشكالات في بعض الكتابات الروائية. وهي إشكالات تؤشر ــ بدورها ــ على نوعٍ من الجهل والتطفل على هذا الجنس الأدبي، ومرجعًا إشكالات كهذه إلى واحد من سببين رئيسين، يتفرع كلٌّ منهما إلى سياقات مختلفة. السبب الأول، كما يرى كامن في استسهال بعضهم هذا النوع من الكتابة، لذلك يرغبون في التداعي مع ما يحظى به من اهتمام ملحوظ في العصر الحديث. وبذلك يقدمون على اقتحامه غير متسلحين بأدواته اللازمة. فهم لا يسعون إلى استيعاب المشهد الروائي وتحولاته، لا يقرأون ما يكفي من الإصدارات الروائية، لا يقفون على أهم ما ينبغي الوقوف عليه من رؤى نقدية في هذا المجال، ثم لا يزودون أنفسهم بالثقافة الخاصة بالموضوع الذي يشتغلون على كتابته."
ويذكر في السياق أن السبب الثاني يكمن في ما يمر به بعضهم من تجارب محورية في حياتهم؛ إذ تكون لهذه التجارب تداعياتها في تشكيل شخصية الفرد وبنيته الفكرية ورؤيته في الحياة، وهو ما يفضي إلى رغبته في تدوين تجربته، فيجد أن الكتابة الروائية هي أنسب الأجناس الأدبية لاستيعابها. وقبل أن يعمل على الإلمام بما يكفي من أدوات وآليات هذا الجنس الأدبي، يتداعى مع رغبته تلك، فيبدأ الكتابة، ويستدرجه فخ انسياب التدوين وتفاصيله حتى النهاية، فيخرج منقوصًا من كثيرٍ من العناصر الفنية التي تضفي على عملية التدوين صفتها الروائية."
و يعزز المنصوري وجهة نظره "كون هذين السببان عاملين رئيسين في ما يظهر من اختلالات وفجوات في كثيرٍ من الإصدارات الروائية. وعلى اختلافهما، إلّا أن المعضلة تكاد تكون واحدة فيهما، ويقصد بـ"المعضلة" هنا: "تلك المتعلقة" بعدم التزود بما يكفي من الأدوات والثقافة الكتابية التي لا يمكن أن تتشكل إلّا بعد وقت كافٍ من القراءة والتأمل والاستيعاب المتكامل لمشهد الكتابة السردية والروائية منها بوجهٍ خاص."