مع انفجار ثورة السادس والعشرين من سبتمبر تبدل الحال في مدينة عدن، ومثل مئات الطلاب والعمال والموظفين في الشركات والدوائر، غادر محمد علي مقبل المدينة بعد وقت قصير إلى تعز، ولم يكن مخططًا أنه سيلتحق بالحرس الوطني الذي تشكل من المتطوعين الشبان للدفاع عن الثورة والجمهورية، وإنما للبحث عن فرصة جديدة للتعلم، والذي تذوق حلاوته في مدرسة بازرعة الخيرية التي التحق بها في العام 1956م، ويقول عن ذلك:
"انقلب كل شيء رأسًا على عقب في أرجاء عدن، كان المواطنون في المطاعم والمحلات التجارية يتحلقون حول أجهزة الراديو يستمعون إلى إذاعة صنعاء، يستمعون إلى البيانات الأولى للقيادة العامة للجيش تدعو جماهير الشعب اليمني في كل مكان إلى مؤازرة الثورة والدفاع عنها، ودعوة الشباب للالتحاق بالحرس الوطني وجيش الثورة.
فاضت شوارع عدن بالمسيرات الجماهيرية، تعلن تأييدها للثورة وتهتف للجمهورية والحرية وانتصار إرادة الشعب على الظلم والاستبداد والعبودية؛ وترفع أعلام الجمهورية وصور المشير عبدالله السلال والزعيم جمال عبدالناصر.
"كان حلمي وأملي كشاب أيامذاك، أن أتعلم وأن أكمل دراستي، ولعل أكثر ما حفزني لذلك رسالة استلمتها من ابن خالي الذي كان يعمل في النقطة الرابعة، حيث طلب مني ضرورة الالتحاق به لتسجيل نفسي في منحة دراسة للخارج" (ص23-24).
لكنه بعد وصوله إلى تعز اكتشف أن باب التسجيل قد أقفل، وأن الذين سجلوا مبكرًا قد غادروا إلى مدينة الحديدة، وقد صاروا في عرض البحر متجهين إلى مدن الجمهورية العربية المتحدة (مصر)، وكان من الصعب عليه العودة مرة أخرى إلى عدن، التي غادرها دون أن يُشعر أحدًا من أقربائه فيها، لهذا لم يكن أمامه سوى التوجه –مع بعضٍ من أهل منطقته– إلى مكتب الحرس الوطني في منطقة عصيفرة للتسجيل ضمن مئات المتطوعين الجدد القادمين" من أرياف ومدن الشمال والجنوب مندفعين بحماس لتلبية نداء الثورة والجمهورية، وهم في حالة بهجة وفرحة بهذا الحدث الوطني الكبير الذي تفجَّر في بلادهم، وغيَّر وجه الحياة وفتح أمامهم الأبواب" (ص25).
لم يستمر تدريبهم في حقول عصيفرة –على استخدام السلاح وبعض المعارف البسيطة– غير أيام قلائل، ثم شحنوهم على سيارات عسكرية وسيارات نقل بضائع إلى صنعاء، التي وصلوها بعد يومين كاملين بسبب وعورة الطرق وبدائية وسائل النقل التي أقلتهم.
لم يبقَ في صنعاء طويلًا، غادرها إلى الحديدة برفقة بعضٍ من أهل قريته، القادمين من عدن لاستكشاف فرص استثمارية في المدينة، ومن الحديدة عاد مرة أخرى إلى تعز، للعمل مع خاله الذي كان يمتلك محلًّا تجاريًّا في شارع 26 سبتمبر.
صنعاء التي وصلها في ذروة الشتاء برققة الإعلامي المعروف عبدالقادر الشيباني وآخرين، يستعيدها اليوم:
"تجولنا معًا في أسواق مدينة صنعاء بحثًا عن مطعم كي نتناول فيه طعام الغداء فلم نحصل على مطعم في المدينة، وحينما سألنا عن أي مطعم يتواجد في السوق دلنا أحد المواطنين على منزل في صنعاء القديمة، وتغدينا مع مجموعة أخرى من الناس في مائدة شعبية، وكان على كل فرد منا أن يدفع ثماني أو عشر بقش [جزء من عملة الريال الذي كان يساوي أربعين بقشة] مقابل الوجبة المؤلفة من: (السلتة، والشفوت، واللحم، وبنت الصحن).
لم تكن في صنعاء وقتها مطاعم حديثة أو فنادق أو استراحات أو مقاهٍ، هذا التصوير لحال المدينة نقله الراحل حسين السفاري الذي وصلها بالفترة ذاتها تقريبًا، حين قال:
"صارت المدينة قبلة للثوار والحالمين، في وقت لم يكن فيها فندق للإقامة عدا سماسر (نُزُل) المدينة القديمة بأوضاعها المزرية، ولم يكن بها مطاعم، لكنها بدأت رويدًا رويدًا تتعصرن مع صعود رؤوس أموال بعض التجار اليمنيين من عدن إليها، فنشأت الفنادق والمطاعم والمباني الحديثة في المنطقة الواقعة بين منطقة شرارة (ميدان التحرير) وسور المدينة القديمة، وصارت تعرف لاحقًا بشارع علي عبدالمغني. وصارت في أدبيات الدراسات الاجتماعية والتاريخية تعرف بمدينة صنعاء الجديدة، بعماراتها الأسمنتية وشرفاتها الواسعة، التي تختلف كلية عن نمط العمارة الصنعائية التقليدية والمشيدة بالطين المحروق، والنورة والجص" (ينظر كتاب حياة تملحها الحكايات – حسين السفاري وأيامه 2021).
لم يبقَ في صنعاء طويلًا، غادرها إلى الحديدة برفقة بعضٍ من أهل قريته، القادمين من عدن لاستكشاف فرص استثمارية في المدينة، ومن الحديدة عاد مرة أخرى إلى تعز، للعمل مع خاله الذي كان يمتلك محلًّا تجاريًّا في شارع 26 سبتمبر، وينقل إليه البضائع بسيارته الخاصة من عدن.
وبمجرد قراءته لإعلان في جريدة الجمهورية ذات صباح من صيف 1963، ستنقلب حياته رأسًا على عقب؛ لأن هذا الإعلان كان يتصل بمنح دراسة إلى مصر، فتقدم إليها بشهادات مدرسة بازرعة الخيرية، مدفوعًا برغبته في التعلم، فتم قبوله مع مجموعة من الطلاب، ونُقلوا إلى صنعاء وأدخلوهم مدرسة الإشارة، وهنا كانت المفاجأة له، فالدراسة التي سيتلقاها عسكرية وليست مدنية، وبعد شهر من التدريب، يغادر مع بقية الطلاب إلى السويس عن طريق البحر ومنها إلى القاهرة، التي ستتكشف له كمدينة عصرية، ومنارة حضارية يمتد تأثيرها بعيدًا في الوطن العربي.
بعد استكماله لدراسة الإشارة، عاد إلى صنعاء ومنها إلى تعز، حيث التحق في المركز الحربي الذي كان وقتها أحد أهم المؤسسات العسكرية حيوية، وبه العديد من الشخصيات التي كان لها الدور المؤثر في الحياة السياسية، كما يشير إلى ذلك الأستاذ سلطان زيد في كتابه (محطات من تاريخ حركة اليسار في اليمن "تجربة خاصة" 2020)، حين قال: "ووصل حينها إلى تعز أيضًا من كانوا يوصفون "بالحُمر" أصحاب الهامات المرتفعة ذات الوزن والثقل الثقافي والفكري، وهم: الجاوي عُمر، والسقاف أبوبكر، وعبدالله حسن العالم، وحسين السقاف، من موسكو، تاركين دراستهم وملتحقين بمسار موكب الثورة، ومدها بكوادر من الشباب مثلهم مثل شباب البعث يحيى الشامي، وسيف أحمد حيدر، الذين وصلوا من القاهرة. كان يقوم الجاوي ورفاقه بمهمة الترجمة للخبراء السوفييت".
في مارس 2007، طلب منه رئيس الجمهورية علي عبدالله صالح ترشيح نفسه لعضوية مجلس النواب عن الدائرة 15 في أمانة العاصمة ممثلًا للمؤتمر الشعبي، قبل شهر واحد من إجرائها، في منطقة لا يربطه بها غير موقعه على راس شركة الأدوية.
بعد المركز الحربي التحق بالكلية الحربية، التي تخرج منها بعد ستة أشهر في العام 1965م (تخصص سلاح الإشارة)، وتنقل، بحكم تخصصه، بين الكثير من المواقع في مدن الحديدة وتعز وصنعاء وإب وغيرها من المدن، وفي ديسمبر 1967م، انتدب من سلاح الإشارة للعمل مديرًا للتوجيه المعنوي بتعز، وبعد فك الحصار عن صنعاء "الذي مثَّل انتصارًا كبيرًا لإرادة الصمود والمقاومة للجمهوريين" ذهب مع وفد من التوجيه المعنوي إلى دمشق "للاطلاع على تجربة التوجيه المعنوي في الجيش السوري والاستفادة من خبراتهم"، وهناك التحق بدورة عن الحرب النفسية والتوجيه المعنوي لمدة ستة أشهر، وبعد عودته عمل نائبًا لمدير دائرة التوجيه المعنوي للقوات المسلحة اليمنية، ثم رئيسًا لها في العام 1970م.
في أواخر 1972م، رُشَّح في منحة للدراسة في أكاديمية الطب العسكري في مدينة لينينجراد "سان بطرسبرج" في دولة الاتحاد السوفيتي سابقًا، فوجدها مناسبة للهروب من ضغوط سياسية كبيرة تعرض لها بسبب تنازعات مراكز القوى في صنعاء، ويقول عن ذلك:
"وجدت نفسي أمام خيارين؛ إما الموافقة على هذه المنحة، وإما البقاء والعمل في ظل الأجواء المشحونة بالتوتر، وكان خيار الموافقة على الدراسة من وجهة نظري هو الأفضل لي ولمستقبلي" (ص 71).
أكمل الدراسة في العام 1979م، ليعود للعمل في المستشفى العسكري بصنعاء في قسم الأمراض الجلدية، قبل أن يذهب للتخصص العلمي في العام 1984م، في مدينة خاركوف السوفيتية، وبعيد عودته انتُخب نقيبًا للأطباء والصيادلة في فرع النقابة بصنعاء حتى العام 1987م.
بعد انتخابات مجلس الشورى في صيف 1988م، تم تعيينه وزيرًا للصحة في حكومة عبدالعزيز عبدالغني، وهو الموقع الذي شغله أيضًا في حكومة الوحدة الأولى التي رأسها المهندس حيدر العطاس، حتى انتخابات أبريل 1993م؛ بعدها تولى موقع رئيس الدائرة الإعلامية لحزب المؤتمر الشعبي العام ورئيسًا لتحرير صحيفة الميثاق، قبل أن يصدر قرارًا بتعيينه رئيسًا للشركة اليمنية للأدوية.
في مارس 2007، طلب منه رئيس الجمهورية علي عبدالله صالح ترشيح نفسه لعضوية مجلس النواب عن الدائرة 15 في أمانة العاصمة ممثلًا للمؤتمر الشعبي، قبل شهر واحد من إجرائها، في منطقة لا يربطه بها غير موقعه على راس شركة الأدوية، وكان عليه تنفيذ الأمر ليكتشف الكثير من الخفايا، أجملها في سياق طويل، نجتزئ منها ما يلي:
"واجهت خلال العملية الانتخابية مشاكل عديدة، كان أهمها: عدد كبير من المرشحين المنافسين، والذي بلغ عددهم حتى يوم الاقتراع 28 مرشحًا، وأغلبهم من أعضاء المؤتمر في الدائرة إلى جانب منافسين من حزب الإصلاح ورئيس حزب الرابطة عوض البترة، الذي كان صديقًا عزيزًا فعاتبته عتابًا شديدًا، قلت له:
- لماذا نزلت مرشحًا للرابطة وأنا صديقك، كان يفترض أن تنسق معي أو تتصل بي لأخذ رأيي؟
أجاب عليَّ: والله يا دكتور محمد، إن الرئيس هو الذي كلفني بالنزول، فقلت له: الدكتور محمد صديقي وهو مرشح المؤتمر. قال لي الرئيس: الدكتور ليس منا، الدكتور (يساريّ)".
(**)
هذه المقاربات السريعة كانت لأهم محتويات الكتاب السيروي "الماضي المقلق من العمر" للدكتور محمد علي مقبل، الصادر مؤخرًا بصنعاء. ما يميز النصّ إجمالًا بساطتُه وتلقائيته، ومحاولة كاتب السيرة أن يكوّن إضاءات كثيفة وسريعة على محطات من رحلته في الحياة، بالرغم من أن أحداثًا مهمة تلازمت بالسيرة لم يتوقف عندها طويلًا، وكانت بحاجة إلى ذلك؛ لاستجلاء الكثير من حقائقها المغيبة، مثل حصار السبعين وأول حكومات دولة الوحدة، أو لم يقاربها أصلًا، مثل حرب صيف 1994م.
انقلاب 13 يونيو الناعم، وحقبة الرئيس الحمدي بتميزها وحيويتها لم تقارب في الكتاب أيضًا، ربما لأن الفترة التي قضاها طالبًا في لينينجراد بين 1973 و1979م حجبت عنه تفاصيلها، فأعفته من الخوض فيها.