يعد اكتئاب ما بعد الولادة من أكثر التحديات والمصاعب التي تواجهها النساء عامة، ونساء الأرياف في اليمن على وجه الخصوص، منها نساء أرياف محافظة شبوة (جنوب البلاد)، حيث يعد تأثيره أكبر عليهن؛ بسبب افتقار الناس للوعي الكافي بهذا المرض.
عند تسليط الضوء على حياة النساء الريفيات، نجد الاستبسال والعزيمة تظهر على ملامحهن وأحاديثهن، عندما يتباهين بإنجازاتهن اليومية، زوجات وأمهات ونساء عاملات في المنازل وعند المواشي، وحتى في الأرض. لكن كل ذلك لا يشفع لهن عندما يقعن في فخ المرض، وخاصة اكتئاب ما بعد الولادة.
حيث لا يكون هناك ظاهر جلي لمرض معين، يعجز المجتمع عن تفسيره كما يعجز عن تفسير الأمراض النفسية في الغالب؛ لقلة الوعي أو عدم الإيمان بها. غير أن هذه المجتمعات ترفض هذه الحالات المرَضية رفضًا قاطع، وتحيلها إلى أسباب أخرى، كالمس والعين، وفي أبسط الأحوال الكسل والدلال. ومن ثم تنتج العديد من المشكلات التي تنتقل من الأم ثم إلى الأبناء والزوج، وربما يتسع نطاقها إلى نهاية مؤسفة.
قلة الوعي والخجل الاجتماعي
يؤدي التثقيف المجتمعي بالأمراض المتعلقة بالصحة النفسية والإنجاب دورًا كبيرًا في فهم المجتمع للحالة التي قد تصل إليها الأمهات أثناء فترة الحمل، ولا سيما ما بعد الولادة. إذ إن الوعي والمعرفة بوضع الأم النفسي والجسدي يكاد يكون صفريًّا من خلال ما يظهر من انعدام الوعي في تقييم مبدئي لما تمر به الأم المصابة باكتئاب ما بعد الولادة، وإحالتها إلى الجهات المختصة، مثل أقسام طب النساء والطب النفسي.
ما زال المجتمع اليمني، إضافة إلى مشكلة قلة الوعي باكتئاب ما بعد الولادة، والأمراض النفسية عمومًا، يعاني من ضعف البنية التحتية الخاصة بمراكز الرعاية الصحية الطبية؛ هذا ما شكل معاناة كبيرة على النساء في الأرياف، ولا سيما محافظة شبوة التي تعيش على طبيب نفسي واحد في مدينة عتق، وهذا ما يشكل عبئًا على النساء الباحثات عن أجوبة لما يعانين منه.
غير أن الإنكار الذي يظهر في تعاطي المجتمع مع إصابة الأمهات باكتئاب ما بعد الولادة محبط، حيث يتم تجاهل العلاج النفسي واتباع طرق شعبية عوضًا عنه، وهذا ما قد "يزيد من الطين بلة" وتوسع دائرة المعاناة؛ بسبب عدم فعالية العلاجات الشعبية. علمًا أن اكتئاب ما بعد الولادة هو نوع من أنواع الاكتئاب، يحدث خلال أسبوعين إلى ثمانية أسابيع بعد الولادة، ولكن قد يستمر ويصل إلى سنة إذا لم يتم التعامل معه بجدية.
يقول الاختصاصي النفسي زكريا الصنوي، لـ"خيوط": "قليلات جدًّا النساء اللواتي يحصلن على العلاج ويقمن بزيارة الطبيب النفسي، وذلك بسبب العادات والتقاليد وقلة الوعي بالصحة النفسية والعلاج النفسي، بالإضافة إلى تخوف الناس من كلام الآخرين، كأن يقول الناس: "فلان زوجته مريضة نفسيًّا أو فاقدة لعقلها". بالإضافة إلى هذا، تُشكّل العادات والتقاليد ضغطًا من نوع خاص على النساء في تكوين آرائهن وتجاربهن الخاصة، ومن الدارج أن تتردد النساء في طلب المساعدة؛ درأً لثقافة العيب والسخرية.
حياة كالجحيم وعنف نفسي
تعزل الحياة النساء في الأرياف وتأخذهن بعيدًا عن استيعاب أنفسهن وما يطرأ على أجسامهن من تغيرات جسدية ونفسية، منذ البلوغ إلى أن يصبحهن أمهات، فضلًا عن أن خوضهن العمل في المنزل ومتابعة شؤون البيت، وفي المزارع، يستقطع الكثير من أوقاتهن ووعيهن، وهو ما يجعلهن في مواجهة مباشرة مع اكتئاب ما بعد الولادة وخوض حروب شرسة مع العدو الذي لا يعرفن في الغالب من يكون، وإن عرفن لا يتم أخذ ما يطرأ عليهن على محمل الجد لدى من يعيشون معهن.
أم معتز (اسم مستعار)، تقول لـ"خيوط": "لم تكن فترة حملي سهلة من الناحية النفسية، كنت قد مررت بضغط من أسرة زوجي، حيث كانوا مصرّين على أن أحمل من بداية الزواج، لكن هذا الأمر تأخر بضعة أشهر، ما أوقعني بمشاكل وتعييب يمسني بشكل شخصي، لم يلتفت أحد لتشخيص دكتورة النساء التي أخبرتنا أن كل شيء على ما يرام، وأنها مسألة وقت ليس إلا، ثم عندما حملت كنت أتعب كثيرًا نتيجة الحمل وأعمال المنزل الشاقة التي لم يشفع لي حملي في تخفيفها".
تضيف: "جعلني هذا تحت ضغط نفسي وجسدي كبير، فترة كرهت فيها كل شيء حتى نفسي. لذلك، بعد الولادة المتعسرة التي مررت بها، كنت لا أتصور أن أعود إلى منزل عائلة زوجي، وتعاد حياة الجحيم مرة أخرى، فوجدتني بلا قدرة على كبح الشعور المظلم الذي اجتاحني ولم ينفك مني حتى طلبت الانفصال". وتضيف أم معتز: "وهذا ما تم بالفعل بعد نزاع طويل، تمنيت أن يتحول إلى تفهم ومراعاة حتى أتجاوز ما أشعر به، لكن على العكس تمامًا؛ لم يتفهمني زوجي وعائلتي وعائلته، وصرت في نظر قريتي مغرورة لا تشكر النعمة".
أما الدكتورة عهد الخضر، اختصاصية نساء وولادة، فتقول في هذا الخصوص لـ"خيوط": "لا توجد علاقة بين فترة الحمل والاكتئاب النفسي بعد الولادة، الأعراض التي تأتي خلال الحمل تكون بسبب هرمون الحمل، أما ما بعد الولادة فقد يكون بسبب النزيف خلال الولادة، وهو أول ما نفكر فيه".
وتستدرك الخضر بالقول: "العنف الجسدي والنفسي الذي تتعرض له الأم المصابة باكتئاب ما بعد الولادة أو حتى الأم الحامل، يضطرنا إلى أن نقوم بتحويلها للطب النفسي؛ لأنه ليس بمقدرتنا أن نقوم بمساعدتها. يمكن أن نستمع لها في البداية إن كان يمكن استدراك الأمر؛ كون المريض عمومًا نصف علاجه هو أن يجد من يستمع له بتفهم، ويعطيه نصائح إرشادية ليس إلا".
صعوبة الحصول على الرعاية
ما زال المجتمع اليمني -بالإضافة إلى مشكلة قلة الوعي باكتئاب ما بعد الولادة، والأمراض النفسية عمومًا- يعاني من ضعف البنية التحتية الخاصة بمراكز الرعاية الصحية الطبية؛ في المدن دون القرى التي تعاني من انعدام المراكز الصحية بشكل شبة قطعي.
هذا ما شكّل معاناة كبيرة على النساء في الأرياف، ولا سيما محافظة شبوة، التي لا يوجد بها سوى طبيب نفسي واحد في مدينة عتق، وهذا ما يشكّل عبئًا على النساء، ويضطرهن إلى السفر لمحافظات يمنية أخرى، للبحث عن أجوبة لما يعانين منه.
من الواضح أن المشكلة لا تعني النساء بشكل خاص، وإن كانت تمسهن بصورة أكبر، ولكن هي بالصورة العامة مشكلة المجتمع اليمني بأكمله، والأرياف تحديدًا، حيث إن الصحة النفسية لم تؤخذ بجدية لدى الجهات المختصة، وتضاعف ذلك الإهمال بسبب الحرب الدائرة منذ ما يزيد على عشرة أعوام.
بالمقابل، لا تتوفر دائمًا رفاهية تلقي الكشف والعلاج، فهناك من لا يزال يعتمد على العلاجات الشعبية والخرافات لحل ما يصيب المرأة التي تعاني، ويتركها حبيسة للأسئلة التي لا تنتهي، منها السؤال الذي كانت سمر محمد تسأله نفسها، حسبما قالت لـ"خيوط": "عندما أدركت بأني لست طبيعية وأنهيت كل الأعشاب والعلاجات الروحانية التي وصفها لي (الشيخ) الذي ترددت عليه ليعالجني، قلت لنفسي: هل هذا الشعور ليس له نهاية، وهل الموت بدأ يدنو مني؟".
تتابع: "مرت فترة طويلة كنت فيها لا أنام الليل من خوفي، ولا أحب طفلي وزوجي، لكن عندما جاءت أختي من الغربة في زيارة صيفية ورأت حالتي عن قرب، أصرت على أن تأخذني إلى المكلا؛ حيث يوجد هناك طبيب نفسي".
تضيف سمر: "كان الطريق ست ساعات من مدينة عتق إلى المكلا، ذهبت طوال الطريق وأنا شخص، وعندما عدت كنت شخصًا آخر يعرف تمامًا ما أصاب روحه، كان حل مشكلتي فقط بالمتابعة مع مختص نفسي، وأختي أيضًا حلت هذه المشكلة عندما تابعت مع مختصة في محافظة أخرى بالتواصل "أونلاين"، بمواعيد ثابتة أسبوعية ثم نصف شهرية. فادني ذلك كثيرًا، وأنا اليوم بخير".
سؤال جاد للمنظمات الإنسانية
من الواضح أن المشكلة لا تعني النساء بشكل خاص، وإن كانت تمسهن بصورة أكبر، ولكن هي بالصورة العامة مشكلة المجتمع اليمني بأكمله، والأرياف تحديدًا، حيث إن الصحة النفسية لم تؤخذ بجدية لدى الجهات المختصة، وتضاعف ذلك الإهمال بسبب الحرب الدائرة منذ ما يزيد على عشرة أعوام.
ولكن أيضًا هناك سؤال جاد حول غياب المنظمات الإنسانية التي تعمل في مجال الصحة الإنجابية، التي يغيب دورها كثيرًا، ولا شك أن اكتئاب ما بعد الولادة لم يأخذ اهتمامه من هذه الجهات، على الرغم من أنه يفتك بحياة الكثيرات.