خلف أحد صناديق الدفع (الكاشير)، في (مركز تبارك التجاري) -أحد أكبر المراكز التجارية في مدينة المكلا- تقف الشّابة خلود عبدالله (22 عامًا)، بكلِّ كفاءةٍ وجدارةٍ واقتدارٍ؛ لتحاسب المشترين من زبائن المركز. خلود التي ما زالت تدرس في كلية الآداب بجامعة حضرموت، تعمل منذ سنة كاملة بدوامٍ جزئيٍّ في (تبارك)، مدفوعةً بتشجيع والدها لها للعمل. وبالفعل، فقد "قدّمت خلود نموذجًا مثاليًّا للشّابة الحضرمية العصامية المكافحة، وتمكّنت من إثبات وجودها، وساهمت في تغيير الصورة النمطية عن عمل النّساء في بعض المِهَن غير التقليدية، التي كان يراها مجتمعنا الحضرمي حصرًا على الرجال فقط دون غيرهم"؛ كما يقول رشدي بن هرهرة، وهو مسؤول شؤون الموظفين في مركز تبارك. ويضيف لــ"خيُوط"، قائلًا: "أغلب المجتمع تقبّل هذه الخطوة التي قُمنا بها في المركز وباركها، حتّى إنّ كثيرًا من الزّبائن أثنوا عليها كونها فتحت أبوابًا للرزق لعددٍ من الفتيات، لا سيما أنّ المركز اليوم باتَ يضم أكثر من 22 فتاةً أخرى تعمل في أقسامه المختلفة".
تبدل نظرة المجتمع
مؤخرًا، وبعد إقبال عددٍ متزايدٍ من النساء والفتيات على العمل في مِهَنٍ وأعمال من قبيل (البائعات/ الكاشيرات/ مسؤولة الأمن) في الأسواق والمراكز التجارية الكبرى، والصّيدليات، ومراكز البصريّات وبيع النّظارات، ومحلات بيع أدوات التّجميل وغيرها، ونتيجةً للعادات الاجتماعيّة الضّارِبة بجذورها، تزايدت ردود الأفعال المؤيدة منها والمعارضة بين أوساط المجتمع في مدينة المكلا. ووفقًا لمصطفى نصر، رئيس مركز الدراسات والإعلام الاقتصادي اليمني SEMC، متحدثًا لــ"خيُوط": "هناك عددٌ من الأسباب التّي تقف وراء هذا التّحول، منها: تغيّر نظرة المجتمع لعمل المرأة، ومحاولة دمجها وإشراكها في العملية الاقتصادية الإنتاجيّة، وهو ما أدّى بدوره إلى تحوّلٍ في أنماط الحياة الاجتماعية للأُسر في حضرموت، إلى جانبِ أسبابٍ أخرى مرتبطة بالأوضاع المعيشية الصعبة التّي تمرُّ بها البلاد بأَكملها".
كان من النّادر جدًّا قبل ثلاث سنوات أن تُصادف فتاةً أو امرأةً تعمل في مثل هذه الأعمال في مدينة المكلا، ويعدّون هذه الظّاهرة أحد إفرازات عمالة الوافدين القادمين من المملكة العربية السعودية جرّاء الرسوم الضريبيّة الحكومية التّي فُرضت عليهم منتصف العام 2017.
وتصِف الدكتورة/ ليلى محمّد (29 عامًا، بكالوريوس صيدلة)، التي تعمل في صيدلية البراء في قلب مدينة المكلا، وضعَها هي ومثيلاتها لــ"خيُوط"، قائلةً: "للأسف نحنُ وقعنا ضحيّةً، بين سندان مجتمع محافظ يرفض مثل هذه الأفكار الجديدة عليه؛ كونها فقط تتعلّق بالمرأة وعملها، وبين مطرقة البطالة والفقر وتوقف الأعمال، وهذا ما أثقلَ كواهلنا في ظل ظروف اقتصادية لا ترحم، وغيابٍ لأيِّ بوادر أو حلول من الدولة لانتشالنا مما نحنُ فيه اليوم". ولهذا فإنّها تُرجِع السبب الرئيس لارتفاع عدد العاملات من النّساء إلى حاجتهن المادية الماسّة، فيما يراه آخرون أنّه انتصارٌ كبير ونجاح متقدم في كسرِ الحواجز والأعراف الاجتماعية.
غيرَ أنّ مجموعةً أخرى من هؤلاء النساء، يلخّصن دوافع عملهن بقولهنّ: "أليست المرأة نِصف المجتمع، فكيف يكون الحال إذا كان النصف عاطلًا عن العمل؟! دعونَا نعمل معًا؛ لأننا دومًا ما نُمثِّلُ رقمًا صعبًا في مجتمعاتنا"؛ كما تقول أحلام عنبر (31 عامًا)، وهي أُمٌّ لطفلين، وتحمل درجة البكالوريوس في إدارة الأعمال، وتعمل بائعةً في أحد محلات أدوات التّجميل في مدينة المكلا. وتواصل حديثها لـ"خيُوط": "العمل متعب وشاق بالنسبة لنا نحن النساء، خصوصًا في ظلّ وجود التزاماتٍ أُخرى علينَا كربات بيوت، وأُمّهات، لكنّه جميل في نفس الوقت؛ لأَنَّهُ يوفّرَ استقرارًا ماليًّا، ويمنعنا ذُلّ السُّؤال". وتختم أحلام حديثها: "أنا متفقة مع زوجي بخصوص كل تفاصيل عملي، ويُبدي في هذا الجانب احترامًا وتفهّمًا كبيرَين، ويؤمن بأنّ عملي مكمّل من النّاحية الاقتصاديّة لدخل أُسرتنا، التّي أصبحت متطلباتها تفوق دخل زوجي مُنفرِدًا، بسبب سُوء الأوضاع الاقتصاديّة".
وترى شريحة واسعة من المجتمع بأنّه كان من النّادر جدًّا قبل ثلاث سنوات أن تُصادف فتاةً أو امرأةً تعمل في مثل هذه الأعمال في مدينة المكلا، ويعدّون هذه الظّاهرة أحد إفرازات عمالة الوافدين القادمين من المملكة العربية السعودية جرّاء الرسوم الضريبيّة الحكومية التّي فُرضت عليهم منتصف العام 2017. ويُوافِق هذا الرأي أيضًا أستاذ علم الاجتماع بجامعة حضرموت، الدكتور/ محمد بن جمعان، منوهًا في حديثٍ لــ"خيُوط" بأن: "السّبب الرئيس لتقبّل المجتمع، إلى حدٍّ كبيرٍ، لهذه الظاهرة هو مرحلة القَبول والنُّضج التي وصل لها، والوعي بضرورة مشاركة المرأة في العمل مع الرجل جنبًا إلى جنب؛ من أجلِ تحسين وضع الأُسرة المعيشي، في ظل أوضاعٍ اقتصادية هشّة ومُزرية".
وفي المقابل، يشير محمّد باعلوي (36 عامًا)، لـ"خيُوط"، وهو صاحب محل تجاري لبيع أدوات التّجميل والملابس النسائية بمدينة المكلا، إلى أن: "عمل المرأة كان في السابق غير مُستحب، ويُعدُّ عيبًا كبيرًا ومنقصةً في نظر مجتمعنا الحضرمي، أمّا اليوم فالأعمال المطلوب فيها نساء أصبحت كثيرة، وأرى بأنّ عمل المرأة أصبح فعلًا من الأُمور التي تلامس واقعنا بقوّة؛ لأنّ وجود امرأة تتعامل مع أُخرى مثلها يوفّر نوعًا من الخصوصيّة المطلوبة"، مذكِّرًا بمعاناته السّابقة لعدم وجود فتيات ونساء يعملن لديه للبيع في قسم الملابس الداخلية، وفساتين الأعراس، ونحوهما.
من جهته، اعتبر أحمد باضروس، مدير عام مكتب الشؤون الاجتماعية والعمل بساحل حضرموت، أنّ انتشار عمل المرأة في مثل هذه المهن والأعمال والقطاعات في مدينة المكلا خطوةٌ جيدة، وبداية لفتح المجال والباب على مِصْرَاعَيْهِ أمام عملها في مختلف المهن والأعمال في المُستقبل القريب. ويرى في حديثه لــ"خيُوط"، بأنّ: "هذه الظّاهرة أوجدتها التزامات الحياة اليوميّة المتزايدة"، وعدّد باضروس مجموعةً من الأسباب التي تقِفُ وراء انتشار هذه الظّاهرة، أهمها: تردّي الأوضاع الاقتصادية، وتدني مستوى الدّخل، أضف إلى ذلك وهو الأهم -كما يقول- زيادة نسبة الوعي بأهميّة عمل المرأة، وتفهّم دورها بوصفها شريكًا فاعلًا في المجتمع، في ظل حرصها الشّديد على إثبات كفاءتها في شتى المجالات، ورغبتها الملِحّة في اكتساب مختلف الخبرات. منوهًا باضروس بأنّ مكتب الشؤون الاجتماعية والعمل: "دومًا ما يحرص على الحث والتأكيد لأرباب العمل في القطاع الخاص بأهميّة وضرورة تخصيص وإيجاد أعمال للمرأة بما يتناسب مع طبيعتها، وتكوينها البيولوجي".
نظرة المجتمع لعمل المرأة في مثلِ هذه المهن والأعمال تبدو في تطورٍ واختلافٍ تدريجيٍّ ملحوظ بمرورِ الوقت، وإن كانت هناك شرائح وفئات مجتمعيّة لا تزال تتمسّك بنظرةٍ سلبيةٍ من حيث المبدأ، وإن وافقت وسمحت بعمل المرأة فعلى مضضٍ واستِحياءٍ، وفي حدودٍ ضيّقةٍ؛ بدعوى أنّ طبيعتها، كونها أنثى، لا يُناسبها العمل.
الأولوية لبيتها
ومع كلّ ذلك، فإنّ كثيرًا ممن يُعارضون فكرة عمل المرأة من الجنسين، ذكورًا وإناثًا، يعللون وجهة نظرهم هذه بأنّه: "لا بدّ أن تكون أولويّة المرأة لبيتها ولأبنائها ولزوجها، وأنّ عملها بشكلٍ عامٍ من الأمور التي لا تجوز دينيًّا، خصوصًا إذا ما صاحبَ ذلِكَ اختلاطها بالرِّجال في بيئة العمل، ورُبما تخلو بهم، وهو ما يؤدي بالإضرارِ بسمعتها، والطّعن في أخلاقها"، فضلًا عن تعلّق بعض الأعمال والمِهن بالحديث والتواصل المباشر مع الزبائن، وهو "أمرٌ لا بُدَّ من مقابلته بالرّفض القاطع والشّديد"؛ كما يقولون، محذرين في الوقت نفسه من التأثيرات السّلبية التي قد تنتج عن ذلِكَ، والتي لن تضرّ إلا بالمرأة نفسها؛ إذ يؤكّدون بأَنّ المرأة ستتعرّض خلال عملها بالضّرورة، لأشكالٍ مختلفةٍ من: التّحرش، والاستغلال، والتّنمُّر، والأذى من بعضِ ضعاف النّفوس في المجتمع.
والخلاصة فإنّ نظرة المجتمع لعمل المرأة في مثلِ هذه المهن والأعمال تبدو في تطورٍ واختلافٍ تدريجيٍّ ملحوظ بمرورِ الوقت، وإن كانت هناك شرائح وفئات مجتمعيّة لا تزال تتمسّك بنظرةٍ سلبيةٍ من حيث المبدأ، وإن وافقت وسمحت بعمل المرأة فعلى مضضٍ واستِحياءٍ، وفي حدودٍ ضيّقةٍ؛ بدعوى أنّ طبيعتها، كونها أنثى، لا يُناسبها العمل، وهي بدون شك نظرةٌ قاصرة تعودُ أسبابها إلى التأثر السّلبي بالجانب غير المتطوّر من العادات والتّقاليد، والمعتقدات الخاطئة. ومع ذلِكَ فإِنَّ التطور الدَّائم في مفاهيم المجتمع سيدفع حتمًا بتوسُّع وانتشار عمل المرأة أكثر مما هي عليه الآن، سواء في مثل هذه المهن والأعمال أو حتّى في غيرها، وكذلِكَ سيغيّر ويحدُّ بشكلٍ متزايدٍ من النظرة السلبية تجاه المرأة وعملها، ولا أدلَّ على ذلك من أنّ الكثيرين أصبحوا اليوم يرون المرأة شريكةً للرجل، وقادرةً على منافسته، بل والتفوق عليه.
لكن يبقى التحدي الأبرز الذي قد تواجهه العاملات في مثل هذه المهن بمدينة المكلا، هو فجوة تدني الأجور والرَّواتِب التّي يتقاضونها مقارنةً بقرنائهم من الذّكور، إذ يبلغ متوسط الراتب الشهري للمرأة أو الفتاة نحو (50,000) خمسين ألفَ ريالٍ يمنيٍّ (ما يُعادل 33 دولارًا أمريكيًّا) للدّوام الجزئي، بينما يصل أجر الدّوام الكامل (9 ساعات) إلى حوالي (65,000) خمسة وستينَ ألفَ ريالٍ يمنيٍّ (ما يُعادل 44 دولارًا أمريكيًّا)، وهذه الأرقام تقل كثيرًا عن الأجور والرواتب التي يتقاضاها الذكور في نفس الأعمال. ولهذا فإن مشكلة فجوة الأجور والرّواتِب بين الجنسين لا تتوقف عند التّفاوت فيها فقط، بل قد تتعدّاه إلى واجبات ومسؤوليات ومتطلبات العمل أو المِهنة نفسها، وهي نتيجة حتميّة لتقييد انخراط ومشاركة النساء والفتيات في بعض الأعمال والمِهن مقارنةً بالذكور.