تتظاهر انتصار بشيء من الثقة، وتبدو المرأة الأربعينية متماسكة عند حد معقول، جراء الأزمات التي حلت بها. من داخل "بدروم" صغير تغمره برودة الشتاء الشديدة، وفي معزل عن الشمس، تعيش انتصار (اسم مستعار بناءً على رغبتها) في إحدى حواري العاصمة صنعاء. تعيش مع أسرتها في قبوٍ اضطروا للسكن فيه مقابل إيجار شهري قدره 80 ألف ريال (ما يعادل 135$).
انتقلت انتصار وأسرتها إلى هذا السكن بعد أن أرهقها المؤجر السابق طيلة عام كامل بمطالباته الملحة للخروج من شقته التي كانت تستأجرها مقابل 60 ألف ريال (ما يعادل 100$).
تظهر انتصار بمعنويات لا بأس بها، وهي التي هزمتها أوجاع الظروف وعناء مسؤولية الأسرة الملقاة على عاتقها بالكامل. هي أُم لأربعة أبناء؛ ولدين وابنتين، كما هي زوجة لرجل أُصيب بجلطة دماغية قبل نحو ثلاث سنين، أقعدته الفراش مشلولًا. عندها تحملت انتصار مسؤولية الأبناء ووالدهم، إذ كان الزوج قبل مرضه يعمل بوظيفة كاتب في إحدى المؤسسات القضائية بمحافظة عمران (شمال صنعاء)، وانتصار تعمل موظفة متعاقدة مع مؤسسة حكومية في العاصمة. وبحسب حديثها لـ"خيوط"، فقد كان حالهم مستورًا ويحمدون الله على ذلك.
بعد مرض زوجها بحوالي سنة ونصف، تعنّتها مؤجر المنزل الذي كانوا يسكنونه، وحاول إخراجهم من المنزل مرارًا، "بحجج واهية" كما تقول، رغم عدم تأخرها عن دفع الإيجار وغيره من الالتزامات. إلا أن مالك الشقة لم تأخذه أدنى رحمة بعائلة أصيب عائلها بالشلل، وامرأة تكافح لإعالة أبنائها والاعتناء بزوجها المقعد. لم يتوقف إيذاء المؤجر عند المطالبة بإخلاء الشقة، بل امتد إلى جرجرة امرأة في أقسام الشرطة كنوع من الضغط عليها لتوقيع التزام بإخلاء المنزل خلال شهرين، وهو ما تم بالفعل.
على الرغم من ظروفها المعيشية القاسية، تُبدي المرأة خجلًا يصاحبه عزة نفس، من أن تطلب من الناس مساعدتها، أو حتى معرفة وضعها المعيشي القاسي
تقول انتصار لـ"خيوط": "المؤجر على علاقة ببعض المشرفين في صنعاء، وذلك الأمر الذي ساعده كثيرًا ليتمكن من إخراجي من الشقة". لقد واجهت المرأة الأربعينية بمُفردها، ظُلمَ المؤجر وقسوة الظروف معًا، ولكونها وحيدة وغير قادرة على مقاضاة المؤجر في المحاكم، تمكن الرجل من إجبارها على الخروج من المنزل. وهي تخشى على أطفالها من أية مضايقات قد تحدث لهم، إذ تُخفي اسم ذلك المؤجر، حتى لا تتعرض هي وأطفالها منه للأذى لاحقًا. إنها تتجنب الحديث عنه، وعن طرقه الكثيرة التي كان يستخدمها كوسيلة ضغط لكي تخلي المنزل. وفي سياق حديثها تقول: "لا أريد مشاكل، صاحب البيت هذا أتعبني كثيراً أنا وأطفالي، طول الوقت ونحن خائفين من المشاكل التي كان يفتعلها لي ولأولادي". لقد ترجتني طول الوقت الذي حدثتني فيه، ألّا أُشير حتى إلى ذكر اسمه، حتى لا يتعقبها ويخلق لها مشاكل أو لأطفالها، كون الرجل نافذًا، وقد قطعت لها وعدًا بذلك. لا همّ لانتصار، سوى الحفاظ على أطفالها وتعليمهم. فهي تبذل الكثير من وقتها لتأمين معيشتهم، ودفع إيجار المسكن، وشراء علاج الزوج المشلول. تعمل في وظيفتها التعاقدية قرابة أربع ساعات يوميًّا، وما إن تعود إلى المنزل حتى تذهب لتعمل في مكان آخر، لكن عملها المسائي ليس مستقرًّا في مكان واحد، إذ تتنقل من فترة لأخرى بحسب الحاجة إليها في تلك الأعمال. مؤخرًا استقرت في عمل صرف مساعدات للنازحين عبر إحدى المنظمات المحلية. تقول انتصار: "عندما يحتاجون لي في صرف المساعدات للنازحين يتواصلون معي وأذهب للعمل، لكنه عمل متقطع ومدته لا تتعدى أيام الصرف".
وعلى الرغم من ظروفها المعيشية القاسية، تُبدي المرأة خجلًا يصاحبه عزة نفس، من أن تطلب من الناس مساعدتها، أو حتى معرفة وضعها المعيشي القاسي. إنها تتحمل كافة الالتزامات تجاه أسرتها بمسؤولية وصبر. وخلال حديثها "لخيوط"، بدت انتصار حزينة في حالة واحدة فقط، حين تطرقت لظروف زوجها المرضية بعد أن أصابته جلطة في الدماغ، نتيجة للضغوط المادية والنفسية التي لحقت به جراء الوضع المضطرب في البلاد، رغم أنه ما يزال صغيرًا في العُمر، وفقًا انتصار.
تتعاقب خواطر المقهورين إليك، في أدق معاني الهزيمة وقد اجتازت الحرب كل المحاذير، وجعلت غالبية البسطاء من الناس، وربما جميعهم، عُرضةً للضياع ومواجهة مصائر إجبارية ومريرة. وهنا تجد نوعًا من البشر استذأَبوا بفعل قسوة الظروف، ولا يعدمون المبرر للسعي في التنكيل بالمسحوقين دون رأفة.