"نحن هنا نعيش تحت "جسر الصداقة" أنا وأطفالي الثلاثة، بعد ما يذهب أبوهم ليتسول في شوارع صنعاء، لجلب قوت يومنا. لا يوجد لدينا ملابس شتوية تقي أطفالي من البرد القارس، ولا غذاء يسد رمق جوعنا، ولا دواء لمعالجة الأمراض المنتشرة كالإنفلونزا وغيرها، في ظلّ الشتاء القاسي، نضطرّ إلى استخدام الكراتين والملابس للتدفئة، هربًا من موجة الصقيع القوية التي تأتي في منتصف الليل". هكذا تروي الخمسينية سعاد عبدالله، لـ"خيوط"، معاناتها مع برد الشتاء القارس بعد ما دمّرت الحرب منزلهم وأجبرتهم على النزوح للبحث عن موطن آمن، حيث إنّ مئات المشردّين في شوارع صنعاء يفترشون الأرصفة ويتّخذون منه مأوى لهم ولأطفالهم، حيث تواجه الأسر الفقيرة والمشرّدة شتاءً قاسيًا، وتفتقر لأدنى أساسيات المعيشة من طعام وماء وتدفئة ومأوى يحميهم من موجة البرد القارس.
على الرصيف دون تدفئة
حين تتجول في شوارع وأزقة العاصمة صنعاء ليلًا، تشعر بصقيع البرد القارس، مع ذلك ترى هناك عددًا كبيرًا من البشر، بمن في أولئك الأُسَر مع أطفالهم ينامون على الرصيف دون تدفئة تقي عظامهم المتهالك من قوة البرد. الجميع لا ينبس بكلمة واحدة لشرح معاناتهم مع هذا الشتاء عندما تقدّمنا للحديث معهم، إلّا أنّ لسان حالهم نطق في جملة واحدة: "نحن نعيش في جحيم اليمن"، وكأنّهم فقدوا الأمل في أن تعود حياتهم للأحسن. نسمة الصقيع تلك تخِز جسدك، مهما كانت سماكة الملابس التي ترتديها، فما بالك بذلك الأحدب العجوز الذي ينام دون قطعة قماش فوق جسده، هناك المئات من هذه الأسر والأفراد يفترشون تلك الشوارع، ويلتحفون الصقيع المتساقط من السماء، شبه عراة.
المحظوظ منهم يمتلك غطاءً صغيرًا مهترئًا وشفّافًا، لكنّه غير صالح للتغطية؛ كونه غير واقٍ فيسمح بدخول البرد، أو مخلفات كالكرتون أو أقمشة متسخة وما شابه، فيما الكثير يواجهون ثلاثة أشهر متتالية بين خطر الصقيع بالانكماش على عظامهم المتصلبة وأجسادهم المترهلة.
صراع مع صقيع الليل دون غذاء
صُنِّفت اليمن من أسوأ البلدان في الفقر والمجاعة الحادّة؛ حيث إنّ آلاف الأسر لا تحصل على قوت يومها، خاصة في فصل الشتاء، بحسب الأمم المتحدة. وقد حذّرت المفوضية الأممية من ارتفاع معدلات انتشار الأوبئة والجوع بين المشردين 2022.
يقول مالك طه -اسم مستعار- (40 سنة)، لـ"خيوط"، وقد اغرورقت عيناه بالدموع: "أسكن في هذا المبنى المهجور في منطقة "جَدِر" أنا وأطفالي السبعة، والذي لا دفء فيه ولا غذاء، بعد ما هربنا من الحُديدة بسبب النزاعات المسلحة. نفتقر لأبسط مقومات العيش من ماء وغذاء ودواء ومسكن صالح للعيش، فعندما لا نحصل على غذاء في إحدى الوجبات الأساسية، خاصة في هذا الشتاء، ننام فارغي البطون أنا وأسرتي. أحزن حزنًا شديدًا عندما أنظر إلى طفلي الصغير سامي (6 سنوات) وهو يتضوّر من الجوع والبرد معًا وأنا مكتوف الأيدي، حيث إنّي لا أقوَى على ممارسة الأشغال الشاقة، فدائمًا أعوّد أبنائي أحمد (12 سنة)، وعلي (15 سنة)، الذهاب إلى العمل في نقل البضائع مع أحد التجار، أنا أعلم أنّ العمل أكبر من عمرهم، لكن ظروف الحرب لم تترك لنا خيارًا آخر".
يردف جابر لـ"خيوط"، أحد المشردين في الشارع: "كل يوم أنام على أرض الشارع في جانب الشجرة، تحت موجة البرد القارس. لجأت إلى المبيت في الشارع؛ بسبب سقوط قذيفة صاروخية على منزلي في تعز بمنطقة الكدح، إثر ذلك فقدت عائلتي برمّتها. لم أجد مسكنًا يحتضني، حيث إنّ "الكرتون" -وهو أحد المخلفات- وسيلتي الوحيدة، أطرحه تحت جسدي للوقاية من الجوّ الشتوي. أصارع البرد كل يوم، لا يوجد أيّ دفء يحميني من هذا الجوّ القارس، منزلي الوحيد: هذه الشجرة الوارفة".
غياب المساعدة
دعت الحكومة المعترف بها دوليًّا، الأممَ المتحدة بسرعة التدخُّل لإنقاذ آلاف الأسر المشرّدة والنازحة، من مخاطر الموت بموجات البرد القارس والصقيع، خاصة الذين يعيشون في شوارع المدن ومخيمات النزوح، لكن المشهد غاب فور المناشدة، حيث تشكو سلمى، أمٌّ لثلاثة أطفال، لـ"خيوط"، قائلة: "هذا منزلي الذي يتواجد فيه عدة فجوات، ما يسمح للبرد بالتسلل إلى الداخل. ننام دون بطانيات تدفئة، لا نملك سوى فرش وغطاء واحد. نحن في حالة فقر وجوع، لا يوجد من يمدّ إلينا يد العون والمساعدة، حتى نحظى بحياة كريمة". ليست وحدها سلمى من تشكو معاناتها مع البرد في ظل غياب المساعدة الإنسانية، فالجميع هناك يشكو ويناشد، بالعبارات ذاتها، إغاثتَهم من هذا الشتاء المميت.
تقول المحامية والناشطة الحقوقية، هدى الصراري، في حديثها لـ"خيوط": "نظرًا لاستمرار الحرب وتفاقم الأزمة الإنسانية التي تعتبر أثرًا مباشرًا لكارثة الحرب، تدهورَ الوضع الاقتصاديّ وازدادت حالات الفقر والجوع؛ وبالتالي ارتفاع مؤشر المشردّين الذين عصفت بهم الحرب وشرّدتهم في الشوارع دون مأوى، بالإضافة إلى عدم فاعلية مؤسسات الدولة التي تولي اهتمامًا بحالة الفرد، وتوفير العمل والمأوى والطعام كضمان لحياة كريمة، حسب ما نصّ عليه الدستور اليمني والاتفاقيات الدولية الموقعة عليها اليمن إلّا أنها أخلت بالالتزامات التي وقعتها دوليًّا.
وبالرغم من ذلك، تستطيع الحكومة اليمنية المعترف بها دوليًّا، أن تواجه المنظمات المانحة عبر خطة الاستجابة الإنسانية إلى توفير البرامج والمشاريع التي تحدّ من الفقر والتدهور الاقتصادي الذي أدّى إلى تشرّد العديد وفقدانهم مصادر الرزق، كذلك من حقّ المشرّدين أن يتمّ إيواؤهم في دور إيواء خاصة بالدولة، ومن خلالها ينبغي توفير الأمن الإنساني ولو بالحدّ الأدنى؛ للحدّ من التشرّد، وتوفير الطعام والملبس والتطبيب، وتأهيلهم، وتوفير فرص عمل من خلال برامج التأهيل، حتى يصبحوا فاعلين في مجتمعاتهم.
معاناة الإعالة على النساء
تحمل نساء اليمن على عاتقها تركة ثقيلة في الإعالة، بسبب فقدان المعيل؛ نتيجة النزاعات المسلحة في البلاد، ما يجعلها أكثر الناس تضررًا من حِملٍ كهذا.
في هذا الصدد، تحدّثت الأربعينية أم حسام (ربة بيت)، لـ"خيوط" عن صعوبة بالغة في إعالة أربعة أطفال وثلاث بنات دون وجود أبيهم، بعد أن أخذته طريق الأقروض أثناء سفره لزيارة والدته المريضة، في حادث مروري: "كنّا أسرة مستورة الحال، وأبوهم يعمل في محل بمنطقة حمير (غرب تعز)، وصلت الحرب إلى القرية، فهربنا خوفًا من الموت إلى هذا المنزل الضيّق في نقم، حيث إنّه لا يتسع لكلّ أفراد الأسرة؛ لذا نترك واحدًا من العيال يذهب للنوم عند الجيران". تضيف: "من المؤلم أنّي لا أجد المال اللازم لشراء بطانيات تدفئة أو دواء لهؤلاء الأطفال، في ظلّ هذا الشتاء القارس، حتى الطعام، في أكثر الأحيان لا نجد طعامًا لسدّ الرمق، تعطينا الجارة مكرمة من الطعام أو إذا حصل ولدي هيثم (16 سنة) على عمل باليوم، فإنّه يجلب بحوزته ما استطاع".
أضافت: "حالنا مثل تلك المرأة التي كانت تصيح قهرًا وحزنًا على حالها وحال كثير من الناس الذين عجزوا عن توفير لقمة العيش في ظلّ هذا الفصل، كانت قد انهمرت دموعها وهي تطلب العون والمساعدة".
ليست وحدها أمّ حسام من تصارع موجات البرد والصقيع والفقر والسكن معًا في العراء وتحت منازل متهالكة، بل آلافٌ من هذه الأسر والأفراد تحديدًا، يتكبّدون كلَّ يوم معاناةً كبيرة تعصف بحياتهم إلى جحيم، دون وجود أيّ حلحلة حقيقية للمشهد المأساوي المتكرّر، في صنعاء خاصة، والمحافظات الأخرى إجمالًا.
يقول مواطنون في المدينة: "في ظلّ الظروف الصعبة الأكثر فتكًا، التي تعيشها البلد جراء الحرب والحصار والأوضاع الاقتصادية المتردية، وغياب دور السلطات المحلية والدولية في تقديم المساعدات الإنسانية، تتجه بنا المعاناة نحو الأسوأ، حتى إنّه في هذا العام غابت المبادرات المجتمعية المحلية من قبل التجار والمتطوعين بشكلٍ كبير جدًّا. كنّا نأمل خيرًا منها، حيث كانت تقوم بتوزيع ملابس شتوية وعددٍ من البطانيات لهذه الأسر التائهة بين نار الحرب، وصقيع هذا الشتاء، لسدّ الفجوة التي خلّفتها الحرب. لكنها لم تُقدِّم أيّ مبادرة في هذا العام 2022، بسبب الأوضاع الراهنة، فزاد الوضع أكثر قتامة ومأساة على المشردين".