بينما كنت شاردة الذهن أتجول بنظري وأتساءل: كم لبثتُ عنك يا صنعاء؟ لم يكن سوى عامٍ واحد، منذ زيارتي الأولى، ولكن الوضع يزداد سوءًا؛ ملامح الشقاء والعجز والقهر تبدو جلية في وجوة المارّة- طرقت زجاج النافذة امرأة تبدو في الستين من عمرها، لوهلة اعتقدت أنها تعرفني، أهّلَت بدعوات لا حصر لها، وهي تمد يدها إليّ، كانت نظرتها تدل على قسوة الظروف التي أجبرتها على الخروج.
لم يبدُ عليها أنها من فئة المتسولين الذين اعتادوا الوقوف في جولات الشوارع، بل بدت وكأنها مجبرة ومكابرة، وددت بل هممت بكلمات لجبر خاطرها؛ أحسست بوقع كلماتي يجبر قلبها، فما كان منها إلا أن ردّت: "أنا بنت فلان، ولكن الظروف القاهرة أخرجتني من بيتي".
حياة وسط الشقاء
حزنت على وضع النساء في بلدي كيف أصبح حالهن، وكيف أجبرتهن الحياة على الخروج من منازلهن، عندما تقدمنا بالسيارة، كنت أرى نساء أخريات يفترشن الرصيف، يسألن المارّة شيئًا يسد رمق الحياة، وفي الجهة المقابلة كانت فتيات في عمر الزهور يبعن الفراولة، الدبا، الماء؛ ربما وجدن طريقة أفضل لإيقاف السيارات العابرة.
تحدثت مع طفلي عنها وعن السلطة الرابعة، وكيف يمكن لنا كشف الحقائق المضللة، وعن الصحافة، وعملي، وغيرها من القصص الجميلة، أخبرته عن سنوات الدراسة والمقاعد، عن الكلية التي مضيت فيها أربع سنوات، وعن أبيه. بدت ملامح الحماس تظهر عليه، شد على يدي في سعادة وقال: "هيا ماما ندخل".
كلما تقدمت قليلًا تكرر نفس المشهد؛ الكثير من النساء ممزوجات بالكثير من الألم، لا تتوقف في جولة إلا وتداهمك النساء يطلبن بضعة ريالات، وهناك في الجهة الثانية تجدهن أمام أبواب المطاعم والمحال، ولنفس الغرض.
مثل هذه المشاهد التي قد تكون متشابهة بتفاوت بين كل المدن اليمنية وليس فقط صنعاء التي بالفعل تستحوذ على النسبة الأكبر من هذه الظواهر؛ تجعلك تتساءل عن السبب الذي جعل المرأة اليمنية، وهي التي تحظى بمكانة عالية في الأسرة، أن تعيش هذا الشقاء. وضعت الأسباب كلها في كفي وعلقتها على مسمار الحرب الذي ينخر أجسادنا نحن النساء، منذ نشوب شرارتها الأولى قبل سنوات.
تعبئة ممنهجة
مررنا بشارع حدة (وسط العاصمة)، فإذا لافتات وشعارات كبيرة، كلها موجهة للنساء، ومخصصة لهن. عبارات مختلفة؛ "لا للتبرج، قرن في بيوتكن، الحجاب ستر، المرأة المحتشمة شرف لأسرتها"، وعن الاختلاط، والكثير من الشعارات غيره.
لا أعلم كيف ينظر إلى المرأة من يكتبون هذه الشعارات، وما التعبئة المتعمدة التي يودّون زرعها، شعرت بوخزة في قلبي وأنا أرى كل عبارات التعبئة الممنهجة ضدنا، تمنيت لو أستطيع كتابة: المرأة اليمنية هي المرأة العربية الوحيدة الملتزمة بالحجاب الشرعي، المرأة اليمنية كانت وما زالت على مر التاريخ مثالًا يحتذى به.
عندما توقفت السيارة أعلى جولة ريماس (وسط حدة)، وجدت فتاة تبدو في العشرين من عمرها، ملامح الجمال تظهر في عينيها ذات اللون البني الجميل، بيدها الكثير من الورد الطبيعي، تبيعه للمارّة، تبسمتُ في وجهها وأنا ألعن في سرّي هذه الحرب وهذه الحقبة الزمنية والسياسية التي جعلت فتاة مثلها تتوسط الشارع من أجل أن تبقى على قيد الحياة.
إلى أين ذاهبة؟
بعدها بأيام، مررت برفقة طفلي، إلى جامعة صنعاء لغرض ما، وعندما اقتربت من كليتي؛ كلية الإعلام، تبسمت وأنا أتذكر سنوات الدراسة وذكرياتها، آمالنا وطموحنا، كل زاوية فيها رواية، وكل مكان فيه حكاية.
تحدثت مع طفلي عنها وعن السلطة الرابعة، وكيف يمكن لنا كشف الحقائق المضللة، وعن الصحافة، وعملي، وغيرها من القصص الجميلة، أخبرته عن سنوات الدراسة والمقاعد، عن الكلية التي مضيت فيها أربع سنوات، وعن أبيه. بدت ملامح الحماس تظهر عليه، شدّ على يدي في سعادة، وقال: "هيا ماما ندخل؛ اشتي أشوف المكان اللي درستِ فيه أنتِ وبابا"، تحمّست أكثر، وددت إلقاء السلام على أساتذتي الأجلاء برفقة طفلي، وأنا التي لم أدخلها منذ عشر سنوات.
وددت الدخول إلى المصلى، ذاك المكان الصغير الذي كان يجمعنا ويجمع حكاياتنا، وددت إلقاء التحية على الشجر والحجر، ربما وددت أن أمسح بكفي على جدرانها العتيقة، وعلى ذكرياتها المزروعة في وجداني، وبينما أنا أمضي قُدمًا، استوقفني رجل بزِيّ مدني، وبكل تعالٍ واستغراب يسألني: "إلى أين ذاهبة؟"، على الباب أوقفني وكأنه ألقى بحجر كبير على كل ما يدور في عقلي من أفكار متداخلة.
خرجت من باب الكلية، أجر أذيال الهزيمة وأعلقها على كتفي المثقل مثل حال كل النساء في صنعاء، ليس فقط في قرارات الكلية المجحفة، ولكن في كل شيء، حتى أضحينا نشعر بالخزي دون أي سبب، فقط لكوننا نساء! تذكرت العبارات المرسومة على الجدران، تذكرت التعبئة التي ينتهجها بعض دعاة المنابر، أدركت أن ما يحدث في واقعنا ليس إلا نتاجًا طبيعيًّا لكل هذا.
بعد برهة صمت، قلت في حيرة: "أدخل الكلية"، ردّد بصوت أكثر جرأة: "لا. ممنوع"، تساءلت إن كان دخول كليتي فيه غلط، قلت: "وما الممنوع في الأمر؟ أود الدخول إلى الكلية وإلقاء السلام على الدكاترة/ الأساتذة، والاستفسار حول أمر ما"، رد بجملة واحدة وأخيرة: "ممنوع دخول الطالبات منعًا باتًّا، في الثلاثة الأيام المقررة للعيال"، وألقى بوجهه على الجهة الأخرى وكأنه يقول: لا تجادلي. تملكني الغضب أنا الفتاة الإعلامية والصحفية ممنوعة من دخول كليتي بقرارات تحت بند العنف القائم على النوع الاجتماعي، أيّ جريمة ارتكبناها حالت دون ممارسة حقنا الطبيعي؟! وبينما أنا أتحدث مع نفسي، سألني طفلي: "هيا ماما ندخل حقك الجامعة؛ اشتي أشوفها"، لم أستطع الرد على طفلي، وماذا أجيب عليه، لقد تم منعي من دخولها بحجة أني امرأة. كيف سيتلقى هذه المعلومة عقله ذو الست سنوات، بل وكيف سيبني عليها معتقداته عن المرأة في المستقبل؟! تعذرت له بكذبة الاختبارات وقوانينها بعدم دخول أي شخص خوفًا من الغش.
ولكن هل نعتاد؟
خرجت من باب الكلية، أجرّ أذيال الهزيمة وأعلّقها على كتفي المثقل مثل حال كل النساء في صنعاء، ليس فقط في قرارات الكلية المجحفة ولكن في كل شيء، حتى أضحينا نشعر بالخزي دون أي سبب، فقط لكوننا نساء! تذكرت العبارات المرسومة على الجدران، تذكرت التعبئة التي ينتهجها بعض دعاة المنابر، أدركت أن ما يحدث في واقعنا ليس إلا نتاجًا طبيعيًّا لكل هذا.
أدخلت يدي في حقيبتي وأخرجت الورقة التي دونت فيها رغبتي في دراسة الماجستير، مزقتها وكأنني أنتقم منهم جميعًا، من كل من يرغب في جعل النساء مواطنات من الدرجة الثانية. ولكن، هل نعتاد؟! ربما يأتي يوم نُمنع من دخول أي صرح أكاديمي أو تعليمي بحجة الاختلاط وبحجج أخرى، سقطت من عيني دمعة عابرة وأنا أردد مقولة دوستويفسكي، في كتاب الجريمة والعقاب عندما قال جملته الشهيرة: "بكوا في أول الأمر ثم ألفوا وتعودوا، إن الإنسان يألف كل شيء، يا له من حقير".