عن الأسباب التي قادت إلى انهيار الحواجز!

من القرارات الارتجالية إلى سوء التنفيذ والاشراف
م. علي عبدالملك
September 8, 2024

عن الأسباب التي قادت إلى انهيار الحواجز!

من القرارات الارتجالية إلى سوء التنفيذ والاشراف
م. علي عبدالملك
September 8, 2024
الصورة لـ: شهدي الصوفي - خيوط

عُرفت اليمن ببلاد السدود، وهي التسمية التاريخية المرتبطة باعتماد آلية بناء الحواجز والخزانات والسدود، كونها واحدةً من أهم طرق ري الأراضي الزراعية، وخاصة في المناطق الجبلية الوعرة، وهي التضاريس التي تشكل نسبة كبيرة من المساحة الإجمالية لليمن، وقد ظلّ سدّ مارب وما زال، رمزًا تاريخيًّا لهذا التوجه. 

خبرة في الري وحصاد المياه 

هناك طرق أخرى اعتمدها المزارع اليمني في الأرياف للاستفادة من مياه الأمطار، منها على سبيل المثال، ما يطلق عليه في مناطق عدة من اليمن: "عُبار".

والعبار يمثّل صورة مصغرة ومؤقتة لفكرة السدود؛ إذ يقوم المزارع بتكويم مواد الوادي (حصى وأتربة)، ويطلق عليه في الأرياف "النيس"؛ وذلك باستخدام مجارف عريضة تجرّها الأثوار وحيوانات أخرى، كالحمير والجِمال ووضعها عرضًا في ممرّ السيول، حيث تقوم هذه المواد المكومة (العبار) بتحويل مجرى المياه إلى الأراضي الواقعة على جانبي الوادي بغرض ري المزروعات الموسمية فيها، التي عادة ما تكون من الحبوب (الدخن والغرب والذرة بأنواعها)، وبعض البقوليات والسمسم. 

بعد مرور بعض الوقت، تتمكن السيول من جرف كوم "العبار" الأول لتتدفّق في مجرى الوادي، حيث تصادف كَومًا آخر أنجز بذات الفكرة، وهكذا حتى نهاية ممر السيل، أو ما يطلق عليه بالوادي. هذا العمل البدائي في الأرياف، له أكثر من إيجابية على المستوى العام الذي وُجد من أجله، أبرزها: 

- ري الأراضي الزراعية. 

- التقليل من سرعة السيول. 

- حماية الأراضي الزراعية الواقعة على جانبي الوادي من الانجرافات أو الحدّ منها.

وفي السياق ذاته، اتبع الفلاح في اليمن العديدَ من الطرق لحصاد المياه في المناطق الجبلية شحيحة المياه، ومنها ما كان يسمى بالمواجل، ومفردها "ماجل"، وهو خزان أو صهريج مكشوف لحفظ المياه ويحفر في الصخر وتغطى جوانبه وقاعه بالقضاض أو النورة أو مواد كلسية أخرى مقاومة للماء والتغيرات المناخية، وله أيضًا تسمية أخرى هي "الكريف"، واستُحدثت بعدها ما تعرف بالسقايات ومفردها "سقاية"، وهي خزانات حصد مياه في المنازل، وتستخدم لحفظ مياه الشرب المجمعة من هطول الأمطار. 

ترتب على الهجرة من الريف إلى المدينة تآكل الاقتصاد الريفي، ومع وصول الطرقات والخدمات الأخرى إلى القرى -التي كانت معزولة- زحفت النزعة الاستهلاكية إلى الريف، فصارت المدينة تصدّر للريف منتجات كان الريف هو من يُنتجها ويغذّي بها المدن.

الهجرة وتمدين الريف استهلاكيًّا

الهجرات من الريف إلى المدن، كان لها انعكاسات سلبية كثيرة على القطاع الزراعي والاهتمام به، إلى جانب ارتفاع تكليف أجور الأيادي العاملة المستجلبة من خارج المناطق، وكذا أجور الحيوانات أو ما يطلق عليه "الضمد"؛ أي الأثوار المستخدمة في هذه المهمة، إضافة إلى ذلك تواضُع دخل الفرد والحالة المعيشية عمومًا، ممّا أدّى إلى انجراف مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية، واستمرار جريان السيول في شق مسارات لها على حساب هذه الأراضي، وترتب عليها اتساع مساحة الوديان، واختفاء الكثير من مساحات التربة الزراعية، بعد أن تخلى الفلّاحون عن إنتاج وسائل الحماية الطبيعية.

وترتب على الهجرة أيضًا، تآكل الاقتصاد الريفي، ومع وصول الطرقات والخدمات الأخرى إلى القرى -التي كانت معزولة- زحفت النزعة الاستهلاكية إلى الريف، فصارت المدينة تصدر للريف منتجات كان الريف هو من يُنتجها ويُغذّي بها المدن.

الحاجة التي قادت إلى الاستغلال

كما أشرت سلفًا، تشغل المناطق الجبلية مساحةً شاسعة من إجمالي مساحة البلاد، ولذلك فإن السيول عادة ما تتدفق إما إلى الصحراء أو البحر، ولذلك مثلت السدود والحواجز المائية الحلَّ الأمثل لاستغلال هذه المياه فيما يعود بالنفع على سكان هذه المناطق. 

وهنا، يمكن اختصار إيجابيات هذا النوع من المشاريع، بالآتي: 

  • ري الأراضي الزراعية. 
  • تغذية المياه الجوفية. 
  • استخدامها لأغراض الشرب، من خلال إلحاق خزانات صغيرة بمواد متدرجة تعمل على تصفية المياه وتنقيتها. 
  • حماية الأراضي الزراعية من انجرافات السيول.
تفاديًا لمخاطر استنزاف حوض صنعاء، قام المشروع السوفيتي قبل أربعين عامًا بإعداد التصاميم لعدد من السدود في المناطق الواقعة حول الأمانة، بما في ذلك سد في وادي الخارد بأرحب، وهو الموقع الذي تمر عبره السيول بغزارة إلى محافظة الجوف بمديرياتها المختلفة.

المشروع السوفيتي لحماية صنعاء

في العام 83، التحقت موظفًا فنيًّا بوزارة الزراعة والري. كان هناك شكلٌ فنيّ مدعوم من الاتحاد السوفيتي يسمى مشروع حوض صنعاء، وجلّ كوادره الهندسية من الخبراء السوفييت، وقد كان هذا المشروع معنيًا بالعمل في إطار لإنجاز المهام التالية: 

  • حماية أمانة العاصمة من انجرافات السيول القادمة من المناطق الجبلية المحيطة بها. 
  • استغلال هذه السيول في ري الأراضي الزراعية، وتغذية المياه الجوفية، التي تتعرض للاستنزاف في خدمات سكان العاصمة، والأكثر من ذلك في زراعة القات والتوسع الدائم في زراعته، وبما أدى وصول عمق المياه حاليًّا نتيجة لذلك إلى 1200 متر، بعد أن كان عمق المياه الجوفية حينها 100 متر فقط. بل وتشير دراسة الخبراء السوفييت إلى إمكانية نضوب المياه في حوض صنعاء بحلول العام 2027، وقد كان لي أن حظيت من المشروع بمنحة دراسية إلى الاتحاد السوفيتي في مجال المنشآت المائية، في ذات عام التحاقي بالوظيفة. 

وتفاديًا لهذه المخاطر، قام المشروع بإعداد التصاميم لعدد من السدود في المناطق الواقعة حول الأمانة، بما في ذلك سد في وادي الخارد بأرحب، وهو الموقع الذي تمر عبره السيول بغزارة إلى محافظة الجوف بمديرياتها المختلفة.

تعارض مع الاعتبارات الفنية 

بدأت وزارة الزراعة نشاطها في بناء السدود بدءًا من العام 83 تقريبًا، غير أن نشاطها تضاعف بدءًا من العام 90، من خلال التعاقد مع عدد من المكاتب الفنية عربية وأجنبية، نتيجة لندرة المتخصصين في هذا المجال. 

غير أنّ هذه المشاريع خلت من عدالة التوزيع، والأسوأ من ذلك خضوع كثير منها لتوجيهات رئاسية إلى قيادة وزارة الزراعة، تقضي بتنفيذ سدٍّ هنا أو هناك مجاملة لمراكز نفوذ قبَلية وعسكرية، في تعارض واضح مع الاعتبارات الفنية الضرورية المرتبطة بتنفيذ مثل هذه المشاريع، أبرزها: 

- توفر الموقع المناسب وصلاحيته الجيولوجية. 

- توفر المساحات الساكبة للمياه. 

- توفر البحيرة القادرة على استيعاب أكبر كمية من المياه. 

- توفر الجدوى الاقتصادية من أراضٍ زراعية والعدد الكافي من المستفيدين.

تجربة مشروع الأشغال والصندوق الاجتماعي

في النصف الأول من تسعينيات القرن الماضي، تشكّل مشروع الأشغال العامة المدعوم من جهات دولية، وبدأ مزاولة مهامه في العام 96، من خلال الإعلانات المتلاحقة عن عدد من المشاريع في مختلف المجالات الصحية والتعليمية والمائية وشق الطرقات ورصفها، كذلك مشاريع المجاري وحماية الأراضي الزراعية، وغيرها من المشاريع ذات الجدوى والارتباط باحتياجات المجتمعات المحلية، وفي الأرياف على وجه الخصوص.

بعد عام من تشكيل الصندوق الاجتماعي للتنمية، المدعوم أيضًا من جهات مانحة دولية، ومعنيّ بتنفيذ مهام مشروع الأشغال العامة ذاتها ومكملة لها، تمكّن هذان المشروعان من تنفيذ عددٍ كبير من المشاريع المائية -سدود وحواجز وخزانات حصاد مياه للشرب- وقد تميزت مشاريعهما بالآتي: 

- شمولية وعدالة التوزيع لجميع مديريات الجمهورية وبحسب الحاجة، وامتدت إلى مناطق بعيدة لم تصلها مشاريع الجهات الرسمية. 

- اعتماد المشاريع وتصميمها وتنفيذها بناء على دراسات دقيقة ومتخصصة، وتوفر الجدوى الاقتصادية منها. 

- جودة الإشراف باعتماد آليات فنية عملية، مع الأخذ بالاعتبار التخصص للجهاز الفني المكلف بالأعمال التصميمية والإشرافية. 

- المتابعة المستمرة والدقيقة من الجهة، وآلية عملها الفاعلة، وبما ميز أداءها الفني والإداري عن الجهات الحكومية.

من الأسباب الفنية التي قادت إلى انهيار السدود: عدم بناء حواجز ترسيب في المناطق الواقعة أعلى المشروع المقترح، بهدف حجز المواد الرسوبية، وتخفيف سرعة السيول، التي تجرف معها الصخور التي عادة ما ترتطم بالحاجز، وبما قد يؤدي إلى تشققه ثم انهياره مع الوقت.

فماذا عن أسباب انهيار الحواجز؟

تناولُي لهذا الموضوع وبهذه المقدمة والتشعبات، جاء نتاجًا لكثير من الأسئلة والاستفسارات التي وجِّهت لي كوني متخصصًا في مجال المنشآت المائية، أملتها أخبار انهيار عدد من السدود في ملحان المحويت ووصاب السافل، وجلّها تتعلق بالأسباب التي قادت إلى انهيارها. 

وهنا يمكنني اختصار الأسباب الفنية التي قادت إلى انهيارها، في النقاط الآتية: 

- عدم دقة الدراسات الهيدرولوجية الخاصة بتدفق السيول في الوديان، وأخص بذلك أعلى تدفق مائي، بما فيها ما يرتبط بالتغيرات المناخية، كما يحدث اليوم. 

- وجود نقص في الدراسات الجيولوجية، وأقصد بها التكوينات الصخرية وعمق الحفر المطلوب، ومعالجة بعض الأماكن الصخرية بالحقن. 

- عدم بناء حواجز ترسيب في المناطق الواقعة أعلى المشروع المقترح، بهدف حجز المواد الرسوبية، إضافة إلى إيجابية تخفيف سرعة السيول، التي تجرف معها الصخور التي عادة ما ترتطم بالحاجز، وبما قد يؤدّي إلى تشققه ثم انهياره مع الوقت. 

- سوء التنفيذ الناتج عن ضعف الإشراف من الجهاز الفني على سلامة تطبيق المواصفات الفنية المحددة في بنود الكميات. 

وقد تكون هناك أسباب موقعية تُضاعِف من عمليات الانهيار لهذه المشاريع، يصعب الدخول في جزئياتها.

•••
م. علي عبدالملك

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English