يقال إن خيار الحرب عند صناع القرار يجب أن يكون الخيار الأخير. ينطلق هذا القول من فرضية أن اللجوء إلى الصراع المسلح تستدعيه حالة ما بعد نفاد الخيارات السلمية، لما تسببه الحرب من دمار وتهجير، إضافة إلى الأكلاف الاقتصادية والاجتماعية التي تدفع ثمنها مكونات المجتمع الفقيرة والمدنية، مع احتمال الدخول في دوامة الفوضى طويلة الأمد، وما يصاحبها من صراعات متواصلة، تؤثر بشكل مباشر على مستقبل المجتمع وأجياله القادمة.
وهنا يتوجب طرح سؤالٍ شديد الوضوح: هل كان خيار الحرب العبثية المتمددة في كل الجغرافيا هو الخيار الأخير عند أطراف الصراع في اليمن ورعاتها الخارجيين؟
لم تكن وليدة لحظتها
للإجابة عن السؤال، لزم العودة والحديث عن مرحلة ما قبل الحرب، فهناك من يرى أن مؤشرات نشوب الصراع في اليمن قد بدأت في عام 2000، حينما بدأ الحديث عن التوريث، واستشراء الفساد، وترهل طبقة الحكم. فخلال الفترة من عام 2000 إلى بداية التدخل السعودي الإماراتي في شهر مارس 2015، شهدت اليمن موجات من عدم الاستقرار وحروب قصيرة، كتلك التي حدثت في أقصى شمال اليمن (حروب صعدة الستة بين 2004 و2010) وحروب مكافحة الإرهاب في شرق اليمن وجنوبه ووسطه، إلا أن الحدث الفاصل كان مع بداية ثورة الشباب السليمة، التي أصبحت تعرف بثورة 11 فبراير؛ فقد شكلت تحولًا كبيرًا في دراماتيكية الأحداث في اليمن، لما صاحبها من انقسام أدى إلى اللجوء إلى العنف في بعض الحالات، كحرب الحصبة، وتفجير جامع الرئاسة (النهدين).
ورغم محاولات عدم إدخال البلاد في صراع مسلح من خلال الاستجابة إلى المبادرة الخليجية في نوفمبر 2011 ثم الدخول في مؤتمر الحوار الوطني في مارس 2013، فإن الحرب حدثت في النهاية.
من الملاحظ أن الحرب لم تكن وليدة لحظتها، بل هي نتيجة تراكم أخطاء واختلافات جوهرية في البيئة السياسية والاجتماعية اليمنية، وأن السياق التاريخي والسياسي لليمن كان له دور كبير في تشكل الصراع الحالي. فقد تميزت السنوات التي سبقت الحرب بتعقد التوازنات السياسية، وغياب الثقة بين مختلف الفصائل السياسية، كانت هناك قوى تسعى للوصول للسلطة، وأخرى تسعى للمطالبة بحقوق مشروعة، مما أدى إلى نشوء بيئة خصبة للأزمة ثم للعنف وصولًا إلى المواجهات المسلحة.
دور الإعلام السلبي
كما أن التأثيرات الخارجية لعبت دورًا هامًّا في تأجيج النزاع؛ فقد ارتبطت التدخلات الدولية والإقليمية بالشأن اليمني بشكل معقد، حيث جاءت بعض القوى لدعم أطراف معينة مما زاد من حدة التوتر. وقد ساهم هذا التدخل في تحويل الصراع من محلي إلى صراع إقليمي، حيث أصبحت الأطراف الخارجية تدعم فئات مختلفة وفقًا لمصالحها، ترتب على ذلك نشوء أذرع سياسية وعسكرية لهذه الأطراف، تمددت على كل الجغرافيا اليمنية، لتشكل في النهاية سُلط أمر واقع تتنازع على الأرض والموارد.
ويجب علينا هنا الإشارة إلى الدور السلبي الذي لعبه الإعلام، وساهم بأشكال متعددة في تفجير الصراع. فالفاحص للمنتوج الإعلامي منذ تصاعد الأزمة حتى انفجار الحرب الشاملة منذ عشرة أعوام، سيرى كيف ساهمت وسائل الإعلام الموزعة على متارس المتحاربين في نشر المعلومات والأخبار المضللة، وتعزيز الانقسامات، وتعميق الفجوات بين المكونات المختلفة السياسية والمناطقية والمذهبية في البلاد، وهذا الأمر يدعو اليوم إلى التفكير في كيفية تعزيز خطاب إعلامي أكثر مصداقية وشفافية يكون أكثر بناءً، ويعزز من الحوار بدلًا من العنف.
يبقى السؤال الأهم: هل من الممكن تحقيق السلام في ظل هذه الظروف المعقدة؟ إن الإجابة تكمن في ضرورة العودة إلى طاولة الحوار، وخلق فضاء يتسم بالاحترام المتبادل والتفاهم بين جميع الأطراف، إذ إن السلام المستدام هو الخيار الذي يجب أن يسعى الجميع لتحقيقه، فهو الطريق الوحيد لبناء مستقبل، ينعم من خلاله اليمنيون بالأمن والوئام.
يبقى هناك عامل مهم يمثل ركيزة أساسية في مسار السلام المنشود، وهو توافر إرادة السلام لدى أطراف الصراع؛فالحروب لا تقع بالمصادفة، ما دامت كل الأطراف قد اتخذت قرار عدم خوض أي نوع منها في اليمن.
سبع خطوات للتعافي
إن تحقيق السلام في اليمن يتطلب مقاربة شاملة تأخذ بعين الاعتبار السياق المحلي والتحديات المركبة التي تواجه البلاد، بالإضافة إلى محاولة تطبيق العدالة الانتقالية، ويمكن فعل ذلك من خلال بعض الخطوات الممكنة، ومنها:
1. الحوار: ضرورة وجود حوار مفتوح وشامل بين جميع الأطراف المعنية، بما في ذلك الضحايا والجناة والمجتمعات المحلية.
2. المصالحة: العمل على بناء الثقة بين المجتمعات المختلفة، من خلال برامج مصالحة تهدف إلى فهم الماضي والتوجه نحو المستقبل.
3. المساءلة: تطبيق آليات قانونية للمحاسبة عن الانتهاكات التي وقعت في الماضي، لضمان عدم تكرارها.
4. التعويضات: تقديم تعويضات مناسبة للضحايا وعائلاتهم، سواء كانت مالية أو عينية (جبر ضرر)، لمساعدتهم في تجاوز آثار ما تعرضوا له.
5. التعليم والوعي: تعزيز المعرفة بالحقوق الإنسانية والتاريخ والسياسات المتعلقة بالعدالة الانتقالية في المجتمع، ونشر الوعي حول أهمية السلام في منع النزاعات المستقبلية.
6. المشاركة المجتمعية: إشراك المجتمع المدني في تصميم وتنفيذ عمليات العدالة الانتقالية، لضمان تمثيل كافة المكونات والمصالح.
7. دعم دولي: الحصول على الدعم والمساعدة من المجتمع الدولي لتوفير الموارد والخبرات اللازمة لتنفيذ برامج العدالة الانتقالية.
هذه العناصر السبعة يمكن أن تلعب دورًا رئيسيًّا في تهيئة بيئة مواتية لتحقيق سلام دائم يعزز العدالة والتفاهم بين مختلف الأطراف والمكونات في المجتمع، الا أنه يبقى هناك عامل مهم يمثل ركيزة أساسية في مسار السلام المنشود، وهو توافر إرادة السلام لدى أطراف الصراع؛ فالحروب لا تقع بالمصادفة، ما دامت كل الأطراف قد اتخذت قرار عدم خوض أي نوع منها في اليمن. غير أن من المؤسف عدم ملاحظة اي إرادة حقيقية تجاه السلام لا من القوى الخارجية، ولا من أطراف الصراع في الداخل، الأمر الذي يجعل الحديث عن الجهود المبذولة في سبيل السلام المستدام مشكوك فيه، وتبقى مجرد أمانٍ بعيدة، وليست في متناول اليمنيين، الذين عانوا على مدى عقد كامل من الحرب وارتداداتها، ودمرت البنية الهشة للمجتمع.
ختامًا، يستحق اليمن وشعبه العيش بسلام دائم، بعد سنوات من المعاناة، وهي مهمة منوطة باليمنيين أنفسهم -قبل أي طرف آخر- فهم الذين اكتووا بالنار، وما يزالون غارقين في تفاصيل خرائط الدم والبارود.