أتذكر قول الشاعر العربي الكبير سعدي يوسف أثناء وجوده في عدن أوائل الثمانينيات من القرن الماضي في معرض ملاحظاته على نصوصنا الشعرية المنشورة في الصحف المحلية السيّارة، والتي كان يكد على ملاحقتها بإصرار عجيب فسره لي في لاحق الأيام بالقول: "إذا لم أتابع نصوص الشعراء الشبان، فكأنني سأفقد إيقاع العصر!".
وقال الشاعر سعدي يوسف في إحدى تعليقاته:
هذا الشاعر -ويقصد الشاعر عبدالرحمن السقاف- يكتب على طريقة القصيدة الومضة؛ أي قصيدة الهايكو اليابانية.
تمر الأيام وتزحف السنون، وملاحظة الشاعر سعدي يوسف تؤكد تنبؤه حول قصائد الومضة للشاعر السقاف.
ولا أظن أن الشاعر السقاف قد خذل اتجاهه وعدّل من موجة كتابته لهذا الشكل من القصيدة إلا قليلًا من المرات التي كتب فيها قصائد مطولة أو شبه مطولة.
عبدالرحمن السقاف أخلص لقصيدة الومضة وثابر على تأصيلها.
وليس من بدِّ القول، أن قصيدة السقاف هي من لمح ذاكرة لماعة وموجزة وذات رنين وموسيقى لا تخض أذن القارئ.
يبدو الشاعر عبدالرحمن السقاف وقد قارب السبعين عامًا يومها، رجلًا مريضًا منهكًا من تعب الحياة ومن مشاغل الدنيا، ومن ثرثرات الدوغمائيين، وفي حالة نقص مناعة في الأخلاقيات، وقلة حيلة في كسب المعاش، وتعارك في اختطاف اللا معنى، وتشاجر في تفسير الكينونة والوجود
وديوان (كسرة حب) الصادر عن إصدارات جامعة عدن عام 2012، وهو موضوع تحليلنا، يؤكد هذا الملمح في كتابة القصيدة، والتي هي في الأصل ناتج عن قدرة الشاعر في استجماع لحظته الشعرية مع قليل من الكلمات وكثير من المعاني والمعارف المتخيلة والجمالية، وربما بسبب رهقه من الإطالة بسبب تعبه الجسدي والذهني.
شاعر ضئيل وريشة لا تتعب
يأتي الشاعر عبدالرحمن السقاف إلينا في هذا الديوان (كسرة حب) ضئيلًا وقليل الحيلة بل متسولًا الحب ومكتفيًا بكسرته الصغيرة، كحال الشاعر الذي اكتفى من الحياة فاعليته فقط بكتابة القصائد، واعتزل الناس ومشاغلهم وانشغل هو بآلامه ومكابداته وتعبه، وترجم معاناته بصلابة وقوة على عكس حالة الوهن التي تعتريه، ومشيته الضعيفة، ورعشات حركته التي تجعله في الحياة كائنًا ضعيفًا أنهكه التعب والمرض، ولكنه على عكس هذه الحال يبدو في النص مقاومًا هذا التعب والإنهاك، ويبل من المرض الجسدي، وتسري فيه قوة تساعده على البقاء حيًّا ومثابرًا على إثبات وجوده وكينونته وحاضره رغم حطام الحياة التي تبقى له، وركام أصدقاء لا يأبهون لبلواه، ومشاغل حياة وتكاليف عيش ضنكتين، وجلاميد أجساد بلا روح، وأثقال ماديات تغشى الجميع فتفقده رؤية الشعري من نثرية الحياة المادية، وتلمس الروح من ركام الجثث التي تجيء وتروح أمامه، فلا يستشعر فيها نبض حياة أو ما يجعل لها معنى غير الوجود البليد الذي لا يلتفت إلى موسيقى الروح الغائبة عن الجميع إلا هو.
إنه يلتقط اللحظة من بين هذا الركام في لحظة تظن أنه في حاله التي نراه مريضًا متهالكًا، في حين أن القوة تكون قد انتقلت من جسده المنهك والضئيل واستقرت في دماغه، ومن هذه المنطقة، منطقة الوعي بالناس وبالأشياء والأحداث والأفكار وقوة الخيال، يجعل من الكتابة مصدر قوة في مواجهة جلاميد الحياة والناس بقوة التعبير وسَعة التخيل وصناعة النص المقابل لهما، والمعبر عن مواجهة وتحدٍّ لا يمكن أن تصمد سوى في كلمات ضئيلة، ونص قصير، وحياة نصية موازية للمعاش، يخترعها الشاعر من ضوء الكلمات ولون المعنى وموسيقى الأفكار.
ولذلك فإن الشاعر المنهك جسديًّا كما نراه، هو أكثرنا صلابة وقوة في مواجهة العالم غير ما نرى فيه من عثرة في المشي، وارتعاشة في الجسد، ولجلجة في الكلام، ووهن مستمر في البدن.
الشعر وحده مفتاح قوة وصمود الشاعر، وبهما يبقى حيًّا يقاوم، ويجد رمقًا من الحياة الحرة والثرية يستطيع بها أن يزاول كينونة البقاء، وممارسة نص اللغة بديلًا عن نص الحياة. الشعر صامد في الجريان مع دم الشاعر؛ لأنه لم يبقَ من وسيلة للبقاء سوى ذلك العقل المتقد والخيال المشع والتعبير الذي يتجاوز مجال التنفيس عن الحال إلى صناعة واقع موازٍ جميل وغني بالروحانيات والجماليات التي يفتقدها واقعنا المريض.
يبدو الشاعر عبدالرحمن السقاف وقد قارب السبعين عامًا يومها رجلًا مريضًا منهكًا من تعب الحياة ومن مشاغل الدنيا، ومن ثرثرات الدوغمائيين، وفي حالة نقص مناعة في الأخلاقيات، وقلة حيلة في كسب المعاش، وتعارك في اختطاف اللامعنى، وتشاجر في تفسير الكينونة والوجود، ولذلك ترك لنفسه معزلًا في غرفته الصغيرة في (العيدروس) حيث يقع منزله أمام مسجد (جوهر) يكتب القصائد، ولا يبوح المكان الذي لا يستطيع الخروج منه إلا من خلال بريق خياله وصهيل كلماته، وكسرته الضئيلة التي يقتات منها حب الناس والحياة من حيث يراها هو، لا تلك التي يفرضها عليه الذين من حوله ولو كانوا أقرب الناس إليه وهو يثقل عليهم بجسده المنهك ووجوده الثقيل عليهم، لكنه مع ذلك، في كينونته ثمة ريشة تطير مع الريح أنّى ذهبت، ترسم في سماء عدن ما لم ترسمه ريشة فنان أو جعجعة سياسي منتهز.
فمن (العيدروس) يبدأ عالم الشاعر بامتداده وعلى خط سير لا ينتهي إلا بقول الحقيقة المعرفية والجمالية التي لا يلتقطها سوى أحبائه الذين يؤمنون بشاعرية نصوصه وابتكارات مخياله المبدع في صوغ أعذب الكلمات وأرقى المعاني والمعارف وبصوت هامس ودافئ يخرج من عمق قريحته.
وهذا ما تقوله قصيدة (اعتكاف)، ص93:
في بيت القلب
كنز لا يفنى
يعطيني أملًا لا محدود وجواهر شتى
يعطيني كبد الحلم
كي أجلس في بقعة نور وأرى الأشياء باسقة من حولي
تمطر عيدْ
إني إذن في البيت السعيد
هذا هو مكان اعتكاف الشاعر، حيث يروم الحقيقة ويكابد في الحصول على (كبد الحلم) ورؤية الأشياء باسقة تمطر عيدًا، ذاك هو سكناه في (البيت السعيد).
أجمل ما قرأت في شعر (الومضة) في هذه المجموعة التي جسدت ذلك الانضغاط في القليل من الكلمات والحروف والكثير من المعاني المتخيلة، والرؤى الشعرية اللا متناهية قصيدة (فقر)، ص67، التي لا تتعدى عدد سطورها عن الأربعة، والكلمات عن (18) كلمة تتشكل بنيويًّا على يد الشاعر، فتكون عالمًا لا متناهيًا:
هل أدلكم على من حمل الشمس
وتجول بها في طرقاتنا
إنه رجل فقير
لا يملك في يديه
سوى الوطن
نرى هنا بساطة في الاشتغال على الكلمات وقلة من زاد اللغة المرصوصة كواجهات ماسة متعددة الأوجه؛ وعلى الطرف الآخر من معادلة الكتابة ثمة شعرية عميقة حافلة بعالم جمالي ومعرفي لا يمكن الإمساك بهما إلا على يد شاعر مثل عبدالرحمن السقاف.
وهنالك ومضة أخرى من ومضات السقاف تحمل عنوان (نرجسة)، ص84:
النوارس طارت كلها
وتبقى مساء واحد
في عمق رأسي
نورسًا أحبه
براءته أنا
ترى من كان يقتحمني سواي
القصائد الومضات التي تترى أمام عينيك بحضور يبدو جسدها اللغوي خفيفًا وبارقًا، ولكنها تبقى في الذاكرة بقدر ما تخلفه من تخيلات لا متناهية من الجمالية ومتنوعة في المعاني والمعارف الشعرية التي لا تبلى أبدًا طالما أطال الوقوف أمامها مندهشًا من هذا التكثيف في اللغة المرسومة والتناهي في الجمالية والخيال.
تقول قصيدة (إيمان)، ص81. ذات الـ(12) كلمة فقط ما لم تقله قصائد عصماء عن حلاوة الإيمان، رغم شيخوخة طفله الذي وُلد عجوزًا:
يخرج من أصبعي
طفل حاف
لكنه عجوز
منذ ولادته
ممتلئ
بحلاوة الإيمان
هكذا تبدو ومضات الشاعر عبدالرحمن في نصوصه القصيرة عالمًا لا متناهيًا من المخيال الشعري، رغم بساطة زادها اللغوي من كلمات قليلة تتناثر في سطور أقل، وفي أقل من برهة للقراءة تتراءى عوالم شعرية تمتلك الكثير من ثراء الكينونة.
هذه سجية الشاعر عبدالرحمن السقاف مع قصيدة الومضة، ولقد أبلى فيها أيما بلاء، وثابر على الاشتغال عليها منذ بداياته حتى آخر قصيدة في هذا الديوان، وربما بعد ذلك أيضًا.
التفاصيل من المأخذ إلى الحضور
يثير انتباهي في هذه المجموعة الشعرية دخول معامل جديد في نص الشاعر، قد يكون قد لامسه في مجموعاته السابقة، لكنه الآن أكثر حيوية في الحضور على صدر أكثر من نص، وأعني بذلك الكتابة عن التفاصيل.
حقيقة، كنت آخذ على الشاعر في عدد كبير من نصوصه استخدامه الكلمات المنجزة المعنى (كالحب، العشق، الحنان، اشتياق، السلوى) رغم سياقها الشعري المتسق معنى وجمالية في النص.
ولكن استحضار الحالة في تفاصيل حياتية أراها إمكانية سامقة في التعبير عن المعنى والتقاط الحياة من حيث ترد إلينا بأحداثها وتفاصيلها الصغيرة، ونشكلها كي نحظى بحالة وكينونة شعرية لا تنفصل عن الواقع المعاش، ولكنها تحيله إلى عالم جديد لا يخلو من القدرة المعرفية والجمالية.
أكثر القصائد تعبيرًا عن استخدام التفاصيل قصائد (العيادة، خراب، الملك، الجهاز، مباشر، دفتر، المقهى، المعسكر، ذكرى)، وهي بذلك تتوسل التعبير عن الحالة الشعورية والشعرية من خلال تفاصيل حياتية معاشة.
ففي قصيدة (العيادة) مثلًا، يحدث الشاعر نفسه بأن يدخل في قاع الناس وأحوالهم اليوم، فماذا يجد؟ يجد الحارات، وحالات الناس المتراوحة بين استهلاك البقالة والدكتور الماشي بلا أرجل.
تلك تفاصيل أعطته معنى (الصبر).
فالعيادة والحارة والبقالة والدكتور الذي افتقد ضميره كما افتقد رجليه.
إنها سياحة عميقة في قلب الحياة المادية الاستهلاكية التي تعطي للشاعر معنى وحيدًا، وهو الرفض لهذه الحالة الجامدة والخالية من الضمير والباحثة عما يملأ البطن (البقالة)، ولو من خلاص الاصطبار على وجودها القاسي والمفروض.
أجمل القصائد ومضة (خراب)، ص80، المعبرة عن روح مقاتلة وتفضح أولئك العابثين بنا وبجماليتنا وأشيائنا الصغيرة وأماكننا الطبيعية.
إنها قصة أولئك الجبناء الذين هم ماضون على تدمير جمالية عدن، تلك الجمالية التي تكمن في بحرها الأزرق وشواطئها الذهبية، إنهم أولئك المتفيدون على وقع بنادقهم الذين يأخذون منا "حفنة الساحل" ويغيبونه عن الحضور، ولكن حضور هذا الساحل باقٍ؛ لأن "كل أصبع تشهد أن لا بحر سوانا"، وأما البنادق التي تستقوي بهذا التجريف والتخريب لجمالية الشاطئ وتدفع البحر من مرأى أعيننا هي من قتلت رجولتهم وجعلتهم مخصيي الجمالية.
وهنا تأتي المقابلة بين (نحن) و(هم)؛ فـ(نحن): "نحن الذين قالوا: عشاق زنابق النهار". (وهم): "... أنتم الخراب".
إنها حالة مقايضة بينه وبين أولئك الذين يصفهم في أكثر من قصيدة بالغرباء عن معرفة كينونته وحاله، الذين بقدر اقتناعهم بموته، منحوه -في الأصل- كينونة الثبات على الأرض حيًّا ومبدعًا
إن المعنى الدلالي لهذه القصيدة حيٌّ في نبض أبناء هذه المدينة وكل محبي الجمال، وضد تتار العصر الذين يستقوون بأسلحتهم المادية والمعنوية لكي يعملوا على إخصاء جمالية المدينة وتدميرها وتحويلها إلى خراب؛ لأنهم في الأصل هم عنوان "الخراب"، وداخلهم أجوف، وأعماقهم خاوية.
جدلية الحياة والموت وتجلياتها
يقول الشاعر في ومضة (الغرباء)، ص15:
أحب أن أحيا قليلًا
لكي أنجز ما تبقي لي من توتر
لم يلتفت أحد لقولي
لكن الألم
قدمني إلى الأمام
وأنا لم ألتفت
لناسي الغرباء
بين قات ضيع
تاجنا
حتى كان أملًا
سدنا.
إذن فالشاعر يريد أن ينجز حياته مقاومًا التوتر اليومي والألم الذي يكابده، يدفعه أمامًا لا إلى الوراء، لا يلوي على أحد إلا لناسه الغرباء الذين يلوكون قات الضياع ويهدمون تاج تاريخهم، إنما بشارة الحياة والبقاء الوجودي والحضاري تأتي من ذلك السد الذي تهدم وصار أملًا في البقاء والمجد الحضاري.
وفي ومضة أخرى (الوقت)، ص16، يؤكد الشاعر مقاومته كل أشكال الرتابة:
كان الوقت مرتبكًا
لكني صحت بأعلى صوتي
كفّوا...
فأنا ما زلت أعيش
ونذرت بقية عمري
الزيتون وهذا البحر
ما زلت أعيش
كفوا...
سآتي بالأطفال
فالبحر قريب
البحر قريب جدًّا.
هكذا يقابل الشاعر كل رعشة موت بصرخة الحياة ويؤكد بقاءه حيًّا على هذي الأرض ويجلب معه الزيتون والأطفال والبحر.
فالبحر القريب جدًّا منه يمنحه امتداده جرعة حياة.
وفي ومضة أخرى (موقف)، ص33، يؤكد ثباته على هذه الأرض:
دوت في حياتي
وأعطتني الحياة
مالي وللغرباء
قد اشتروا موتي
وأعطوني الثبات.
إنها حالة مقايضة بينه وبين أولئك الذين يصفهم في أكثر من قصيدة بالغرباء عن معرفة كينونته وحاله، الذين بقدر اقتناعهم بموته، منحوه -في الأصل- كينونة الثبات على الأرض حيًّا ومبدعًا.
وفي ومضة تالية (حياة) ص45، يؤكد الشاعر صيرورة البقاء:
أموت قليلًا قليلًا
وأحيا كثيرًا
لأهدي البرايا مالًا وغبطة
وهذا الذي دلني في الطريق
على عمق قلبي
الرقيق.
ما زال الشاعر يصارع وحيدًا في جدلية الحياة والموت ويمشي في طريقه ويده على رقة قلبه المتعب.
لكنه في ومضة أخرى (ضوء)، ص67، ينادي على ساعة موته بخيار مناقض له:
مت على مائدة النهار
أو هكذا قالوا
وأنا أقول: لا تكسروا حريتي
لي خيط ضوء
أطرزه كما أشاء، أمشي عليه فمن قلق النجوم
استمد
بين جنبي وأزهر
من كل آلام
نهار.
كل من نادى على سمع السقاف همسة موت؛ لأنه شخص آيل لذلك بفعل مرضه وتعبه الجسدي يطالبهم ألا يصادروا حقه في حرية البقاء؛ لأنه ما زال يطرز من آلامه ومن قلق نجوم الليل ضوء نهار قادم يهل عليه بالحياة.
بالمجمل، فإن الشاعر في جدلية الصراع بين الفناء والبقاء، وفي ظل رجحان كفة القبر على العمر لرجل مريض ومتعب مثله، آيل للسقوط الجسدي في أي لحظة كان الشاعر يختار طريقته في الموت.
ماذا تريد
من رجل
قتلته...
فراشة
ومضة (فراشة) ص127.
ما زال الشاعر ممسكًا بحبل الحياة وبقبضة الشعر:
إذا ما زادت بي الآلام
إذا ما تهيأت
لتناول الموج
على المقهى
سأخبرك
لتطلع
من دمي بنات الحور
لهذا إنني أكتب.
(المقهى)، ص116
لهذا فإن مصدر مقاومته للألم وترجيحات الموت المتكررة أن يصنع جنته الخيالية ويعيش حياة الأبدية مع بنات الحور اللاتي اصطنعهن بمخياله، وبقوة الكتابة لكي يستمر في صناعة الحياة.
كيف يموت الشعراء؟
هذا ما أفصحت عنه ومضة الشاعر السقاف المعنونة بـ(العصفور)، ص69:
قال العصفور المذبوح:
أين الماء؟
ولماذا يموت
في لحظات خضراء
الشعراء
بزمن قفر
... هذا
..... دمع العصفور
هكذا يجادل الشاعر نفسه عن لحظة موت الشعراء، حين يعيشون بين نقيضين:
ويرى أن موت الشعراء مرهون بالدم والجدب، في حين كانت طبيعتهم تتهادى بين الماء ولحظات خضراء، وإذ يستولي الأول على الآخر، فما على عصفورة الحياة إلا أن تسقط دمعتها على هذا الرحيل المغبون.
والشاعر السقاف سقط ميتًا على أرض الحياة الواقعية حصرًا عندما ران جفاف الحرب ودماؤها، على ماء الحياة واللحظات الخضراء.
ويقول في ومضة أخرى بعنوان (المعسكر)، ص123:
ألجأ إليك
كلما عذبني المعسكر
انفجر شجر
في وجوههم...
علها تستفيق
قولًا ومعنى
لكن دفاتري
تسأل البلد...
هذا المعسكر:
من قتل الشاعر المشجر؟ ألجأ إليك... وأغيب
في حلمي المنور
ثم تصحو
وتغيبين معي
يا لقلبي
ويا لبلدي المخدر!
إن المعسكر كمدلول للحرب بأي صفة كانت، ومصدر عذابات الشاعر، هي التي قتلت (الشاعر المشجر) أي المتوشح بشجرة الحلم والحياة، وفي غياهب هذه العسكرتارية غاب قلب الشاعر ودخل الوطن في سرنمة التخدير - الموت.
هكذا جسد الشاعر عبدالرحمن السقاف تنبُّؤه بموته في زمن الحرب عام 2015م، بما رواه في هذه الجدلية التناقضية عن موت الشعراء.