منذ اندلاع الحرب مطلع العام 2014، تمت تهيئة الساحة اليمنية لسطوة الجماعات الدينية المتشددة بمختلف أطيافها، وذلك على حساب القوى المدنية التي حدّ النزاع المسلح المستمر إلى اليوم، من تواجدها في المجال العام. ولأن هذه الجماعات تقليدية، ومناهِضة لوسائل التغيير في العصر الحديث، كالغناء والرسم والأدب، تعمل بكل ما تستطيع لمحاربة الفنون، ولا تقتصر التصرفات تلك على جماعة معينة، بل كل الجماعات، ولو بنسب مختلفة.
قبل أقل من شهرين، تم إيقاف حفل غنائي لعمار العزكي في مدينة تعز، بسبب تحريض الشيخ عبدالله العديني ضد الغناء، وفي صنعاء، تنفذ سلطات جماعة أنصار الله (الحوثيين) مداهمات لحفلات الغناء الفرائحية وتحتجز الفنانين من صالات الأعراس أو تضايقهم في تحركاتهم، فيما بدا أنه توجه عام من قبل قيادات كبار في الجماعة التي باتت تسيطر على معظم المحافظات الشمالية. فخلال شهر واحد، تم احتجاز فنانين اثنين معروفين على الساحة اليمنية، الأول: فؤاد الكبسي، تم احتجازه بالقرب من مدينة الحديدة، أغسطس/ آب 2021، تم اعتقال الفنان الشاب أصيل أبو بكر، من داخل إحدى قاعات الأعراس في صنعاء العاصمة، وهي ممارسات قمعية سبق أن نفذتها سلطات الحوثيين في أكثر من محافظة واقعة تحت سيطرتها.
مفارقة دائمة
في مفارقة قديمة متجددة، وأخذت شكل القاعدة الثابتة، تختلف توجهات الجماعات الدينية مع بعضها بالنسبة لأهدافها في الصراع على السلطة، لكنها تتفق في محاربة الفنّ بشكل عام، والغناء بشكل خاص، حتى غدا خنق فضاء الفنون بمثابة صراع تخوضه الجماعات الدينية المتشددة ضد الفنانين وضد الحقّ بالفرح للمواطنين، لا سيما في وضع الحرب الدائرة منذ سبع سنوات.
عن هذه المفارقة تقول هديل الموفق، وهي كاتبة وباحثة في المركز اليمني للسياسات، إن ذلك مرتبط بشيء أساسي، بتعريف الهُوية اليمنية، والبعد الحضاري الذي احتفى بالفنون ورفع من شأنها، بينما الجماعات الدينية المتشددة لا تريد ذلك. وتضيف الموفق في حديثها لـ"خيوط": "الفن، كالغناء أو الشعر، يربط الناس بعضهم ببعض مثله مثل اللغة أو العادات والتقاليد، فهو جزء أساسيّ من هُوية أيّ شعب. وبإمكانك معرفة الكثير عن تاريخ وحاضر أي شعب بالنظر إلى فنّهم الشعبي، ولكن بالنسبة لرجال الدين، يأتي الدين أولًا على حساب الهُوية الوطنية وكل عناصرها، مثل الفن والثقافة. حلم الطوائف الدينية هو توحيد الشعوب تحت مظلة "الأمة"، ومحو جميع العوامل الأخرى المميزة لهم، مثل لغتهم، وملابسهم التقليدية، وفنونهم... إلخ".
وهي ترى أن ما يحدث في اليمن من تضييق وقمع للفنون، ليس الأول في التاريخ، مشيرةً إلى "ما فعلته الجماعات التبشيرية المسيحية في دول عديدة مثل الدول الأفريقية وأمريكا الجنوبية"، وأن من تسمّيها "الجماعات الإسلاموية" تسعى لتكرار الفعل نفسه اليومَ في الشرق الأوسط، "لفرض سيطرتهم على الشعوب بإحكام". وتختتم الموفق فكرتها، بالقول إن "تلك الجماعات الدينية المتشددة ستفشل؛ لأنها تسعى لمحو هُوية الشعوب بدلًا من الاندماج معها، وبذلك هي تخلق مقاومة مجتمعية لها بشكل حتمي".
لا يخلو المشهد اليمني الراهن، سياسيًّا وثقافيًّا واجتماعيًّا، من حالة إجماع على أن السلوكيات المتطرفة -مهما كانت دوافعها- لن تقضي على الفن والغناء، كونه متجذرًا في وعي المجتمع أكثر منه في أصوات المغنِّين والمطربين
الدوافع العدائية تجاه الفنون
لا تقوم الجماعات المتشددة دينيًّا في اليمن بقمع الفنون من باب العبث، بل لاشتباك مشاريعها السلطوية مع مشاريع التحديث والتجديد، وذلك؛ لأنها تجد نفسها أمام مشروع يناقض توجهها، ولهذا السبب تسعى لاقتلاعه بدافع قمعي، وبهدف التسلط والاستفراد بالخطاب العام للسلطة والمجتمع.
الكاتب، والرسام والناقد نبيل قاسم، يفسر السلوك القمعي للجماعات المتشددة دينيًّا، قائلًا: إن "المسألة تتعلق بالحرية، كشرط أول لازدهار الفنون". ويضيف: "الحرية هي المسرح الذي تتألق فيه الفنون وتزدهر"، وذلك ما لا تريده الجماعات الدينية". أما القمع، فيرى قاسم أنه يتعلق بالطبيعة الأساسية للجماعات الدينية والمسلحة منها خاصةً، فهي إما طبيعة دينية متشددة أو ذات "منطق ضيق"، لكنها في كل الأحوال "تستثمر البؤس لتستقطب الكارهين للحياة". ويختتم قاسم حديثه بالقول: "في ظل واقع بائس، فقير، وخالٍ من أبسط مقومات الحياة، لا تجد الفنون مكانًا"، لافتًا إلى أن الجماعات الدينية المتشددة، "تجد ملعبها في هذا الوضع، ودائمًا ما تسعى لذلك".
ويبقى هدف الجماعات الدينية الأساسي، المضيّ نحو حياة خالية من أي نوع من الفنّ الذي يعبر عن مشاعر الناس، وهُويتهم. وتعتقد الباحثة هديل الموفق، أن هذه الجماعات الدينية المتشددة "لن تتوقف عن قمع الفنون، سواء كنا نتحدث عن الحوثيين أو الإصلاحيين أو السلفيين وغيرهم"، حتى يكون ولاء اليمنيين الأول لمن يقدم نفسه ممثلًا للدين، عوضًا عن إعطاء الأولوية في الولاء لوطنهم والقيم التي تجمعهم وتحدد هُويتهم كشعب. وتستدل على ذلك بتركيز القمع على الفنون التي لا تخدم أجندات هذه الجماعات المتشددة بالدرجة الأولى.
كما تتحدث الموفق عن بُعد آخر لدى الجماعات الدينية المتشددة في قمعها للفنون، ذلك أنها لا تسعى لإنهاء الفنون بشكل عام، بل لاستبداله بفن خاص بها. فجماعة الحوثيين [أنصار الله] اليوم، تنتج وتروّج لفنّ "الزوامل" التي تدعو الناس للقتال في صفوفها وتهاجم من خلالها رموز الهُوية اليمنية الضاربة في القدم، وبموازاة ذلك، طالما أنتج حزب الإصلاح وهيئاته التنظيمية، الأناشيد الدينية التي تروج لأفكاره وتستقطب الناس للالتحاق بصفوفه ومناصرة القضايا الدينية من منظوره. غير أنهم جميعًا يحاربون ويقمعون كل فنّ يخالف أشكال الفن الذي ينتجونه. وتختتم الموفق حديثها بالقول: "المشكلة أن هذه الجماعات تنظر إلى الفن كبروباغاندا [دعاية] للترويج لأفكارهم ومشاريعهم الأحادية، ولا يرونه على ما هو عليه؛ تعبير عن مشاعر الناس وهويتهم المتنوعة وإرثهم التاريخي والحضاري".
أثر قمع الفنون على المجتمع
أكثر ما يزعج الجماعات الدينية المنتشرة حاليًّا، أنها ظهرت إلى الفضاء السلطوي والاجتماعي في لحظة زمنية متقدمة، وسبق أن وجد الفنّ طريقه إلى المجتمع اليمني وإلى البلدان الأخرى، وهذا ما جعل الحركة الغنائية، والفنية عمومًا، عصية على الاقتلاع. لذلك تسعى الجماعات الدينية المتشددة للحدّ منها على الأقل، وفي حال حدث ذلك، فسوف ينعكس أثره على المجتمع الذي لن يفرّط بفضائه ومساحته في التعبير عن مكنونات وجدانه وعاطفته. وفي حين ترى الموفق في الفنّ الغنائي "مساحة مهمة للتعبير، وأحد أشكال المقاومة ضد الاستبداد، سواء كان سياسيًّا أو دينيًّا، وأحد أشكال مقاومة الحرب والترويج لثقافة الموت، يرى نبيل قاسم، أن ذلك التأثير على المجتمع من قبل الجماعات الدينية المتشددة، سبق أن حدث بدعم دولي، وتوجه عالمي.
ويوضح قاسم وجهة نظره بالقول: "تأثير الجماعات المسلحة والمتشددة دينيًّا على المجتمع، كان منذ فترات سابقة تم فيها تعميم التطرف، وفرضه على المجتمعات، فقد كان التطرف الديني يحظى بدعم محلي "الدولة"، ودعم إقليمي تقوده السعودية، ودعم دولي بقيادة أمريكا، وأوروبا". ويضيف: "الآن الوضع في طريقه للتغيّر؛ خذ التحولات التي تحدث في مجتمع السعودية كمثال، فقد كانت السعودية هي الداعم الرئيسي للتطرف، لكن الأمر تغير مؤخرًا".
في الأخير، لا يخلو المشهد اليمني الراهن، سياسيًّا وثقافيًّا واجتماعيًّا، من حالة إجماع على أن السلوكيات المتطرفة -مهما كانت دوافعها- لن تقضي على الفن والغناء، كونه متجذرًا في وعي المجتمع أكثر منه في أصوات المغنّين والمطربين أنفسهم، كما أن ذلك التوجه من قبل الجماعات الدينية ليس بجديد، بل قديم جدًّا، ومنذ أن ابتدأ، لم يستطع تحقيق أي انتصار أمام الفن؛ لأن الفن في كل يوم يزدهر أكثر، لا سيما بموضوعاته المتعلقة بتفاصيل حياة المجتمع، وارتباطه بأفراحه ومآسيه.