اضطرت فائزة المحمدي إلى خوض تجربة جديدة في التعليم، بعد أن وجدَت صعوبة في مواصلة تعليمها الجامعي عند عودتها مع أسرتها إلى اليمن قبل أكثر من عشر سنوات، حيث كانت تقيم في المملكة العربية السعودية، والتي أكملت فيها فائزة تعليمها الأساسي والثانوي، غير أنّها لم تتمكن من استخراج شهادتها للثانوية العامة التي تُمكِّنُها من الالتحاق بالتعليم الجامعي في اليمن.
تقول فائزة، التي لجأت إلى "المجمعات المسائية" في حضرموت، لكي تتمكن من نيل شهادة الثانوية المجازة من وزارة التربية والتعليم؛ إنّها خاضت رحلة طويلة في التعليم والعمل معًا، فرحلتها كانت تسير بخطوات ثابتة ومتزامنة، حيث كانت تعمل مربية في رياض الأطفال، ثم مديرة لمركز الضياء للتدريب والتأهيل بالمكلا، قبل أن تلتحق بكلية الشريعة والقانون في جامعة حضرموت والتي تخرّجت منها هذا العام.
وبرز نظام المجمعات المسائية في التعليم الخاص بمحافظة حضرموت، كملاذ رئيسي مهمّ لفئة كبيرة من الفتيات والنساء في إكمال تعليمهن، وهو ما حدث بالفعل. فالكثير منهن اليومَ أصبحن جامعيّات وعاملات، ولهن أدوارٌ فاعلة داخل المجتمع الحضرميّ.
ويعتبر "التعليم" من أهم الفرص التي تُمنَح للإنسان ليبدأ من جديد في مجتمع عُرف عنه منذ القدم حبّ العِلم ونشره، فقد أولوا اهتمامًا كبيرًا بالتعليم، ذكورًا وإناثًا، وهو السبب الذي استدعى كثيرًا من الإناث اللواتي فاتهن إكمال تعليمهن، للالتحاق بصفوف المدارس من جديد، واقتناص الفرصة التي هنّ بحاجة لها، خاصة أنّ أغلبهن انقطعن لفترات طويلة عن المدرسة، ويبحثن عن مكانٍ يراعي ظروفهن كأمهات أو عاملات، وبذات الوقت يتعلمن.
وتؤكّد المحمدي، أنّها التحقت بالجامعة إلى جانب استمرارها في العمل، دون أن يؤثّر عليها في مواصلة تعليمها الجامعي، بل كان عبارة عن حافز ودافع كبير لها بالرغم من صعوبة التوفيق بين العمل والتعليم.
إصرار وتحدٍّ
يُعرَف عن النساء والفتيات في حضرموت حبّهن للتعليم، والذي يضعنه كجزءٍ لا يتجزّأ من الحقوق التي ينبغي أن تكون مكفولة لهن بصورة بديهية. هذا الشغف شجّع السلطات هناك على إنشاء "المجمعات المسائية" التي كان افتتاحها قبل ما يقارب ستة أعوام. شكّل إنشاء المجمعات المسائية بعد ذلك، دافعًا لدى كثيرٍ من النساء للالتحاق مجدّدًا بصفوف الدراسة وإكمال مراحلهن التعليمية. لا سيما أنّ هذه الصفوف لا تختلف كثيرًا عن المدارس النظامية المتعارف عليها. وتعدّ المجمعات المسائية خطوة هامّة تُحسَب لصالح مكتب التربية في محافظة حضرموت، التي تميّزت بهذا النوع من المدارس عن بقية محافظات الجمهورية.
المجمعات المسائية قد تكون البديل المناسب للمتضررين من هذه الحرب، بالنظر إلى نجاح التجربة الحضرمية لهذا النوع من المدارس، إذ تحظى بتواجد خمس مجمعات للذكور والإناث.
تقول فاطمة باراس، وهي مختصة في الخدمة الاجتماعية، ومعلمة متعاقدة في مجمع فوة المسائي للطالبات: "إنّ أبرز المعوقات التي تواجه الفتيات الراغبات بالالتحاق بالمجمعات المسائية هي الأهل، فكثير من الأهالي ما زالت تحكمهم العادات التي ترفض إكمال الفتاة تعليمها، إضافة إلى الزواج المبكر، وانخفاض المستوى المعيشي لدى تلك الأسر، بل إنّ كثيرًا من الفتيات اللواتي اجتزن عقبة منع الأهل ونظرة المجتمع بشق الأنفس؛ قد يضطررن إلى الانسحاب لضعف القدرة المادية على تحمل تكاليف المواصلات، التي أصبحت عائقًا يكاد يساوي في قوته حرمان الفتيات من التعليم بسبب المجتمع".
وتذكر باراس، أنّ من أبرز العوامل التي دفعت الفتيات للالتحاق بالمجمعات المسائية هو حاجة الفتاة إلى إثبات قدرتها على المساهمة في تسيير مركب الحياة كشريكة مكافئة للرجل، وقدرتها على ذلك يجعل من الحياة أكثر فاعلية، حيث يتشاركان المسؤولية معًا، كتعليم الأبناء، وتحسين المستوى المعيشي من خلال ازدياد فرص حصولهن على عمل، أو تحسين المستوى الوظيفي لهن في ظل الأزمة الاقتصادية التي يعاني منها اليمن، بسبب الحرب المستمرة منذ ما يقارب الثمانية الأعوام.
ذكورية المجتمع وتأثيرها على التعليم
في مجتمع يُعرف بسلطته الذكورية لدى شريحة واسعة، حيث يرون أنّ وظيفة المرأة الأساسية هي العمل في المطبخ والقيام بالأعمال المنزلية إضافة إلى تربية الأبناء، واجهَت العديدُ من الفتيات اللواتي حُرمن من حقّهن في إكمال المراحل التعليمية، الكثيرَ من الصعوبات في إقناع المجتمع، حين وضعن حدًّا لهذه الصورة النمطية الخاطئة التي رسّختها العادات والتقاليد عن دور المرأة التقليدي، وإيمانهنَّ بها كشريك فعَّال في المجتمع وللرجل في مختلف المجالات. ولا سيما أنّ ذكورية المجتمع وتأثيرها على الكثير من نواحي الحياة، سببٌ رئيسي في التخلُّف والتراجع لدى فئات عديدة من المجتمع دون استثناء، فحتى الذكور يرضخون للضغط المجتمعي ويذهبون للالتحاق بالتنجيد في المعسكرات أو خلف الثارات، أو الغُربة خارجَ البلاد.
وتشدّد المحمدي على وجود صعوبات تواجهها الفتيات والنساء بسبب تعقيدات العادات والتقاليد بحقهن، وقالت: "لديَّ زميلات واجهن صعوبات شتى بسبب الأهالي والزواج ثم الأطفال، ولا شك أنّ ضغط المجتمع له دورٌ كبير في هذه الصعوبات التي تتحمّلها المرأة وتكون سببًا أساسيًّا في عدم إكمال تعليمها، وأيضًا هنالك مَن تجاوزَت هذه الصعوبات وأكملت دراستها، ومنهن من التحقن بالجامعة". وتضيف: "قد تأتي فتاة من وقت لآخر تطلب الانسحاب من الدراسة لسببٍ ما، لكنّني أحثّهن على الاستمرار، فالدراسة هي عبارة عن امتدادٍ لكِ، وينبغي أن يكون امتدادكِ مُستمِرًّا، بينما العمل يُتعوّض".
ضعف التعليم أزمة مستمرة
أثّرت الحرب الدائرة في اليمن منذ العام 2015، على التعليم في البلاد بشكل كبير، إذ يؤكّد في هذا السياق تقرير صادر عن منظمة اليونيسف، أنّ ما يقارب 6 ملايين طالب وطالبة قد طالهم الضرر من اضطرابات التعليم خلال فترة الحرب، وهو ما سيكون له تبعات هائلة على المدى البعيد، وفي إشارة إلى الفترة التي سبقت جائحة كورونا؛ فقد ذكرت الإحصائيات أنّ ما يقارب المليونَي طفل كانوا خارج العملية التعليمية، وتتعرّض الفتيات اللواتي تسربن من الصفوف الدراسية للزواج المبكر، بينما يصبح الفتيان المنقطعين عرضةً للتجنيد القصري.
وكأحد الحلول لهذه الأزمة، أشارت شفيقة باعمر، مديرة مجمع فوة المسائي للطالبات، إلى أنّ المجمعات المسائية قد تكون البديل المناسب للمتضررين من هذه الحرب بالنظر إلى نجاح التجربة الحضرمية لهذا النوع من المدارس، إذ تحظى بتواجد خمس مجمعات للذكور والإناث؛ اثنان في فوة، واثنان في المكلا، وواحد في منطقة روكب، كما أشارت إلى أنّ الإقبال يزداد عامًا بعد عام، على هذه المجمعات، وخاصةً في مستويات النقل كالصف الأول الثانوي، وتتراوح أعمار الطالبات المنتسبات من أوائل العشرينيات وقد يتجاوزن الخمسين من العمر في حالات قليلة، لكنها موجودة.
وكان لهذه التجربة الفريدة التي حظيَت بها مدن حضرموت من خلال هذه المجمعات المسائية والتي تستقبل الطلاب والطالبات من مختلف المناطق اليمنية، أثرها الفعَّال على النازحين من مدن الحرب والذين تقطّعت بهم سبل الأمان في مدنهم وقراهم وفتحت لهم هذه المجمعات فُسحة من الأمل لترميم ما حطمته الحرب، علَّهم يحظون بفرصة للاستمرار بالعيش بطريقة فاعلة وإيجابية في المجتمع، علَّ هذه التجربة الناجحة تلقى صداها في بقية المناطق والمدن اليمنية لتتكرر التجربة وتتضاعف النجاحات وتقل نسبة الأمية التي تنخر في بناء الوطن من أعمق جذوره.