"الله يدّي لك"

الرخصة التي يمنحها ضحايا الصور النمطية
محمد فيصل حيدر
July 20, 2024

"الله يدّي لك"

الرخصة التي يمنحها ضحايا الصور النمطية
محمد فيصل حيدر
July 20, 2024
الصورة لـ: علي السنيدار- خيوط

كنتُ في يومٍ من الأيام أستند على إحدى السيارات الفارهة، على باب السائق تحديدًا، لمحت فجأة شخصًا رثّ الثياب وتبدو عليه علامات التسول، قال لي في نبرة بدَت وكأنه أراد أن يطلب شيئًا ما: "لو سمحت يا أستاذ...".

لم يستطع إكمال حديثه؛ لأنني قلت له على الفور: "الله يدّي لك"؛ الكلمة التي تم الاعتياد على قولها في مثل هذه المواقف! لكنه سريعًا واصل حديثه لإكمال ما بدأه: "الله يدي لك أنت يا أخ، ابتعد فهذه سيارتي، أريد أن أركب".

حسنًا، كنت سأصبر قليلًا حتى يكمل ذلك الرجل كلامه الذي بدأه: "لو سمحت"، ولكن الصورة النمطية التي تشكّلت في ذهني مسبقًا عن مُلّاك السيارات الفارهة الذين نراهم في الإعلانات هي من دفعت "السيالات العصبية" في دماغي لتلك الاستجابة السريعة حين قلت له: "الله يدي لك".

نعم "الله يدي لك"، الله يدي لك ربطة عنق وبدلة أنيقة على النحو الذي نراه في الإعلانات؛ حتى لا يقع غيري في مثل هذه المواقف المحرجة مجدّدًا.

أنماط ومفاهيم مختلة

في الواقع، إنّ هنالك اليوم أمورًا كثيرة في حياتنا تشبه إلى حدٍّ كبير ما حدث معي، فالكثير منا تواجه سيالاته العصبية مشكلات كبيرة في الاستجابة لكثير من الأحداث والمواقف، فالقوالب النمطية التي أدرجناها في قواميس عقولنا مسبقًا مشكلة حقيقية تحتاج إلى وقفة، وغالبًا ما سوف تدفعنا إلى مواقف محرجة أو قرارات خاطئة إذا لم نقُم بمراجعتها بجدية.

نحن بحاجة للوقوف أمام مختلف الصور والأنماط في وضع كهذا، فقد كنا نرى كثيرًا من الناس يخوضون في الشأن السياسي والاجتماعي بلا أي قيمة معرفية حقيقية، كلُّ ما في الأمر أنّهم تشكّلوا على الهيئة التي رآها ضحايا الصور النمطية بمثابة رخصة، فتسنى لهؤلاء عبرها الحديث والمشاركة في أكثر الأمور تعقيدًا وجدية.

هنالك الكثير من ضحايا الأنماط، وهنالك الكثير ممّن أدركوا هذه الحقيقة، ولكنهم شرعوا لتسويق ذواتهم وقولبتها على النمط الذي صوّره الناس في عقولهم وألبسوه صفة العمومية، فمثلًا ذلك "المفرط" في التباهي والاستعراض بمظهره، هو يدرك أن بعض الناس ينظر إلى أصحاب البدلات الأنيقة وربطات العنق نظرة احترام وتقدير؛ اعتقادًا منه بأن النمط الذي يظهر عليه ينم عن الفهم والمعرفة والأستاذية. 

وذلك السياسي يدرك أنّ الجمهور يتأثر بطريقة الكتابة المنمقة والإنشائية؛ اعتقادًا منه أنّ ذلك معيارٌ لمدى الإدراك والوعي السياسي، فيباشر بتسويق نفسه من خلال مقالات محشوة بكَمٍّ هائل من المصطلحات والجمل الإنشائية البديعة ليداعب من خلالها تصورات الجمهور البسيط؛ الأمر الذي يمكنه من تمرير أفكار مغلوطة وغير موضوعية وغير منطقية، وفي كثير من الأحيان هدّامة وكارثية .

الحديث عن بعض السياسيين الذين يُروِّجون لأنفسهم بالطريقة ذاتها المذكورة آنفًا، تعيد إلى الأذهان التذكير بالمشكلة القائمة في الصورة النمطية التي كوّنها الناس عنهم وليس فيهم؛ لأنّ الصورة بالتأكيد تختلف كليًّا عن الحقيقة التي هم فيها؛ فهذه كانت نظرتي وتشخيصي لهم في نقاشٍ مع أحد الأصدقاء، الذي قاطعني بتهكم، قائلًا: "دعك من المصطلحات هذه، هم يمارسون مغالطاتهم عبرها فلا تكن واحدًا منهم".

الاستناد على واقع مختلف

بالتأكيد هناك اتفاق لا اختلاف، يتركز فقط في استخدام المصطلحات، الذي يأتي على شكل سخرية وتهكم أحيانًا كما في الحالة التي ذكرتها سابقًا، بطريقة تحاول أن توضح مدى استغلالهم للمفردات الجادة وتمييعها، وهذا ما لمسته من المزاج العام مؤخرًا، فالمعايير الذي كانت حُجّة لهؤلاء الساسة أو المثقفين أصبحت حجة عليهم، وهذا ما يضحك في حقيقة الأمر.

نحن بحاجة للوقوف أمام مختلف الصور والأنماط في وضع كهذا، فقد كنا نرى كثيرًا من الناس يخوضون في الشأن السياسي والاجتماعي بلا أي قيمة معرفية حقيقية، كل ما في الأمر أنّهم تشكّلوا على الهيئة التي رآها ضحايا الصور النمطية بمثابة رخصة، فتسنى لهؤلاء عبرها الحديث والمشاركة في أكثر الأمور تعقيدًا وجدية.

وفي الحقيقة أنّ ذلك لا يعدو إلّا تجسيدًا واقعيًّا للحادثة التي ذكرتها في بداية المقال، فالأيام أخبرتنا بأنهم -ورغم الأناقة التي كانوا يبدون عليها- كانوا يستندون على مفاهيم وقيم ومبادئ ليست ملكهم في الأساس، ولم نكن لنعلم بذلك لولا أن شاءت الأحداث أن تُخرِج أناسًا آخرين قاموا بتفنيد ادعاءاتهم وتعريتهم أمام العامة، في مشهد مماثل لِمَا ذكرته في بداية المقال .

•••
محمد فيصل حيدر

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English