تتبنى دولة الإمارات العربية المتحدة سياسةً خارجيةً توسّعيةً تجاه البلدان العربية التي انهارت أنظمتها إبّان ثورات الربيع العربي، إذ اتخذت الإمارات النطاق الجغرافي العربي مجالاً حيوياً لبسط نفوذها الإقليمي. وتمثل اليمن إحدى ميادين القتال التي اقتحمتها بغية تحقيق هيمنتها الإقليمية المرجوة. فيما صنف مراقبون محليون السياسة الخارجية الإماراتية تجاه اليمن كأكبرَ تهديد يواجه الوحدة اليمنية، بعد أن تنصلت الإمارات من مسؤوليتها الأخلاقية تجاه هذا البلد المترنح على واقع الحرب، ومارست سياسات غير مقبولة هتكت ببنية ومؤسسات الدولة.
شكل الطموح الإماراتي المتنامي تحولاً جذرياً في سياستها الخارجية، الأمر الذي تطلب تعظيم قوتها الصلبة والناعمة على حدٍّ سواء؛ فعلى صعيد القوة الصلبة، عوّضت الإمارات عن مساحتها الصغيرة ببناء جيش حديث بقوات محلية مدربة بصورة احترافية، ووكلاء محليين خارج حدودها، وخاضت سباق تسلّحٍ محموم مع منافسيها الإقليميين. ووصفها خبراء دوليون بـ"سبارتا الصغيرة"، لتصوير مدى تنامي قوة أبو ظبي الصلبة، ورغبتها بدخول مجازفات عسكرية لبلوغ مراميها السياسية والاقتصادية.
تعتبر أبو ظبي الإمارة الأغنى في الدولة، تليها دبي. وتجني أبو ظبي ثروتها الضخمة بصورة رئيسة من عائدات النفط، بينما تكتسب دبي عائدات طائلة من السياحة وأعمال الموانئ والشحن والبناء. ويرى بعض المهتمين بالسياسة الخارجية الإماراتية أن "موانئ دبي" تمثل مركز ثقلٍ في الطموح الإماراتي العابر للحدود. وعلى صعيد القوة الناعمة، تمول "موانئ دبي" مئات الفعاليات والأنشطة العالمية في مختلف الجوانب الحياتية كالفن، والرياضة، والثقافة، والمساعدات الإنسانية من أجل تعظيم القوة الناعمة للإمارات العربية المتحدة. وتحقق "موانئ دبي" أرباحًا ضخمة وتمتلك حصة سوقية وازنة في السوق العالمية للموانئ، حيث تمتلك 6.7 ٪ من حصة السوق العالمية، خلف "Hutchison Port Holdings" التي تمتلك 6.8 ٪. ويبدو أنها أيضاً بوصلة لتعيين اتجاهات القوة الخشنة لدولة الإمارات في المنطقة.
المجازفة العسكرية في اليمن
منذ انطلاق الحملة العسكرية بقيادة السعودية والإمارات في اليمن، أثناء محاولة جماعة أنصار الله "الحوثيين" المدعومة من إيران السيطرة على العاصمة المؤقتة عدن في شهر آذار/ مارس 2015، تصدرت الإمارات المشهد العسكري على الأرض، حيث نشرت المدرعات والدبابات وطائرات الهليكوبتر الهجومية بواسطة سفنها الحربية في مناطق مختلفة من اليمن، فضلا عن المئات من الجنود الإماراتيين. ودربت وسلحت قرابة 90 ألف جندي يمني -بحسب مسؤول إماراتي رفيع- انخرطوا في تشكيلات عسكرية تحمل لها الولاء، وقدمت المساندة في الخطوط الأمامية عبر تنفيذ هجمات جوية مكثفة لإحراز تقدمات عسكرية على الأرض.
وفي منتصف العام 2019، أعلنت الإمارات عن سحبِ كامل قواتها المنتشرة في اليمن، بيد أن لفيفًا من قواتها ما يزال متواجدًا في قواعد لإدارة الأعمال العسكرية الخاصة بوكلائها المحليين. وعلى نقيض المملكة العربية السعودية التي ألمحت علانية بأن تدخلها العسكري في اليمن انطلق بدواعي المساس بأمنها القومي، لم تفصح دولة الإمارات بصورة واضحة عن أغراضها الفعلية التي قادتها إلى تنفيذ عمليات عسكرية واسعة النطاق في اليمن. ومع ذلك، تكشف تحركاتها العسكرية على الأرض مساعيها المبطنة؛ حيث ترمي لوضع يدها على السواحل والجزر اليمنية وموارد الطاقة، والابتعاد قدر الإمكان عن إقحام قواتها في قتال بلا منفعة في شمال ووسط اليمن.
تُنفق الإمارات أموالًا طائلة لتلميع صورتها وبناء قوة ناعمة على مستوى العالم، وتقوم بعملية إنتاج الأفلام والبرامج والكتب التي تروج لمهامها البطولية والنبيلة في اليمن. بيد أن واقع الحرب أظهر وجه الإمارات المناقض والمتسم بالوحشية المفرطة، إذ لا يمكنها غسل وصمة العار التي لحقت بها بسبب ملفها الإنساني المخزي في اليمن، فقد ارتكبت جرائم وانتهاكات جسيمة ضد المدنيين يرقى البعض منها إلى جرائم الحرب، كقتل وجرح آلاف المدنيين، وتعذيب وإخفاء مئات المعارضين لسياستها العدائية في اليمن. وقد أدت هجماتها الجوية العشوائية التي روعت مدن بأكملها إلى إلحاق دمار واسع النطاق في البنية التحتية بما في ذلك المرافق الطبية والخدمية والمدارس والطرقات.
حذرت وكالات دولية أممية مراراً من التداعيات الإنسانية للحرب التي تخوضها الإمارات في أشد بلدان المنطقة العربية فقراً، والتي تسببت في وضعها على شفا مجاعة عانى منها نحو 60 % من سكان البلاد. كما وصفت الأزمة الإنسانية في اليمن بالأسواء على مستوى العالم منذ عقود. وتقدم دولة الإمارات مساعداتٍ إنسانية محدودة لليمن، على الرغم من حجم المسؤولية التي تتحملها جراء الدمار الذي خلفته وعم أرجاءً واسعة من البلاد، سيما في ظل انقطاع الرواتب والخدمات الأساسية، مثل: الكهرباء، والتعليم، والصحة، والمياه الصالحة للشرب، إلى جانب انتشار الأمراض المعدية والأوبئة.
وقد مرت مفاوضات السلام بين أطراف الشتات اليمني بمسارات متعرجة دون دعم إماراتي يذكر. والمفارقة أن الهدنة لم تكن نتيجة جلوس الأطراف اليمنية المتناحرة على طاولة مفاوضات واحدة، بل بالتزامن مع الهجمات العسكرية التي نفذتها جماعة أنصار الله "الحوثيين" بطائرات مسيرة ضد مواقع حيوية في إمارتي أبو ظبي ودبي. كما يبدو أن هذا التصعيد العسكري مثّل منعرجًا خطيرًا في تاريخ الحرب اليمنية المحتدمة منذ ثمانية أعوام، بوصفه تصعيدًا عسكريًّا منفلتًا يصعب السيطرة عليه والتحكم بأضراره؛ ما أجبر أبو ظبي على إعادة حساباتها الخاصة بنمط سياستها الخارجية المتبعة.
العلاقات اليمنية الإماراتية
منذ دخول الإمارات في خط الأزمة اليمنية، تواجه العلاقات بين البلدين تحديات متزايدة وضعت الحكومة المعترف بها دولياً في قلب ظروف أمنية عصيبة، مع استمرار الإمارات بتبني سياسة شديدة التدخل في الشؤون اليمنية، حيث تعمل دولة الإمارات على تغذية عناصر التوتر في اليمن، كما شكّلت وسلّحت فصائل عسكرية موازية للقوات الحكومية، تنتمي معظمها إلى جماعات دينية متشددة، وأخرى ذات نزعات انفصالية، باتت تشكل مصدر تهديدٍ على وحدة وسلامة الأراضي اليمنية، فضلاً عن أنها مثلت تحديًا فعليًّا أمام مساعي تكوين دولة مدنية حديثة تُؤمِن بالأسس الديمقراطية وقيم الحداثة، وعلى المجتمع الدولي أن يتوقع أن هذه الجماعات المتطرفة ستولد أخطارًا أمنية مستقبلية عابرة للحدود، ما سيضع المنطقة في وضع قابل للانفجار في أي لحظة.
أغلقت دولة الإمارات النوافذ الدبلوماسية والسياسية في وجه الحكومة المعترف بها دولياً طيلة فترة الحرب. بذلت الحكومة بدورها جهودًا حثيثة للتقارب والتواصل الدبلوماسي المنتظم معها، وتهيئة الظروف لاستعادة مؤسسات الدولة وتحقيق الاستقرار في اليمن، إلا أن جهود الحكومة ضلت طريقها نحو فهم المخاوف الإماراتية، في الوقت الذي لم تتمكن القوات الحكومية من فرض هيمنتها على مناطق يمنية عدة في جنوب البلاد منها العاصمة المؤقتة عدن الواقعة تحت حكم قوات المجلس الانتقالي الجنوبي المدعومة إماراتياً، حيث باءت مساعي الحكومة لتقديم الخدمات الأساسية وصون الأمن لهذه المناطق بالفشل.
في الواقع تتصرف دولة الإمارات العربية المتحدة بذهنية استعمارية في سبيل تحقيق رزمة من الأهداف، على رأسها منعُ استثمار المنافذ البحرية وتعطيل تطوير أي بنى تحتية بحرية فيها، حيث تحكم القوات المدعومة إماراتياً سيطرتها العسكرية على طول الساحل اليمني. بيد أن الإمارات أساءت التقدير تجاه أشقائها، حيث لا يمكنها بناء نفوذها الإقليمي على حساب موارد واستقرار بلدان الجوار، فحتمية الجغرافية تفرض عليها تقويم الاعوجاج الذي أصاب سياستها الخارجية، وإعادة ترتيب أوراقها وأولويتها بغرض تعزيز الشراكة التجارية مع محيطها الإقليمي وضمان الاستقرار الأمني والسياسي في المنطقة، واستبدال التدخل العسكري والحرب بالوكالة بالحوار والدبلوماسية.
ومع ذلك، أخذت العلاقات بين الجانبين بعد التقارب السعودي الإماراتي حول الملف اليمني منحىً آخرَ، لا سيما بعد التوقيع على "اتفاق الرياض" بين الحكومة اليمنية والمجلس الانتقالي الجنوبي المدعوم إماراتياً، وتشكيل مجلس الرئاسة بقيادة الدكتور رشاد العليمي في شهر أبريل/نيسان 2022، الذي استهل زيارته الإقليمية مع أعضاء المجلس السبعة إلى دولة الإمارات في نفس الشهر، والتقى برئيس دولة الإمارات محمد بن زايد في ثلاث مناسبات خلال العام 2022، كما زار وزير الدفاع اليمني في الحكومة المعترف بها دولياً الإمارات في أواخر نوفمبر/تشرين الثاني 2022 من أجل توقيع مذكرة تفاهم عسكري وأمني يتعلق بمكافحة الإرهاب، بالإضافة إلى زيارات رسمية قام بها وزراء يمنيين لتهدئة المخاوف الإماراتية.
من المسلم به أن الحكومة اليمنية بحاجة إلى دعم سياسي واقتصادي من الإماراتيين، ما يستدعي إجراء حوار دبلوماسي معها بانفتاح وبنَفس هادئ، وبما يضمن إعادة صياغة العلاقة الثنائية بصورة يتوافق عليها الطرفين، والنظر في مسألة إنشاء دائرة في الخارجية اليمنية تختص بتطوير العلاقات مع الإمارات وتنمية سبل التعاون، وشق مسارات جديدة وفق المصالح المشتركة بما فيها مسار التعاون مع شركة "موانئ دبي" لكن بشروط تفاوضية متقدمة، إلى جانب ضمان أمن دولة الإمارات والدفاع عن المنافع المتبادلة بين البلدين، وتوفير دعم سياسي على المستوى الإقليمي والدولي لدولة الإمارات. كما يجب تلقف الرسائل التي بعثتها دولة الإمارات في افتتاحية صحيفة البيان المملوكة من حكومة إمارة دبي حول شبح التقسيم الجغرافي لليمن، بإيجابية، حتى وإن تم حذفها.