بين فبراير 1962 وفبراير 2022.. ما الذي تغيّر؟!

في ذكرى إضراب طالبات كلية البنات بعدن
د. أسمهان العلس
February 10, 2022

بين فبراير 1962 وفبراير 2022.. ما الذي تغيّر؟!

في ذكرى إضراب طالبات كلية البنات بعدن
د. أسمهان العلس
February 10, 2022

تخوض المرأة اليوم، على طول البلاد العربية وعرضها، صراعًا مصيريًّا مع بعض القوى التي تستهدف ذاتها وصيرورتها ودورها الاجتماعي العام. وتسعى هذه القوى إلى طمس كيان المرأة ومحاصرتها وتهميشها واحتوائها في قالب اجتماعي وفكري محدد يختزل دورها ويرسم لها مسارات المشاركة المجتمعية والحضور السياسي وَفقَ رؤى فكرية مسبقة، مستخدِمةً في هذا الصراع كلَّ ما تمخّضت عنه بعض الاجتهادات الفكرية من قراءات وتفسيرات واسترجاع قاصر للمخزون الثقافي للأمة العربية والإسلامية، كجزء من المشروع الثقافي الذي يصوّب سهامه بدرجة رئيسية إلى الكيان الثقافي العربي الإسلامي، وتستقصد به المرأة تحديدًا، لما تمتلكه من خاصية المحافظة والتواصل والصون للمكنون الحضاري.

أثارت قضايا المرأة الجدلَ الواسع في الأوساط الثقافية العربية منذ أن فجّر قاسم أمين دعوته إلى تحرير المرأة. وتحت تأثير دعوته الثقافية أفاض المتنورون العرب في التعبير عن اهتماماتهم بقضايا المرأة وعلاقتها بتطور المجتمع. وقياسًا بالمتغيرات والتطورات الاجتماعية والسياسية التي مرَّ بها المجتمع العربي في مطلع القرن العشرين الماضي، فإن الكثير من الرؤى والمناهج المحدّثة في قضايا المرأة قد صيغت، ورسمت مسارات واجتهادات أثارت الحراك المجتمعي العربي بين أوساط النساء والرجال على حدٍّ سواء. كما اختطت ثورة 23 يوليو 1952، في مصر منهجًا واضحًا من قضايا المرأة، سارت على دربه العديد من المجتمعات العــربية فيما بعد. وانتهجت حركات التحرر العربية التي تعاقبت في البلدان العربية الخاضعة للسيطرة الاستعمارية، منهجًا مماثلًا للمرأة في أواسطها، بل وحددت مكانها في مرحلة البناء الوطني قوةً مؤسِّسة مع الرجال للأنظمة العربية الوطنية على قاعدة المواطنة المتساوية التي شكّلت أساسًا للحقوق السياسية بين المواطنين في الدساتير الوطنية والقوانين المرتكزة عليها.

واليوم، وبعد أن دخلت المرأة القرن الواحد والعشرين، فإن الحديث عن حقوق المرأة في التعليم والعمل والمشاركة السياسية ما زال يتواتر على مائدة النقاش والتحاور المجتمعي والرسمي في الأوساط المحلية والدولية، بعد أن تزايد انتشار ونفوذ التيار الساعي للعودة بالمرأة إلى دهاليز الظلام وخدور الحريم.

ونحن أمام تداخلات الواقع، فإن الموقف من حقوق المرأة يزداد هلامية ويبتعد عن تثبيت مضامين حق المواطنة، فإنه جدير بنا، ونحن في شهر فبراير (2022)، أن نستلهم من الذاكرة التاريخية الوطنية تجربة إضراب كلية البنات في عدن في شهر فبراير/ شباط 1962، ندرس فيها الممهدات، وظروف النشأة وتأثير الواقع الوطني والعربي، ومواقف السلطة البريطانية من الإضراب، بل ومخرجات ذلك الإضراب.

عاشت كلية البنات قبل أيام قليلة من الإضراب، صدامًا بين عميدتها وبعض طاقم التدريس من المعلمات الأردنيات، بعد أن افتعلت العميدة دوافعه، وحُسم الخلاف في آخر الأمر لصالح العميدة، وتم ترحيل المدرسات إلى الأردن، وسط احتجاج الرأي العام المحلي.

إضـراب الطالبـات 

حكمت بريطانيا عدن منذ 1839 حتى 1967. ورسمت هدفًا محددًا لذلك الحكم تمثّل بالسيطرة على الموقع الجيوبولوتيكي للمدينة وخصائص مينائها وسيطرتها على طريق التجارة العالمي الرابط بين الشرق والغرب. ولأغراض استثمار ذلك الهدف، كانت خطة الإدارة البريطانية تتجه نحو تمدين عدن وعصرنة الحياة فيها وتأهيلها ميناءً دوليًّا، وقاعدة للقوات البريطانية في الشرق الأوسط. وكان إرساء النظام التعليمي للجنسين نهجًا لهذه الإدارة، وإن تفاوت في توقيت الخدمة التعليمية ونوعيتها، وفقًا للمصالح البريطانية في عدن من المخرجات التعليمية، لكن إقرار هذه الخدمة للجنسين وجدت مجالها في اللوائح القانونية المنظمة. وفي عام 1956، كان التعليم الثانوي للبنات قد تأسس، وشهد عام 1959 إيفادَ أول دفعة من المرشحات للدراسة الجامعية للجامعات الإنجليزية، لكن الفوارق في الخدمة التعليمية بين البنين والبنات العدنيات كانت ملحوظة. كما أن تمييز الطالبات الأجنبيات عن قريناتهن من العدنيات كان دافعًا محفزًا نحو إضراب شامل قادته الطالبات العدنيات في شهر فبراير 1962، وانضمّ معهن الطلاب العدنيون.

كانت النواقص التي اعترت التعليم الثانوي قد أفرزت أوضاعًا تعليمية مضطربة، وتسببت في عدم كفاية المرحلة الثانوية للبنات، لخلق الفرص المتساوية لهن أسوةً بالبنين. كما خلق مفهوم "العدني" على النحو الذي حدده قانون الجنسية، مجالًا أمام بنات الجاليات المستوطنة لمزاحمة بنات عدن في الفرص التعليمية المحدودة في الأصل. وهيَّأت هذه الأوضاع جميعها دوافع كافية أمام الطالبات للامتناع عن الدراسة وإعلان الإضراب والاعتصام في ساحة الكلية، ومناقشة زملائهن من الطلبة بالتضامن معهن والمشاركة في هذا الإضراب، خاصةً أن دوافعه كانت ترتبط بصميم الحقوق الطلابية.

وكانت كلية البنات قد عاشت قبل أيام قليلة من حدوث الإضراب، صدامًا بين عميدتها وبعض طاقم التدريس من المعلمات الأردنيات، بعد أن افتعلت العميدة دوافعه، وحُسم الصراع في آخر الأمر لصالح العميدة، وتم ترحيل المدرسات إلى الأردن، وسط احتجاج الرأي العام المحلي. ولم يكن هذا الخلاف في حقيقة الأمر، ذا ارتباط بالقضايا التعليمية بقدر ما كان توجسًا من قبل العميدة من حقيقة العلاقة الطيبة التي كانت تجمع هؤلاء المدرسات بالطالبات، وخوفها من تأثيرهن على تشكيل القناعات السياسية لدى الطالبات، مما سيترك آثارًا معادية للسياسة البريطانية بين أوساط الطالبات، وهو الأمر الذي حذرت منه الإدارة البريطانية عند تفكيرها في استقدام المدرسات العربيات للعمل في مدارس البنات.

حددت الطالبات دوافعهن من هذا الإضراب: فصل عميدة كلية البنات- الراعية للسياسة التعليمية في الكلية، ورفع مستوى التعليم فيها من خلال تحسين المناهج، وتوفير المُدرسات المؤهلات، وإلغاء سياسة التمييز بين الشُّعَب الدراسية الواحدة، وتمكين الطالبات جميعًا للتقدم لامتحان "كامبريدج"، والمساواة التامة بين الطالبة العدنية وزميلتها المستوطنة، وإلغاء مادة التربية المنزلية من المناهج الدراسية واستبدالها بمواد أخرى ذات نفع مستقبلي للطالبات. 

فجَّر الإضراب أوضاعًا تعليمية وسياسية لم تؤخذ بالحسبان من قِبَل الإدارة البريطانية، وعلى مدى الأيام الأولى لم تتمكن إدارة المعارف من احتواء الموقف، على الرغم من تلويحها باستخدام القوة العسكرية، كما اضطرت لاحقًا إلى استخدامها لمواجهة المظاهرات الصاخبة التي رافقت هذا الإضراب. واضطر الحاكم العام لعدن إلى توجيه المجلس التنفيذي لعدن لتشكيل لجنة حكومية أهلية مشتركة لبحث السياسة التعليمية في المدارس الثانوية للبنين والبنات، والتي نتج عنها هذا الوضع المضطرب. وقد ضمّت اللجنة أعضاءً حكوميين، هم: سكرتير المجلس التنفيذي سيمانK. W. Simman، وروبرتسون Robertson خبير شؤون المعارف، وإبراهيم لقمان، مسؤول شؤون المعارف، كما مثَّل الأهالي في هذه اللجنة، كلٌّ من: ماهية نجيب، عمر عبدالعزيز شهاب، محمد أحمد سعيد الأصنج، ومحمد حسن عوبلي، واستأنست اللجنة بالخبير الثقافي لإدارة التعاون الفني في وزارة المستعمرات، كريستوفر كوكس. ودلَّ تشكيل هذه اللجنة من شخصيات من ذوي المكانة، وبتكليف من الحاكم العام نفسه، على اتساع نطاق الإضراب واشتداد تأثيره بين الأوساط الأهلية، بشكل سبَّب حرجًا للسلطة البريطانية، التي لم تستطع إنهائه بكل الأساليب، وأصبحت هذه السلطة على يقين تامّ من أن السياسة التعليمية النافذة في المدارس الثانوية قد شكَّلت دافعًا قويًّا لقيام هذا الإضراب، وعليه كلف الحاكم العام هذه اللجنة بالبحث في نواقص هذه السياسة.

على الرغم من اعتراف إدارة المعارف بهذا القصور، فإن هذه الإدارة لم تتخذ إجراءات عملية لمعالجة الأمر الذي عكس خللًا في النظام التعليمي للبنات، إذ لم يصل تقييم الأداء الدراسي فيه إلى مستوى التقييم العام في مدارس البنين، مما عزَّز السياسة التمييزية في الحقوق التعليمية بين الجنسين.

على مقربة من مقر اجتماع اللجنة الحكومية الأهلية، تجمهر الطلبة والطالبات، واختاروا لجنة خاصة من بينهم لتقديم مذكرة توضيحية إلى هذه اللجنة، فيما ظل الباقون معتصمين في الساحة المواجهة لمقر الاجتماع في مبنى المجلس التنفيذي في مدينة التواهي. وقد كانت هذه المذكرة أول أشكال الاتصال بين الطلاب والجهات الرسمية. 

وانشغلت اللجنة منذ تشكيلها وحتى الـ17 من فبراير 1962، بأداء مهامها على النحو الذي حُدّد لها. فقد أُخضِعت السياسة التعليمية للدراسة والتحليل، واهتمّت اللجنة بمعالجة الاختلاف في نظام الامتحان بين البنين والبنات. وربط هذا الاختلاف بمحتوى المناهج المتباينة في الأصل بين الجنسين؛ فقد كان البنين يجلسون لامتحان الثقافة العامة في الوقت الذي تتقدم فيه البنات لامتحان كامبريدج، لكن نتائجهن كانت تُقيَّم بواسطة نظامَي الثقافة العامة وكامبريدج. واعتبرت اللجنة هذا الإجراء في صالح الطالبات، بسبب النواقص التي اعترت النظام الدراسي في كلية البنات. وقد كان من الطبيعي أن تحدد الطالبات موقفهن من نظام الامتحان، وما ارتبط به من نتائج تعليمية سلبية أثرت على توجهاتهن العلمية اللاحقة. وعلى الرغم من اعتراف إدارة المعارف بهذا القصور، فإن هذه الإدارة لم تتخذ إجراءات عملية لمعالجة الأمر الذي عكس خللًا في النظام التعليمي للبنات، إذ لم يصل تقييم الأداء الدراسي فيه إلى مستوى التقييم العام في مدارس البنين؛ مما عزَّز السياسة التمييزية في الحقوق التعليمية بين الجنسين.

حظيت مطالب الطالبات بتأييد ودعم هذه اللجنة التي تمحورت توصياتها بإصلاح نظام الامتحان في كلية البنات، وتأهيل البنات للتقدم للامتحان الموحد مع البنين لنيل شهادة الثقافة العامة. واحتلت سياسة التفرقة العرقية بين الطالبات موقعًا مهمًّا في مناقشات هذه اللجنة، بعد أن تجلّت صورها عبر العديد من الممارسات التي اتبعتها إدارة الكلية بحيث تمكِّن الطالبات المستوطنات من فرصة التركز في شعبة (أ)، والاستعداد للامتحان النهائي. ولم تكن هذه الممارسات بمنأى عن أبعاد السياسة الاستيطانية الهادفة إلى تمكين المستوطنين من التمتع بمزايا التعليم والعمل والهيمنة على مقاليد الأمور في عدن على حساب حقوق المواطن العدني.

وفي مواجهة تأثير هذه السياسة على المستقبل العلمي للطالبات، اقترح الأهالي الأعضاء في هذه اللجنة تحويل كلية البنات إلى مدرسة أكاديمية Grammar School تتساوى فيها الفرص التعليمية لكل الطالبات المنتسبات إليها. 

في 17 فبراير، جلست هذه اللجنة أمام المجلس التنفيذي لمناقشة التقرير الختامي. وفي الوقت الذي كانت هذه التوصيات ترتبط بجوهر العملية التعليمية، إلا أن تنفيذها كان يتطلب جهدًا ووقتًا غير محددين، وتمّ تكليف الحاكم العام لعدن لهذه اللجنة ببحث السياسة التعليمية في كلية البنات. 

وفي 14 مارس/ آذار من العام نفسه، أصدرت إدارة المعارف بيانًا أعادت بموجبه افتتاح المدارس الثانوية للبنين، في الوقت الذي ظلت فيه الدراسة في كلية البنات معلقة، ولم يأتِ بيانُ هذه الإدارة على ذكرها. وفي شهر أبريل، قررت الحكومة -في بيان لها- استمرار تعليق الدراسة في الكلية وإغلاق أبوابها في وجوه الطالبات حتى إشعار آخر. وعللت إصدارها لهذا القرار بحاجتها للبحث في أخذ الضمانات الكافية من الأهالي لعدم تكرار الطالبات لهذا الإضراب مستقبلًا. وخلطت في هذا التبرير بين حُسن السلوك، كضمان أخلاقي محدد، وبين الإضراب كرد فعل للسياسة التعليمية القاصرة، وسلوك وطني ينبغي ممارسته للتصدي لأبعاد هذه السياسة، وقد عكس اللجوء إليه يقظة مبكرة لدى الطالبات ووعي ملحوظ في البحث في مكنون هذه السياسة، ولم يكن تعليق الدراسة في كلية البنات من قِبَل إدارة المعارف سوى إجراء تأديبي تم فرضه على الطالبات نتيجة لاتخاذهن هذا الموقـف.

استنكرت الهيئات الشعبية لجوء السلطة البريطانية إلى محاكمة الطلاب، وتكفَّل الأهالي بالدفاع عنهم وتم تسمية المحامي سعيد حسن صبحي من قِبَل الأهالي، الذي كُلِّف من قبلهم بالترافع أمام المحكمة لصالح الطالبات.

ترك الإضراب تأثيره على الأوساط المختلفة التي تفاوتت في درجات وصور التفاعل معه، بشكل حدَّد موقع هذا الحدث في خارطة الأحداث الوطنية لاحقًا، وكانت الهيئات النسائية سبّاقة إلى التعبير عن موقفها منه؛ فقد دعت جمعية المرأة العدنية في جلسة مستعجلة إلى ضرورة تحقيق المساواة في الفرص التعليمية بين الجنسين، واتباع الأساليب التعليمية السليمة في إدارة العملية التعليمية. كما أدانت المعاملة العرقية غير التربوية التي انتهجتها عميدة كلية البنات، وطالبت بتوقيفها عن العمل. ونادت جمعية المرأة العربية إلى التضامن مع الطلبة والطالبات ومنح الدعم الكامل للقضية الطلابية، واستطاعت هذه الجمعية تنظيم الكثير من أشكال التواصل بين الطلاب والأوساط الوطنية، وقدّمت التسهيلات المختلفة لتمكين الطلاب والطالبات من تسهيل حركتهم بين الأوساط الاجتماعية لعرض قضيتهم، وكان من أهمها تأجير وسائل المواصلات لنقلهم في أثناء تنظيمهم للمظاهرات المتعلقة بالقضية الطلابية. وفي الوقت الذي أسرعت فيه منظمات المرأة للتعبير عن تأييدها لحقوق الطالبات، فإن المنظمات والأحزاب السياسية الأخرى قد تأخرت بشكل ملحوظ عن تحديد موقفها تحت مبرر الحرص على درء شبح السياسة عن هذا الإضراب، تجنبًا لردود الفعل غير المتعقلة للسلطة البريطانية تجاه الطـلاب.

أدَّت المواجهات المتعددة بين الطلبة والقوات الأمنية إلى استخدام القوة من قِبَلها لتفريق المظاهرات وضبط النظام. ونتج عن هذه المواجهات اعتقال 16 طالبًا و6 طالبات هنَّ: نجاة راجح، عائشة سعيد، هيام معتوق مكاوي، منيرة محمد منيباري، عادلة أحمد عوض، ورجاء سليمان، وذلك في 20 فبراير 1962. واتُّخذت الإجراءات لتقديمهن للمحاكمة في 16 مارس من ذلك العام. وأثارت هذه المعاملة موجة غضب شديدة في الأوساط الأهلية، حيث لم يكن المجتمع قد واجه إجراءً مماثلًا ضد المرأة. 

وفي ظل هذا الوضع، استنكرت الهيئات الشعبية لجوء السلطة البريطانية إلى محاكمة الطلاب، وتكفَّل الأهالي بالدفاع عنهم وتم تسمية المحامي سعيد حسن صبحي من قِبَل الأهالي، الذي كُلِّف من قبلهم بالترافع أمام المحكمة لصالح الطالبات، كما اختار عبده حسين الأدهل، محاميًا هنديًّا (دارياوالا Dariwalla) للدفاع عنهن، وتحمّلَ نفقات دفاعه. صدر الحكم ضد الطالبات بالغرامة المالية وضمان حُسن السلوك. وقد مثَّلت هذه المحاكمة حلقة متقدمة في تطور قضية الإضراب، وجاءت سياسة الاعتقال والمحاكمة لتخرج هذه القضية من إطارها التعليمي المحدد، لتكسبها محتوى سياسيًّا واسعًا، إذ حرصت السلطة البريطانية على تصعيد الأحداث إلى الحد الذي أوصل هذه القضية إلى أروقة المحاكم، كنوع من التلويح باستخدام القوة لضمان عدم تكرار ما حدث.

وفي مواجهة هذا الوضع، اشتدت موجة الغضب الشعبي ضد السلطة البريطانية، المنتهجة لسياسة القمع في معالجة القضية الطلابية. وفي الوقت الذي حرصت فيه الهيئات الوطنية على البقاء خارج إطار التفاعل معها، سعيًا منها لتجنيب الطلبة ردود الفعل السيئة من قِبَل الإدارة البريطانية، فإنها قد وجدت نفسها تقتحم محيط التأييد الشامل لهذه القضية. ففي يوم 23 فبراير 1962، دعت الهيئات الوطنية إلى الاجتماع في مقر نادي الإصلاح العربي في مدينة التواهي، واتخذت العديد من الإجراءات لتفعيل هذه القضية في الداخل والخارج. وتم تشكيل اللجنة التعليمية المكلفة بفتح الصفوف الأهلية لاستيعاب الطالبات للدراسة فيها حتى إشعار لاحق، كما اتجهت النية لدى هذه الشخصيات لتأسيس كلية أهلية للبنات.

تواصلت جهود هذه الهيئات مع الجهات الخارجية –العربية والأجنبية- لكسب التأييد والدعم اللازمين للقضية الطلابية، وفضح سياسة الإدارة البريطانية في معالجتها. وشكَّل هذا التحرك، في مرحلة محددة من تطور هذه القضية، ضرورة وطنية فرضتها طبيعة القضية ذاتها، ومستوى الصراع بشأنها مع الإدارة البريطانية؛ مما أكسب القضية الطلابية بُعدًا وطنيًّا واضحًا، وأصبحت القضايا الطلابية جزءًا من القضايا الوطنية الأخرى التي كانت هذه الهيئات تناضل في سبيلها.

لم يكن هذا الإضراب قضية تعليمية مجردة، فقد أحدث تداعيات ملحوظة في أوساط المجتمع، وأحيط من قِبَل أفراده ومنظماته بكافة أشكال التأييد والدعم، وعن طريقه اقتحمت الطالبات ساحة العمل الوطني، ومارسن كل صنوف التأثير على المواقف الأهلية.

كما ناقش المجلس التشريعي قضية الإضراب وما ارتبط به من تقرير اللجنة الحكومية الأهلية. واتصفت مناقشاته بالسخونة والمواجهة الشديدة مع وزير المعارف، الذي استنكر المجلس سكوته عن التصرفات والإجراءات المتخذة ضد الطلبة، وغير المتفقة مع مضمون الإضراب كقضية تعليمية، ومن أبرزها المواجهات العسكرية للمظاهرات الطلابية والاعتقالات والمحاكمة لبعض الطلاب. كما وجه المجلس اللوم إلى الوزير لعدم اكتراثه بطلب الحكومة الضمانات الشخصية المؤكدة على حُسن سلوك الطالبات، كشرط أساسي لمواصلة الدراسة.

واتجهت مداولات المجلس التشريعي حول القضية الطلابية اتجاهات عدة، وركز حينها نقاشه مع وزير المعارف حول خطة وزارته لتأهيل البدائل المحلية من القيادات التربوية النسائية. ووجد أعضاء هذا المجلس من قضية الإضراب فرصة مناسبة أمامهم لتقييم سياسة وزارة المعارف ومستوى أدائها لمهامها. 

لم يكن الإضراب قضية تعليمية مجردة؛ فقد أحدث تداعيات ملحوظة في أوساط المجتمع، وأحيط من قِبَل أفراده ومنظماته بكافة أشكال التأييد والدعم. وعن طريق هذا الإضراب، اقتحمت الطالبات ساحة العمل الوطني، ومارسن كل صنوف التأثير على المواقف الأهلية، سواء بتنظيم المظاهرات أو إلقاء الخطب من على منابر المساجد وفي الساحات العامة، وعقد اللقاءات المختلفة لعرض القضية الطلابية، وتجاوز الإضراب حدوده التعليمية ليترك أثره في أوساط الفئات الوطنية؛ فقد أحدث قيامه صدى واسعًا في أوساط حركة الضباط الأحرار الذين قادوا الثورة على الحكم الإمامي في صنعاء في 26 سبتمبر 1962، ولعل أبلغ تصوير لما تركه هذا الإضراب في أوساط هذه الحركة ما عبَّر عنه الشاعر عبدالله البردوني بقوله:

هتـاف هـتاف ومـاج الصـدى وأرغـى هنــا وهنـا أزبــدا

 كما عبَّر هؤلاء الضباط عن الأثر الذي تركه الإضراب في صفوفهم بقولهم إن هذه الثورة الطلابية العدنية هي الشرارة الأولى التي أشعلت ثورة 26 سبتمبر، فقد جاء ذلك في كتاب رضية إحسان الله- "عدن ميناء خالد". هزت هذه الحركة الضباط اليمنيين وأرادوا محاكاتها.

لم تتمكن الطالبات من العودة إلى صفوف الدراسة إلا في أكتوبر 1962، بعد أن اتخذت إدارة المعارف الضمانات اللازمة بحُسن سلوكهن من قِبَل الآباء وأولياء الأمور. وإبان الفترة ذاتها تمكنت الإدارة من تنفيذ بعض التوصيات المرفوعة من قِبَل اللجنة الحكومية الأهلية إلى المجلس التنفيذي لعدن. فقد تم تشكيل مجلس الآباء وأولياء الأمور، كما صدرت الأوامر إلى إدارة المعارف بإنهاء التعاقد مع عميدة كلية البنات، التي شكلت إدارتها للكلية دافعًا رئيسيًّا في حركة الإضراب.

وترك الإضراب تأثيره بصورة غير معلنة على منحى السياسة التعليمية ذاتها؛ فقد أنشأت إدارة المعارف المدرسة الثانوية للبنات في مدينة كريتر بمواصفات وخصائص المدرسة الثانوية الحديثة Modern School في عام 1965. 

وامتد تأثير الإضراب ليشمل التغيير في المناهج التعليمية المقررة في كلية البنات، التي حققت تغييرًا نوعيًّا، شمل إدخال دروس الطباعة والاختزال في السنتين الثالثة والرابعة، كما استمر العمل في هذه الكلية لإعدادها مدرسة أكاديمية. واتسع فيها نطاق المتقدمات لامتحان "كامبريدج"، ليشمل كافة الطالبات المقيدات في الصف الرابع بشعبه المختلفة. وجرى توحيد نظام الامتحان للبنين والبنات للحصول على شهادة "كامبردج"، واستطاع هذا الإضراب أن يحقق نقلة تعليمية نوعية للبنات كانت قد تجاهلت السياسة البريطانية الحاجة المُلِحة إلى تحقيقها، كما دفع هذا الإضراب الإدارة البريطانية لإعادة النظر في كثير من منطلقات سياستها تجاه تعليم البنات.

وفي الوقت الذي حقق فيه هذا الإضراب انفراجًا نوعيًّا في السياسة التعليمية، فإنه على المدى البعيد قد خلق تواصلًا مجتمعيًّا ملحوظًا بين أشخاصه وبين المنظمات الوطنية والاجتماعية المختلفة، التي استطاعت جذب واستقطاب أعدادٍ من الفتيات إلى أوساط العمل السياسي الذي تلاحق تشكيل مكوناته، إذ شكل الإضراب ملمحًا من ملامح الحركة الوطنية.


إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English