لا يزال هناك من يعتقد أن الهدنة لم تنتهِ بل دخلت مرحلة من الشدّ والجذب بين جميع الأطراف، خصوصًا الطرف الذي وقف حجر عثرة أمام عملية تجديديها؛ أنصار الله (الحوثيين)، متذرّعين بضرورة صرف مرتبات جميع الموظفين ومعاشات المتقاعدين، وإنهاء القيود التعسفية على موانئ الحُديدة ومطار صنعاء.
طوال الأشهر الستة الماضية، ظل المبعوث الأممي إلى اليمن السويدي، هانس غروندوبرغ -وهو المبعوث الوحيد الذي استطاع تحقيق اختراق ملموس في جدار الأزمة التي استعصت على ثلاثة آخرين تناوبوا على هذا المنصب منذ بداية الحرب الدائرة في اليمن عام 2015- يردّد كثيرًا أنّ الهدنة مثّلت تحولًا كبيرًا في مسار الحرب اليمنية، بما قدّمته من نافذة لكسر دوامة العنف ومعاناة الماضي، للانطلاق نحو مستقبل سلمي في اليمن.
لم يكن في حسبان رئيس بعثة الاتحاد الأوروبي السابق في اليمن، المبعوث الأممي الحالي، أن يأتي الوقت الذي يعلن فيه متأسفًا في 2 أكتوبر/ تشرين الأول الحالي، عن عدم التوصل إلى اتفاق لتجديد وتوسيع الهدنة، حيث إنّ الهدنة الممتدة والموسعة من شأنها توفير فوائد هامّة إضافية للسكان، مثمّنًا موقف الحكومة المعترف بها دوليًّا للتعاطي مع مقترحه بشكل إيجابي، في حين أكّد استمراره في العمل مع كلا الجانبين لمحاولة إيجاد حلول.
وأتاحت الهدنة التي بدأت في 2 أبريل/ نيسان 2022، بحسب غروندبرغ، فرصةً تاريخية حقيقية لليمن، وبناءً على النتائج الإيجابية التي تحقّقت في الستة الأشهر الماضية، فقد قدّم مقترحًا آخرَ إلى الأطراف في 1 أكتوبر/ تشرين الأول، لتمديد الهدنة لمدة ستة أشهر مع إدراج عناصر أخرى إضافية.
تضمن المقترح دفع رواتب ومعاشات موظفي الخدمة المدنية، وفتح طرق محددة في تعز ومحافظات أخرى، وتسيير وجهات إضافية للرحلات التجارية من وإلى مطار صنعاء، ودخول سفن الوقود إلى ميناء الحُديدة دون عوائق، وتعزيز آليات خفض التصعيد من خلال لجنة التنسيق العسكرية، والالتزام بالإفراج العاجل عن المحتجزين، كما تضمّن الشروع في مفاوضات لوقف إطلاق النار واستئناف عملية سياسية شاملة، وقضايا اقتصادية أوسع، بما في ذلك الخدمات العامة.
ويربط مراقبون ذلك بما يجري في إيران من مظاهرات واحتجاجات واسعة تعم جميع المدن في البلاد منذ منتصف سبتمبر/ أيلول الماضي، إثر وفاة مهسا أميني، التي تؤكّد منظمات حقوقية أمميّة أنّها تعرضت للضرب على رأسها بهراوة، وضُرب رأسها على السيارة من قبل ما يسمى بشرطة الأخلاق الإيرانية، وذلك لكي يلعب حلفاء إيران دورًا فيما تعتقده من تخفيف الضغط الملقى على عاتقها جراء ما يجري.
حقّقت الهدنة طوال فتراتها السابقة أغلب اشتراطات سلطة صنعاء أنصار الله (الحوثيين)، التي تنفق أموالًا طائلة منذ نحو شهر بالتحديد على احتفالاتها الصاخبة المتعددة، من إعادة تشغيل مطار صنعاء الدولي، وتدفق سفن الوقود إلى ميناء الحُديدة، بينما رفضت كل المحاولات التي بُذلت لتنفيذ بند واحد مقابل ما حصلت عليه، والمتمثل بفتح الطرق في تعز، غير مبالية بمعاناة سكان المحافظة
لكن هناك بالمقابل من كان قد توقّع ألّا تستمر الهدنة بعد آخر تجديدٍ لها في يوليو/ تموز الماضي 2022، فالعالم مشغول بمشاكله ولا يهمه أمور اليمن؛ فهناك الحرب العسكرية الروسية في أوكرانيا، والملف النووي الإيراني وتبعاته، ولبنان والغاز وحزب الله.
مصالح واتهامات
ويرى خبراء ومراقبون أنّ الحرب العسكرية انتهت مع وصول جميع الأطراف إلى مرحلة من الإنهاك الشديد واقتناعها بالبقاء بما تحت يديها من مناطق تسيطر عليها، فيما كانت الهدنة بمثابة نافذة لاقتسام الغنائم بالنسبة لهم. مؤكِّدين أنّ جميع الأطراف تبحث فقط عن تحقيق مصالحها من هذه الهدنة، خاصة الطرف الذي رفض تمديدها مستخدمًا رواتب الموظفين المدنيين كحجة وحق يراد به باطل.
وقال المبعوث الأممي إلى اليمن، هانس غروندبرغ، أمس الثلاثاء 4 أكتوبر/ تشرين الأول، إنّ على الأطراف المتحاربة في هذا البلد إحياء الجهود للتوصل إلى اتفاق أوسع لإنهاء الصراع المدمر المستمر منذ سبع سنوات، وذلك بعد فشل جهود لتجديد اتفاق الهدنة يوم الأحد 2 أكتوبر/ تشرين الأول، مضيفًا أنّ هذه فترة حساسة بشكل خاص في اليمن، وأيّ حادث صغير يمكن أن يؤدي إلى شيء قد يكون له عواقب وخيمة.
وفي الوقت الذي أصدرت فيه سلطة أنصار الله (الحوثيين) البيان الثاني الذي تهدّد فيه الشركات النفطية المحلية والأجنبية للتوقف النهائي لما أسمته أعمال النهب، أوضحت الحكومة المعترف بها دوليًّا أنّها فعلت كلَّ ما في وسعها للإبقاء على هذه الهدنة سعيًا للتخفيف عن الشعب اليمني، غير أنّ الطرف الآخر يسعى إلى تفجيرها بفرض شروط سياسية تتزايد مع كل يوم جديد، مصحوبة بالتهديدات والاستفزازات والأكاذيب، بما في ذلك تهديد الشركات العاملة في القطاع النفطي والشركات الملاحية.
وحرصًا منها على الحفاظ على كادر الدولة، وانتظام أعمال المرافق الحيوية، أكّدت الحكومة أنّها قامت في العام 2019، بدفع رواتب ما يزيد على 120 ألف موظف ومتقاعد مدني في مناطق سيطرة "الحوثيين"، بما في ذلك رواتب المتقاعدين ورواتب موظفي القطاع المدني في الحُديدة، ورواتب القطاع الصحي، و50% من رواتب كوادر وموظفي التعليم العالي والجامعات. كما قادت نقاشًا مع الأمم المتحدة لتخصيص جزء من المساعدات الإنسانية لتغطية رواتب الموظفين المدنيين.
وفي ديسمبر/ كانون الأول 2019، رعت الأمم المتحدة اتفاقًا يضمن تسهيل دخول المشتقات النفطية من موانئ الحُديدة، وفقًا لآلية واضحة تحافظ على سلاسة دخول المشتقات النفطية وتفرض معاييرَ تقول الحكومة المعترف بها دوليًّا، إنّها تحدّ من تجارة السوق السوداء وتهريب النفط ومحاربة غسيل الأموال، وأن توَرَّد كافة الإيرادات إلى حسابٍ في البنك المركزي فرع الحُديدة، وتخصيصها لدفع رواتب موظفي الخدمة المدنية.
وتؤكِّد الأمم المتحدة أنّ تدفق واردات الوقود ساعد على تجنب الاضطرابات في الخدمات العامة الأساسية التي تعتمد جزئيًّا على الوقود –مثل المياه النظيفة والرعاية الصحية والكهرباء ووسائل النقل– وقد أحدث فرقًا قيّمًا في الحياة اليومية لليمنيين ورفاههم.
خيبة أمل
حقّقت الهدنة طوال فتراتها السابقة أغلب اشتراطات سلطة صنعاء أنصار الله (الحوثيين)، التي تنفق أموالًا طائلة منذ نحو شهر بالتحديد على احتفالاتها الصاخبة المتعددة، منها إعادة تشغيل مطار صنعاء الدولي وتدفق سفن الوقود إلى ميناء الحديدة، بينما رفضت كل المحاولات التي بُذِلت لتنفيذ بند واحد مقابل ما حصلت عليه، والمتمثل بفتح الطرق في تعز، لتستمر بصَلَفِها فارضةً حصارًا مُشدَّدًا يطوّق المدينة الواقعة جنوب غرب اليمن من الجهة الشرقية، غير مبالية بمعاناة سكان المحافظة بالتنقّل الشاقّ والمضني الذي يستمر وقتًا يزيد على 5 ساعات للوصول إلى المدينة وإلى مناطقهم الأخرى، في حين لم يكن يستغرق الأمر قبل خمس سنوات أكثر من 20 دقيقة للوصول إلى المدينة.
وفقَ حكومة عدن، فقد أظهر "الحوثيون" تعنُّتًا غيرَ مفهومٍ أمام فتح الطرقات الرئيسية إلى مدينة تعز، دون إبداء أي أسباب، واختارت أن تفتح طرقات إمّا لأغراض عسكرية، كما هو الحال في التركيز على طريق الدفاع الجوي أو طرق وعرة وغير مؤهلة لمرور الشاحنات التجارية ووسائل النقل العامة والخاصة، ممّا يجعلها طرقًا غير مجدية في فكّ الحصار عن مدينة تعز.
ومع اقتراب الموعد النهائيّ لتمديدٍ آخر بشأن الهدنة في اليمن، في 2 أكتوبر/ تشرين الأول، حثّ الأمينُ العام للأمم المتحدة الطرفين اليمنيين، بقوة، ليس فقط على تجديد الهدنة، بل على توسيع شروطها ومدتها أيضًا، بما يتماشى مع الاقتراح الذي قدّمه مبعوثه الخاص، هانس غروندبرغ.
وقال الأمين العام، في بيان اطلعت عليه "خيوط"، إنّ الحكومة اليمنية وجماعة أنصار الله اتخذتا -على مدى الأشهر الستة الماضية- خطوات مهمّة وجريئة نحو السلام من خلال الاتفاق على هدنة على مستوى البلاد -تفاوضت بشأنها الأمم المتحدة- وتم الاتفاق على تجديدها مرتين.
يومان فقط، لتعود الأمم المتحدة لتعبّر عن خيبة أملها، لعدم التوصل إلى اتفاق بشأن تمديد الهدنة في اليمن وتوسيعها، لكن في الوقت نفسه أكّدت أنّها لم تفقد الأمل بعد، وأنّ الوقت لم ينفد أمام الطرفين لفعل ما ينبغي القيام به من أجل فائدة أبناء اليمن.
كما عبّرت الأمم المتحدة عن خيبتها لعدم اتفاق الطرفين على المقترحات الجديدة لتمديد الهدنة وتوسيعها، التي قدّمها المبعوث الخاص هانس غروندبرغ، لكن أكّدت بالمقابل، أنّ المفاوضات مستمرة وستبقى مستمرة مع مواصلة غروندبرغ النظر في الخيارات المقبولة بالنسبة للطرفين.
وتؤكّد أنّ المدنيين في اليمن استفادوا بشكل مباشر من الهدنة؛ فقد توقفت الأنشطة العسكرية الكبيرة، بما في ذلك الضربات الجوية التي تنفذها قوات التحالف بقيادة السعودية والإمارات، والهجمات عبر الحدود التي تنفذها جماعة أنصار الله (الحوثيين)، وانخفض عدد الضحايا المدنيين بشكل كبير، وخفّفت واردات الوقود عن طريق موانئ الحُديدة من نقص (الوقود)؛ واستمرت رحلات الطيران التجارية من مطار صنعاء إلى عمّان وغيرها من المدن.
التعنُّت والعروض العسكرية
وكان مجلس الأمن قد سلَّط الضوء في آخر جلسة له حول اليمن عقدها في 12 سبتمبر/ أيلول، على الفوائد الملموسة للهدنة على الشعب اليمني، بما فيها: انخفاض عدد الضحايا بنسبة 60%، وارتفاع كميات الوقود المتدفقة من خلال ميناء الحُديدة لأربعة أضعاف، وتشغيل الرحلات الجوية التجارية من [وإلى] صنعاء التي نقلت 21 ألف مسافر ومسافرة لتلقي العلاج الطبّي في الخارج ولَمِّ شمل أسرهم. ودعا الطرفين إلى تكثيف المفاوضات بشكل عاجل، وإبداء المرونة في المفاوضات التي ترعاها الأمم المتحدة للتوصُّل إلى هدنة موسَّعة يمكن ترجمتها إلى وقفٍ دائم لإطلاق النَّار. وحثَّ الطرفين على تكثيف تواصلهما مع المبعوث الخاص حول جميع جوانب المفاوضات، والامتناع عن وضع الشروط، وضمان عمل خبرائهما الاقتصادِيِّين بشكل مقرّب مع الأمم المتحدة، تنفيذًا لتدابير معالجة الأزمات الاقتصادية والمالية، وللتوصّل على وجه الخصوص، إلى حلٍّ لدفع رواتب موظفي الخدمة المدنية.
ورحَّب أعضاء مجلس الأمن بالإجراءات الاستثنائية التي اتخذتها الحكومة اليمنية لتلافي نقص الوقود في المناطق التي تقع تحت سيطرة "الحوثيين" إثر أوامر أصدرتها السلطات الحوثية أثَّرت في العملية القائمة لتخليص سفن الوقود. ودعوا الحوثيين إلى الامتناع عن مثل هذه الأعمال في المستقبل، والتعاون مع الجهود التي تقودها الأمم المتحدة لتحديد حلٍّ دائم يضمن تدفُّق الوقود.
وأدان أعضاء مجلس الأمن جميعَ الهجمات التي تهدّد بعرقلة الهدنة، بما في ذلك الهجمات الحوثية الأخيرة على تعز. وأكّدوا على عدم وجود حلٍّ عسكري لليمن، وأدانوا العرض العسكري الأخير في الحُديدة. ودعوا إلى إنهاء جميع أشكال المظاهر العسكرية المنظورة المخالفة لاتفاق الحُديدة. وأعربوا عن قلقهم إزاء حالة عدم الاستقرار الأخير في جنوب اليمن، ونوّهوا بقلق زيادة أعداد الضحايا المدنيين التي تسبّبت بها الألغام الأرضية. وذكَّروا الطرفين بالتزاماتهما بموجب القانون الإنساني الدولي، وضرورة احترام حقوق الإنسان، بما في ذلك حماية المدنيين، وخاصة الأطفال. وأعربوا عن قلقهم إزاء عدم إحراز تقدُّمٍ حول فتح الطرق في تعز تماشيًا مع مقترحات الأمم المتحدة، وأعادوا دعوتهم للحوثيين بالتصرّف بمرونة في المفاوضات وفتح طرق تعز الرئيسة على الفور.