الإنسان بطبيعته كائن اجتماعيّ، لم يكن بوسعه أن يبقى على قيد الحياة والانتقال من الوحشية والبربرية إلى الحضارة إلا من خلال العيش في جماعة، والجماعة اتخذت أشكالًا مختلفة في مجرى التطور التاريخي للبشرية، وأهمّها: الأسرة، والعشيرة، والقبيلة، والمجتمع.
ويُجمع العلماء الاجتماعيون على أن العشيرة تتألف من جملة عائلات، ولكنهم يختلفون حول مسألة العلاقة التاريخية بين العشيرة والعائلة، فبعضهم يرى أن الإنسان بدأ رحلة الحضارة بتكوين العائلات، ثم العشائر، ثم القبائل، والبعض الآخر يتبنى الموضوعة الأساسية التي تقدم بها لويس هنري مورجان، وفحواها أن العشيرة ظهرت في وقت أبكر من العائلة، وأن الأخيرة ظهرت في مرحلة لاحقة من التطور الاجتماعي.
وإذا غضضنا النظر عن تلك الاختلافات، يمكننا القول إن العشائر في مرحلة معينة من التاريخ أصبحت تتألف من مجموعات عائلات، وأن العشائر هي مجموعة من الأفراد تربطهم صلات القربى، ويحملون اسم سلف حقيقي أو مزعوم.
أما القبيلة فلها معنى آخر، حيث "يشير هذا المصطلح عادة إلى جماعة اجتماعية ترتبط برابطة القرابة والواجب، وتقترن بمنطقة أو إقليم معين. ويشترك أفراد القبيلة في خاصية التماسك الاجتماعي الراجع إلى الأسرة، إضافة إلى الإحساس بالاستقلال السياسي الذي يميز الأمة(1)".
مع مرور الزمن، تحوّلت القبائل البدائية إلى قبائل متطورة، وتزامن ذلك مع نهاية العصر المشاعي البدائي، فأصبح للقبيلة إدارة ذاتية، تتمثل في قائد القبيلة ومساعديه كما هو في الشرق، أو تتكون من مجلس قبلي عسكري ومدني للقادة كما كان الحال عند العديد من القبائل الأوروبية.
الوظيفة الأكثر تعقيدًا
إن القبيلة هي شكل أعلى من التنظيم الاجتماعي؛ لأنها تتألف من عشائر عدة، ووظائفها الاجتماعية أكثر تعقيدًا من وظائف العشيرة، وقد يكون للقبيلة لغة أو لهجة خاصة، وإقليم معين، وتنظيم رسمي (رئيس، مجلس قبلي)، واحتفالات مشتركة.
ومع ذلك، يرى بعض العلماء الاجتماعيين أن القبيلة في شكلها البدائي ظهرت قبل ظهور الطبقات، "بالتزامن مع العشيرة؛ لأن الزواج الخارجي للعشيرة يتطلب صلات مستمرة بين مجموعتين عشائريتين على الأقل. ومن الناحية الأثرية، يسجل ظهور القبيلة فقط في العصر الحجري الوسيط، عندما انتهى تكوينها كمجاعة اجتماعية وعرقية(2)".
في الواقع، تختلف القبيلة عن سائر الأنواع العرقية التي ظهرت لاحقًا، حيث تقوم القبيلة "على الأصل المشترك للعشائر التي تتألف منها، على صلة الدم. إن قرابة الدم، صلة الدم بين عشيرتين أو عدة عشائر هو الذي يجعلها قبيلة(3)".
ومع مرور الزمن، تحوّلت القبائل البدائية إلى قبائل متطورة، وتزامن ذلك مع نهاية العصر المشاعي البدائي، فأصبح للقبيلة إدارة ذاتية، تتمثل في قائد القبيلة ومساعديه كما هو في الشرق، أو تتكون من مجلس قبلي عسكري ومدني للقادة كما كان الحال عند العديد من القبائل الأوروبية. وشيئًا فشيئًا، ظهرت الملكية والتقسيم الطبقي داخل القبيلة، فظهرت العشائر الغنية والعشائر الفقيرة، وظهر النبلاء القبليون، وتزايد دور القادة العسكريين، الذين سرعان ما استولوا على مقاليد السلطة في القبيلة.
وفيما بعد ظهرت الاتحادات القبلية، وترافق ذلك كله بانفصال إرادة قادة القبيلة والعشيرة عن إرادة الأفراد، وتوجيه القبيلة لاضطهاد القبائل الأخرى، وتحويل هيئاتها من أداة لتصريف شؤونها إلى أداة لقهر أفراد القبلية والعشيرة على حد سواء.
وفيما يتعلق بالتركيب الاجتماعي للقبيلة، يذهب الكثير من الباحثين الاجتماعيين إلى أن الفوارق الاقتصادية والاجتماعية بين أفرادها ضعيفة، ومن ثم فإن التراتبية الاجتماعية الهرمية غير شائعة في القبيلة، وهذا، بدوره، يعزز وحدتها الداخلية.
وممّا يوطّد وحدة أفراد القبيلة، صراعُها المستمر مع القبائل المجاورة الأخرى بحثًا عن المجد، أو بدافع الثأر، أو من أجل الثروة والسلطة، وكذلك صراعها مع مركز الحكم في البلاد، ولا سيما في مرحلة ضعف الأخير أو انتهاجه لسياسة تمييزية ضد قبيلة من القبائل.
ولكن لا نسلم، من حيث المبدأ، بحقيقة ضعف التمايز الاجتماعي في القبيلة إلا في القبائل البدائية، التي كانت موضوعًا لأبحاث الأنثروبولوجيين الأوروبيين والأمريكيين في العصر الحديث، وهذه الحقيقة لا تنطبق على القبائل المتطورة.
ومهما يكن الأمر، لم تختفِ القبيلة مع ظهور الطبقات الاجتماعية، حيث بقي التنظيم القبلي في العديد من المجتمعات حتى عصرنا الحالي، متعايشًا مع أشكال إنتاج ما قبل الرأسمالية، بل بقي أحيانًا متعايشًا مع تشكّل الإنتاج الرأسمالي، والمثال على ذلك قبائل شبه الجزيرة العربية وبدو شمال إفريقيا.
وعلى أيّ حال، في سياق التطور التاريخي اللاحق (خلال مرحلة العبودية والمرحلة الإقطاعية)، تحولت القبائل إلى أقوام، والقوم عبارة عن جماعة عِرقية تحتل مكانة وسطى بين القبيلة والأمة. وفي عصر الانتقال من الإقطاعية إلى الرأسمالية، تحوّلت الأقوام إلى أمة (قومية)، وهي عبارة عن تجمع سياسي مستقل، قائم على أساس الحياة الاقتصادية المشتركة، ولا يحده حدود إقليمية، ويلتزم أعضاؤه بالقيم والمؤسسات المشتركة.
من الطبيعي أن يولّد النظام القبلي ما يسمى بالقبلية أو العصبية القبلية (tribalism)، التي هي، في الحقيقة، شكل من أشكال الانعزال الاجتماعي، المصحوب بالتضامن الداخلي بين أفراد القبيلة، وبالعداء والمواقف التمييزية تجاه القبائل الأخرى، أو بعدم الثقة بالناس الغرباء.
القبلية هي إحدى الصعوبات الكبرى التي تقف أمام انتقال اليمن إلى المجتمع المدني، الذي لا يمكن بناؤه إلا من خلال اندماج الكيانات القبلية المختلفة في شكل جديد من أشكال التجمع البشري، يسمى الأمة أو القومية المدنية، التي تختلف عما يسمى بالقومية العرقية.
القبلية في وجه الحداثة
لاَ مُشَاحَّةَ في أن المجتمع اليمني ما زال في طابعه العام مجتمعًا قبليًّا، حيث تشكل قبائل اليمن، حسب تقدير مؤلف مقالة «قبائل اليمن»، في الويكيبيديا، حوالي 85% من عدد السكان، وهذا الرقم، حسب اعتقادنا، يحتاج إلى مزيد من التدقيق العلمي.
يضرب التنظيم القبلي في اليمن بجذوره إلى عصور ما قبل الإسلام، ولم يطرأ عليه بعض التغيرات الجوهرية إلا بعد قيام ثورة 26 سبتمبر في شمال اليمن، واستقلال جنوب اليمن في 30 نوفمبر 1967، حيث بدأت عناصر الحداثة بالتغلغل في حياة وتفكير القبائل، فبدأت القبائل تشعر بعدم جدوى الانطواء على النفس، وظهر فيها نوع من التمايز الاجتماعي.
ولكن لم يكن تأثير المدن اليمنية على القبائل الزراعية تأثيرًا قويًّا؛ لأنها (باستثناء مدينة عدن) كانت حتى مطلع ستينيات القرن العشرين مدنًا قروسطية، لا تختلف كثيرًا عن حياة القرى الكبيرة؛ ولذا لم تهتز أسس التنظيم القبلي في اليمن.
إنّ القبلية هي إحدى الصعوبات الكبرى التي تقف أمام انتقال اليمن إلى المجتمع المدني، الذي لا يمكن بناؤه إلا من خلال اندماج الكيانات القبلية المختلفة في شكل جديد من أشكال التجمع البشري، يسمى الأمة أو القومية المدنية، التي تختلف عما يسمى بالقومية العرقية.
في الواقع، القبلية هي شكل من أشكال العنصرية، وتبرز في العديد من الجوانب الجوهرية للحياة الاجتماعية في اليمن، وأولها في اختيار الموظفين الحكوميين، حيث تمنح امتيازات للأفراد من المجموعة القبلية التي ينتمي إليها المسؤول الحكومي، على حساب المجموعات الأخرى من السكان.
والنتيجة هي عدم إمكانية الوصول إلى إدارة عامة عالية الجودة؛ لأن التقاليد القبلية في سياسة شؤون الموظفين لا تسمح بقبول وترقية الموظفين وفقًا لكفاءتهم وأعمالهم وصفاتهم الشخصية، وتُغذَّى هذه الظاهرة بتعيين الموظفين عن طريق وساطات السلطات العليا في الدولة لتعيين وترقية بعض الموظفين والقادة العسكريين، على أساس مبدأ الولاء الشخصي أو السياسي.
ولا تقتصر بشاعة القبلية على تعيين وترقية الموظفين والقادة العسكريين، بل أيضًا تمتد إلى قضايا الشأن العام، حيث تبرز القبلية بقوة عند انتخاب المرشحين لمجلس النواب، وتعيين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة ونوابه والوزراء، حيث يجري كل ذلك على أسس قبلية أو طائفية، دون النظر إلى البرامج السياسية للأحزاب وكفاءات المتنافسين، والنتيجة هي استحالة بناء حكومة قوية.
وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى ظاهرة خطيرة في الحياة السياسية اليمنية، وهي استخدام القبائل في الصراعات السياسية، وكلنا يعرف لجوء النخب الحاكمة في اليمن عند الحاجة إلى تنشيط القبلية واستخدامها لمصلحتها الخاصة، وإلى هذا الأسلوب تلجأ أيضًا بعضُ قوى المعارضة، وهذا هو أحد الأسباب الذي يفسر التحلل البطيء للكيانات القبلية.
لا يمكن التخلص من القبلية إلا بتغيير الظروف الاقتصادية والاجتماعية للكيانات القبلية من خلال تطور الصناعة والتجارة الداخلية ونمو سكان الحضر وإشاعة التعليم بكل مستوياته في أرجاء البلاد، وعلى قدر وتائر العمل في تلك الاتجاهات تتوقف سرعة تكوين مجتمع وطني، لا وجود فيه للتنظيم القبلي والقبلية.
إلغاء دور الحكومة
كما لا يخفى على أحد، النتائج الاجتماعية الخطيرة للصراعات القبلية بدافع الثأر أو الاستفزازات أو الصراع على النفوذ والثروة، وترتدي تلك الصراعات في بعض الأحيان طابعًا مسلحًا، وفي النتيجة يتعمق ويستفحل العداء بينها ليولد، بدوره، دورات جديدة من الصراع المسلح.
تحمي القبيلة في اليمن أفرادها من القبائل المعادية ومن السلطات الحكومية، وفي كثير من الأحيان تكون هذه الحماية لأناس ارتكبوا جرائم جنائية أو سياسية، ومن ثم تكون القبيلة عائقًا حقيقيًّا أمام إنفاذ القوانين، وإلغاء دور الحكومة في مكافحة الجريمة والفساد.
ومن الأهمية بمكان أن نتناول هنا مسألة هامة للغاية، وهي تغليب الولاءات القبلية على الانتماء الوطني، وهذه الحقيقة لا ينكرها إلا المدافعون عن بقاء النظام القبلي في اليمن، استنادًا إلى المبدأ القائل بأن القبيلة هي الوطن الحقيقي، الذي لا يمكن الاستغناء عنه، أما الدولة فيمكن الاستغناء عنها؛ لأنه في حالة فشلها أو تلاشيها، تقوم القبيلة بوظائفها.
وغنيٌّ عن البيان أن هذا التفكير القبلي يعرقل بناء الدولة القومية، التي لا يمكن أن تنشأ إلا على أساس الانتماء الوطني، وكلنا يعرف أن تغليب مصالح القبيلة على المصالح العامة قد يكون هو المدخل لتوظيفها في تنفيذ المشاريع السياسية الأجنبية.
ومن هذا يتبين خطورة القبلية على بناء الدولة المدنية، فالطريق إلى عالم الحضارة والرفاهية لا يمر عبر المؤسسات التقليدية، التي تعارض الحداثة، وإنما عبر إذابة كل الكيانات القبلية في إطار قومي واحد، أساسه السياسي هو الدولة القومية.
لا يمكن التخلص من القبلية إلا بتغيير الظروف الاقتصادية والاجتماعية للكيانات القبلية من خلال تطور الصناعة والتجارة الداخلية ونمو سكان الحضر وإشاعة التعليم بكل مستوياته في أرجاء البلاد، وعلى قدر وتائر العمل في تلك الاتجاهات تتوقف سرعة تكوين مجتمع وطني، لا وجود فيه للتنظيم القبلي والقبلية.
الهوامش:
1- جوردون مارشال، موسوعة علم الاجتماع، ترجمة: محمد محمود الجواهري وآخرين، المجلد الثاني، المجلس الأعلى للثقافة، ط 1، 2001، ص 1112.
2- философская энциклопедия: в 5 т. / гл. ред. Ф. В. Константинов. [и др.]– М. 1993. – Т. 4. – с. 270.
3- Там же.
4- Max Gluckman (2007). "Social beliefs and individual Thinking in Tribal Society". In Robert A. Manners; David Kaplan (eds.). Anthropological Theory. Transaction Publishers. pp. 453–464.