في 22 يونيو/ حزيران 2020، نشب حريق هائل امتد إلى 20 منزلًا، في حي السنينة غرب العاصمة صنعاء. مصدر الحريق كان كميات كبيرة من المشتقات النفطية مخزنة في أحد المنازل. حاصر الحريق مئات المواطنين في الحي فلجؤوا إلى أسطح منازلهم، ولم تستطع عربات الإطفاء المدني التي وصلت إلى موقع الحريق، السيطرة عليه بسرعة، ما ألحق أضرارًا بالغة مادية وبشرية.
لم يتوقف الأمر عند هذه الحادثة، بل تكررت في أماكن مختلفة، وبخسائر متفاوتة، كان آخرها اندلاع حريق ناتج عن انفجار محطة غاز وسط حي سكني في مدينة البيضاء، في 30 يناير/ كانون الثاني 2021، خلف خسائر بشرية ومادية كبيرة. وفي ظل استمرار تخزين الوقود وبيعه في الأماكن المكتظة بالسكان، لن تتوقف مثل هذه الحوادث المأساوية.
نفط على الرصيف
صدور قرار تعويم أسعار المشتقات النفطية في يوليو/ تموز 2015، فتح المجال واسعًا أمام القطاع الخاص والتجار للاستثمار، فازدهرت تجارة "السوق السوداء" لبيع المشتقات النفطية. كذلك انتشرت محطات الغاز في الكثير من الأحياء السكنية، والتي تشكل مصدر قلق وخطر حقيقي لسكان هذه الأحياء أو المناطق التي تنتشر فيها. وقد زارت "خيوط" عشرات من هذه المحطات المستحدثة، وجميعها تعمل بدون الأدوات اللازمة للسلامة.
أخذت ظاهرة بيع المشتقات النفطية على أرصفة الشوارع في العاصمة صنعاء ومحافظات أخرى تنتشر بشكل واسع، بل أصبحت جزءًا من ملامح الشوارع و"قنابل موقوتة" قريبة من الأحياء السكنية والمحال التجارية والمؤسسات العامة، خاصة وأنها مادة شديدة الانفجار، الأمر الذي يثير القلق لدى الأهالي والمارة باحتمال اشتعالها في أي لحظة. هذا التحقيق يتناول ظاهرة تجارة السوق السوداء ومحطات بيع الغاز المنزلي في الشوارع والأحياء القريبة من السكان، والتي تشكل خطرًا حقيقيًّا، إحدى نتائجه ما حدث مؤخرًا في محافظة البيضاء، لكن يبقى السؤال الأهم: من هي الجهة المسؤولة عن منح تصاريح بفتح هذه المحطات بالقرب من التجمعات السكانية؟
الشركة اليمنية للغاز المنزلي نفت منح أي تراخيص "للطبرمبات" والمحطات. وأفاد ناطقها الرسمي بأن الشركة أوقفت منح التراخيص منذ مارس/ آذار2018، وأنه لم يتم منح أي ترخيص لإنشاء أي محطة أو "طرمبة" منذ ذلك التاريخ، لافتًا إلى أن محطات الغاز المتواجدة داخل الأحياء، مخالفة للقانون.
تراخيص الموت
وأكد علي معصار في حديثه لـ"خيوط"، أن الانفجار الأخير في إحدى محطات بيع الغاز المنزلي في مدينة البيضاء، كان نتاجًا لتدخلات في اختصاصات شركة الغاز، وأنها لم تمنح أي تراخيص لإنشاء هذه المحطة، كونها غير مطابقة لشروط الأمن والسلامة.
وحصلت "خيوط" على وثيقة خاصة تحمل تصريحًا بإنشاء محطة غاز باسم (ع. م. م)، من قبل مكتب الصناعة والتجارة في المحافظة، وهذا يعتبر "مخالفًا لقوانين الشركة اليمنية للغاز"، وفقًا لناطقها الرسمي، الذي أفاد بأن الجهة الوحيدة المخولة بمنح تراخيص إنشاء محطات الغاز هي الشركة اليمنية للغاز. واتهم معصار السلطة المحلية ومكاتب الصناعة والتجارة، في المحافظات: البيضاء، وذمار، وتعز، وحجة، وعمران، والضالع، بالتدخل في اختصاصات الشركة اليمنية للغاز المنزلي.
كما أشار إلى أن الشركة اليمنية للغاز تمنح 15 شركة، تراخيص لبيع الغاز المنزلي، وتتبع كل شركة عددًا من المحطات التي تعمل في الوقت الحالي، ويتم تموينها ومطابقة المواصفات والأمن والسلامة والشوارع التي تتواجد فيها بشرط ابتعادها من التجمعات السكانية أو الأسواق- حسب تعبيره.
الشركة اليمنية للغاز أوضحت أن انفجار مدينة البيضاء وقع في المحطة التي أنشئت بتصريح من قبل مكتب الصناعة والتجارة، وهو ما نفاه مكتب الصناعة والتجارة بالمحافظة، معتبرًا ذلك ادعاءً "لا أساس له من الصحة".
تحولت الشوارع والطرق الرئيسية في العاصمة صنعاء ومدن أخرى إلى مسرح لبيع المشتقات النفطية المعروفة باسم "السوق السوداء"، ناهيك عن محطات الغاز المستحدثة بكثرة وسط الأحياء السكنية
وأفاد مدير مكتب الصناعة والتجارة في البيضاء أحمد الحازبي لـ"خيوط" أن شركة الغاز هي المسؤولة عن وجود كل المحطات "السفري" والأساسية، وأنها هي من تقوم بتموينها. ولفت إلى أن المحطة التي انفجرت وسط مدينة البيضاء مرخصة باسم (م. ع. ع)، ويتم تموينها من قبل شركة الغاز. وهذه المحطة، وفقًا لوثيقة حصلت عليها "خيوط" أصدرتها الشركة اليمنية للغاز في محافظة البيضاء في 23 أغسطس/ آب 2020، تؤكد فيها الشركة وجود ثلاث طرمبات غاز في مدينة البيضاء غير مرخصة، من ضمنها محطة (م. ع. ع)، وتطلب من إدارة التموين منحها تراخيص للعمل.
وعن اتهامات الشركة اليمنية للغاز للسلطة المحلية ومكاتب الصناعة والتجارة بالتدخل في اختصاصات شركة الغاز، يقول الحازبي، إن قانون التجارة الداخلية والسلطة المحلية يمنح مكاتب الصناعة وقيادة السلطة المحلية صلاحية تسهيل دخول المواد للمحافظات من باب خلق التنافس وكسر الاحتكار وحماية المستهلك، متهمًا شركة الغاز بعدم الخضوع للقانون والرقابة من قبل السلطات المحلية. كما فسّر عدم الخضوع هذا للقانون والرقابة بأنه من أجل "التلاعب" بكميات الغاز المرحّلة لكل محافظة من صافر، وذلك من أجل توزيعها على محافظات أخرى حيث تباع إما كغاز مستورد أو تجاري تحت أي مسمى -حسب قوله.
محطات مصغرة
وتحولت الشوارع والطرق الرئيسية، في العاصمة صنعاء ومدن أخرى، إلى مسرح لبيع المشتقات النفطية المعروفة باسم "السوق السوداء" ينضم إليها مئات الباعة مشكلين بنية لـ"تجارة غير مشروعة"، وحلقة لا يُعرف آخرها. "خيوط" مرت في شارع واحد فقط بالعاصمة صنعاء، وأحصت فيه أكثر من 13 "طرمبة" تعمل كسوق سوداء لبيع المشتقات النفطية، وبدون وسائل السلامة التي بدت منعدمة تمامًا فيها، وبجوار محلات تجارية، وأماكن آهلة بالسكان. تحدثنا مع العاملين عن هذه المحطات المتنقلة، وأكدوا أنهم مجرد عمال بالأجر اليومي، ولا يمتلكون تراخيص لمزاولة العمل، رافضين كشف هوية ملاكها.
يعتبر مكتب الأشغال العامة والطرق في أمانة العاصمة صنعاء الجهة المسؤولة عن إعطاء تراخيص المرافق والبسطات في الشوارع، ولكنه أرجع مسؤولية "الطرمبات" (المضخات) في السوق السوداء لبيع المشتقات النفطية، على شركة النفط، نافيًا علاقته بهذه التجارة.
وقال مدير عام شؤون الأسواق والمرافق ذاكر العامري في حديثه لـ"خيوط" أن مكتب الأشغال جهة تعاونية مع شركة النفط، ويقوم بالنزول الميداني مع الشركة فقط، وغير مخول برفع هذه الظاهرة من شوارع المدن. وفي رده على تساؤلات "خيوط" عن الجهة التي منحت هؤلاء الباعة التراخيص للمتاجرة بالمشتقات النفطية في الشوارع، أفاد العامري أن المكتب "لم يمنحهم أي تراخيص للعمل"، كون إعطائهم تصاريح لممارسة البيع يعتبر بمثابة تمليك للموقع الذي يتواجدون فيه -حد قوله.
وأضاف العامري أن مكتب الأشغال نفذ، منذ منتصف يونيو/ حزيران 2020، عدة حملات مع شركة النفط ووزارة الداخلية لرفع مظاهر السوق السوداء من الشوارع، متحدثًا عن ضبط أكثر من 380 محطة مخالفة. لكن هذه الحملات توقفت أواخر يناير كانون الثاني/ يناير 2021، وفقًا للعامري، الذي حذر من خطورة هذه الظاهرة وما قد تسببه من حرائق ضخمة، إضافة إلى ما تشكله هذه الأسواق والباعة من ازدحام في الأرصفة والشوارع.
وفي الوقت الذي تنصلت الجهات الرسمية المعنية من هذه الظاهرة وأرجعت المسؤولية على شركة النفط اليمنية، حملنا كل هذه الاتهامات إلى الشركة باعتبارها الجهة المسؤولة عن ضبط وتنظيم المشتقات النفطية، لمعرفة من يقف وراء تجارة السوق السوداء، وأين تقف شركة النفط من هذه الظاهرة؟
وأفادت شركة النفط بأنها ليست الجهة المعنية، وليس من اختصاصها كشركة نفط، إزالة ظاهرة السوق السوداء، وأنه لا يوجد أي تخويل قانوني لها بالنزول لضبط هذه الأسواق في الشوارع. وتضيف الشركة عبر ناطقها الرسمي، أن عملها يقتصر على ضبط المواد منذ خروجها من السفينة في ميناء الوصول الى أن تصل محطات التعبئة، وبعد خروجها من باب المحطة ليس للشركة أي تخويل قانوني بإلقاء القبض عليها.
وألقى الناطق الرسمي لشركة النفط عصام المتوكل في حدثيه لـ"خيوط"، مسؤولية انتشار السوق السوداء، على جهات الضبط المتمثلة بالنيابة ووزارة الداخلية، مشيرًا إلى أن المشتقات النفطية المتوفرة في السوق السوداء يتم إدخالها عن طريق التهريب من المنافذ البرية بطريقة غير رسمية.
وبخصوص انتشار السوق السوداء لم ينفِ المتوكل وجود كميات كبيرة من المشتقات في الشوارع، ومحطات عشوائية تبيع بأكثر من السعر الرسمي للشركة، مرجعًا ذلك إلى إهمال الجهة التي تمنح تراخيص إنشاء المرافق.
كما يؤكد ناطق شركة النفط على أن جميع المحطات العشوائية التي تم إنشاؤها في السوق السوداء، تعمل دون موافقة الشركة، لافتًا إلى أن المحطات المستحدثة بأسمائها ومواقعها رفعت عنها الشركة تقريرًا إلى مكتب النائب العام، ليتخذ الإجراءات القانونية حيالها، إما بإزالتها أو بتصحيح أوضاعها.
كما يعتقد المتوكل بأن إزالة ظاهرة السوق السوداء من المدن "لن تتم إلا بدخول سفن المشتقات النفطية المحتجزة"- حسب تعبيره، وأن تجارة السوق السوداء تنتعش وتزداد الحاجة إليها في الوضع الذي يحتاج السكان للسلعة. مبينًا أن تهريب قاطرة واحدة فيها (70) ألف لتر من المشتقات قادرة أن تعمل (3500) جالون سعة 20 لترًا وتملأ شوارع بأكملها، غير أنه لم يوضح كيف يتم تهريب قاطرة نفط بكاملها.
حرائق دون منقذ
تشهد العاصمة صنعاء منذ يونيو/ حزيران 2020، أكبر وأطول أزمة وقود تشهدها اليمن منذ بدء الحرب، الأمر الذي أدى إلى اتساع تجارة المشتقات النفطية وتخزينها من قبل التجار في الأحياء السكنية لبيعها في السوق السوداء بأسعار باهظة، الأمر فاقم من حوادث الحرائق في أكثر من منطقة.
هناك "تساهل" من قبل اللجنة الرئيسية، مع أصحاب الكميات القليلة التي لا تتجاوز 3 جوالين (60 لترًا)، حيث تم اقتراح ترك هؤلاء وشأنهم، بشرط أن يتنظموا وألا يشكلوا عائقًا لحركة السير في الشوارع
وبحسب إحصائية حصرية حصلت عليها "خيوط" من الدفاع المدني، فإن حوادث الحرائق النفطية لتجار السوق السوداء التي أخمدتها قوات الدفاع المدني في مناطق سيطرة أنصار الله (الحوثيين) منذ يونيو/ حزيران 2020، وحتى 21 فبراير 2021، بلغت 23 حادثة حريق لمواد نفطية لتجار السوق السوداء. وأوضح مسؤول في الدفاع المدني أن هذه الإحصائية كانت وفقًا لعدد البلاغات التي وصلتهم، لافتًا إلى أن عدد الحوادث يتجاوز هذا الرقم، لحرائق كبيرة اندلعت، ولكنها غير مقيدة لديهم.
ويعتبر الدفاع المدني ظاهرة بيع المشتقات النفطية من قبل تجار السوق السوداء، مخالفًا لقانون الدفاع المدني رقم 24 لعام 1997، وذلك لعدم وجود تصريحات قانونية من قبل الدفاع المدني لمزاولة عملهم التجاري، وفقًا لمدير التوجيه والعلاقات العامة خالد الشراحي، الذي أكد في حديثه لـ"خيوط"، أنه وخلال الشهرين الماضيين من العام 2021، حدثت العديد من حوادث حريق المحطات البترولية والغازية وانقلاب قاطرات الغاز والبترول وحوادث المركبات في الطرقات وعلى متنها مشتقات نفطية، مشيرًا إلى أن هذه الحوادث وقعت في أماكن بيع وتخزين المشتقات النفطية.
ويعاني الدفاع المدني، بحسب الشراحي، من شحة الإمكانيات والمعدات، إضافة إلى عدم وجود فروع الدفاع المدني في المدن والأحياء لتفادي الخسائر المادية والبشرية الناتجة عن حوادث احتراق المشتقات النفطية.
محاولة بائسة
مطلع نوفمبر/ كانون الأول 2020، شُكلت لجنة رئيسية تتكون من أمانة العاصمة صنعاء ومكتبي الأشغال والصناعة والتجارة، وكذلك إدارة أمن الأمانة، والنيابة، وذلك لتولي عملية ضبط المشتقات النفطية في السوق السوداء، وكذلك الطرمبات والمحطات العشوائية، والأحواش التي تخزن فيها المشتقات التي تغذي تجارة السوق السوداء.
وأفاد "خيوط" مصدر مطلع، طلب عدم ذكر اسمه، أن الفرق الميدانية التي شكلتها هذه اللجنة، تولت عملية النزول الميداني والضبط، مؤكدةً ضبط ما يقارب 400 طرمبة، لكن وفقًا لحديث المصدر، فإن عملية ضبط الطرمبات فقط، دون كميات المواد النفطية المعرّضة للانفجار أو الحريق، لا تجدي نفعًا. ولفت المصدر إلى أن ضبط الطرمبات يفترض أن يكون بشكل موسع ويغطي كل المديريات وليس بمكان واحد فقط، وترك الآخرين.
وتطابق حديث أكثر من مصدر بأن هناك "تساهل" من قبل اللجنة الرئيسية، مع أصحاب الكميات القليلة التي لا تتجاوز 3 جوالين (60 لترًا)، حيث تم اقتراح ترك هؤلاء وشأنهم، بشرط أن يتنظموا وألا يشكلوا عائقًا لحركة السير في الشوارع، والتركيز على أصحاب الكميات الكبيرة.
أما عن الأحواش التي تخزن فيها المشتقات النفطية لتموين السوق السوداء، والمحطات العشوائية، أوضح مصدر أمني في حديثه لـ"خيوط"، أن شركة النفط يفترض أن ترفع بأماكن تواجد هذه المواد إلى النيابة، لتتم التوجيهات وإصدار الأوامر إلى الأمن بضبطها، مشيرًا إلى معرفة شركة النفط بأماكن تواجد المحطات العشوائية ومخازنها.
بحسب مصدر محلي مطلع، أودى انفجار محطة الغاز في مدينة البيضاء في يناير/ كانون الثاني 2021، بحياة ثلاثة أشخاص وإصابة خمسين آخرين، بينما لا تُعلن غالباً إحصائيات ضحايا الحرائق في السوق السوداء للبنزين والديزل. ومع كل ذلك ما تزال ظاهرة السوق السوداء تتسع يوما بعد آخر، ولا تتوافر تقديرات، أو أرقام يمكنها أن تحدد، ولو على نحو تقريبي، حجم هذه الأسواق الغامضة بتفاصيلها التي تشبه تعقيدات القنابل الموقوتة.