(1) ابن صفية
عشقتُ الليل كثيرًا، كنتُ أشعر معه أنّني أمتلك كلَّ تفاصيل المكان في قريتنا، لم أكن أحبّ الحديث مع كلِّ من حولي عن أي شيء يخصّ تفاصيل حياتي، كان الليل هو رفيقي الدائم الذي أعود إليه في أغلب أوقاتي، وكانت الزاوية التي أتخذها فوق سقف منزل أمي هو المكان الوحيد الذي يُشعرني بأنني موجود وحاضر، لا أحبّ الجلوس إلا مع مسجلتي القديمة المتهالكة وصوت أيوب طارش، إنه يبعث الدفء في عروقي، أمي تنام مبكِّرةً غير مكترثة بي وبكل ما يدور حولها، بل وبكل العالم من حولها، صار المكان يألفني إلى درجة أنّني أصبحت أنا والمكان شيئًا واحدًا، هكذا استمر روتين حياتي اليومي، طيلة هذه الفترة من عمري، لم أكن مهتمًّا بأكلي ولا بشربي كثيرًا قدر اهتمامي بتوفير قيمة بطاريات مسجلتي العتيقة، لا أستطيع أن أتخيّل نفسي بدون صوت أيوب طارش، أصبحت مسجلتي ومكاني والليل عنوانًا بارزًا باسمي في قريتي الصغيرة، وأصبح اسمي مثلًا يتندر به الجميع في كل قرانا، لقد أصبح الجميع ينادونني باسم (راجح صفية) مستخدمين اسم أمي، لقد نسيَ الجميع اسم أبي (سعيد شمسان).
لا يهم، لم أعد أكترث لشيء، لقد تساوى كلُّ شيء في حياتي، آه، ما أصعب أن يعيش الإنسان وحيدًا! لم أعد قادرًا على ممارسة حياتي الطبيعية مع الناس، كان عزوفي عن الناس قرارًا صعبًا ومريرًا.
وجوه الناس تذكرني بمأساتي في هذا الوطن، لم أجد غير الليل واستماعي للغناء، لأشعر بوجودي كإنسان، في وقت تخلَّى الجميع عني، لم أفعل شيئًا سيّئًا في حياتي، لقد كانت سيرتي مفعمة بالنشاط والحيوية في فترة شبابي، لقد لبيت نداء الوطن مع كل أبناء بلادي للتحرر والخلاص من حكم الأئمة الكهنوتي، انضممت إلى صفوف الجيش الوطني والثوار، قاتلت الملكيين بشجاعة منقطعة النظير مع رفاق السلاح في كل مكان من أجل الثورة ومن أجل الجمهورية، ومن أجل أن يحيا أبناء وطني، كان صوت الثورة والجمهورية أقوى من كل صوت، وكانت دماء الحرية تسري في عروقي وعروق الجميع، تعرضت لكمين غادر من أعداء الثورة نتيجة لغمٍ أرضيّ، أصبت بحالة تشوُّه أقعدتني عن مواصلة القتال، خرجت من أرض المعارك فخورًا بنفسي، تضررت كثيرًا ومع كل الصراعات، وبسببها بقيت على حالتي أعاني من ويلات النكران والجحود، لم أجد أحدًا ألجأ إليه، لم يسمعني أحد، وبدأت أشعر بالإهمال، تركت كل شيء وعدت إلى قريتي الصغيرة، بقيت فيها أبحث عن شيءٍ ما أضعته عن المستقبل والجيش والدولة، وحتى الثورة والجمهورية لم أعد أتذكرهما. تخلّت الدولة عنّي مثلما تخلت عن الكثير من أبناء كثير من المناطق التي ننتمي إليها والذين قاتلوا معها بكل شجاعة وبسالة من أجل الخلاص. الآن فقط صرت غير عابئ بكل شيء.
أعيش وحيدًا بعيدًا عن كل هذا الضجيج، لم أجد غير الليل والاستماع إلى الأغاني لأتمكن من البقاء والاستمرار، أعرف أنّني سأموت في هذا المكان دون أن يهتم أحدٌ لموتي، لكنني أعرف في داخلي أنّني لم أتخلَّ عن نداء وطني يومًا ما، وأعرف أنّ وطني تخلَّى عني وتركني وحيدًا، هكذا قررت أن أعيش بعيدًا عن وجوه كل الناس، حاولت أن أطوي هذه الصفحات السوداء من عمري، لم أفكر في الموت أبدًا، الآن فقط شعرت أنّني كبرت كثيرًا، ربما يحضر الموت في أي لحظة، لم أعد أكترث له، عرفت الموت كثيرًا عندما كنت أقاتل في معارك الدفاع عن الثورة وعقدت صداقة معه، أشعر الآن بالرضا التامّ عن نفسي في وقت لم أجد من بلادي كلها سوى هذا المكان والليل وصوت أيوب طارش.
مات راجح سعيد وماتت أمه، وتركوا وطنًا مثقلًا بالفوضى والحروب.
(2) عبده العكبار
يكرر عبده العكبار سؤاله المعتاد لكل شخص يلتقي به:
يقال إنه لُقِّب بالعكبار؛ لأنّ (الفأر) قد قرض رأسه وهو نائم، وكان يضحك من دون أن يعرف ماذا يجري، وعندما صحا من النوم في الصباح وجدَ رأسه مأكولًا، وحينها أطلق الجميع عليه "عبده العكبار"، ونسيَ الجميع اسمه الحقيقي، ودائمًا ما يقول لنفسه: "المهم قصدك من اسم تواجه به هذا العالم المُدَوِّخ (غير المتوازن)"، هو عادة لا يهتم كثيرًا بالأسماء، ولا يبدو أنه يعرف أسماء من يقابلهم غير أنه دائمًا ما يرمي لهم بسؤاله المعتاد:
يجوب عبده العكبار شارع هائل جيئةً وذهابًا بشكل يومي ليسأل كل من يلتقيه:
- ها مو قابو؟
وغالبًا ما تكون الردود عليه:
- اليوم أزمة بترول شديدة.
- ارتفع سعر البترول في السوق السوداء.
- القات اليوم بوْرَة (العرض أكثر من الطلب).
- برشلونة أمس انهزم.
- ريال مدريد فاز، وناوي يأخذ دوري الأبطال من جديد.
- أصحاب الباصات رفعوا سعر الراكب.
- الدولار نقص والمواد الغذائية ترتفع أسعارها.
- إليزابيث ملكة بريطانية ماتت.
- العراق ما فيش حكومة.
- ليبيا حرب.
- سوريا مشاكل وحروب.
- لبنان مظاهرات ومشاكل.
- أوكرانيا مربوش وروسيا محاصر.
- أوروبا مشاكل غاز.
- اليمن معصودة عصيد، الشمال شمال، والجنوب جنوب، والوسط مضطرب.
- الناس في الشوارع يكلمون أنفسهم.
- الشوارع زحمة والنسوان بالسوق ملان.
هكذا اعتاد عبده العكبار حشو رأسه بالأجوبة اليومية التي تجعله يركن إلى زاويته، متناولًا أغصان القات التي يدبرها من هنا وهناك، من خلال رحلته اليومية في شارع هائل، ومن خلال تخزينته التي تبدأ بعد الثامنة ليلًا، يبدأ بالتعامل مع جميع المعلومات التي تلقّاها خلال يومه المزدحم، ومنها يضع حلولًا لكلّ المصاعب التي يواجهها العالم سارِحًا بخياله في عوالم أخرى مليئة بالأمل والتفاؤل.
تمر ساعات التخزينة بسرعة، تاركًا بعض المشاكل بدون حلول لعدم كفاية الوقت، ويجد نفسه في صباح اليوم التالي مبطوحًا وكلّ مشاكله بدون حلول، ليبدأ رحلته اليومية من جديد.