تفسّر عبارة "بسبب الوضع"، التي تعني سوء الوضع الاقتصادي والصحي والأمني وغيرها من المشكلات الناجمة عن الحرب المستمرة وتداعياتها المختلفة، حالَ أولئك الذين أصيبوا بالمرض النفسي في اليمن، والذين تتفاقم معاناتهم بشكلٍ يوميّ، للحدّ الذي أصبحوا فيه منسيِّين تمامًا، في ظلّ غياب الرعاية من قبل الجهات الحكومية، والمنظمات المعنية تجاه هؤلاء.
ويواجه مئات الآلاف من اليمنيين ضغوطات نفسية واجتماعية شديدة تسببت بها الحرب والفقر والمرض وانفصال الأسر. في حين يعاني نظام رعاية الصحة النفسية في اليمن من نقص في التمويل، وانخفاض الاهتمام من قبل صانعي القرار للدعوة إلى مثل هذه الخدمات، وندرة المهنيين في مجال الصحة النفسية، ناهيك عن وصمة العار الاجتماعية المرتبطة بمرض الصحة النفسية والاهتمام المحدود من الجهات الإنسانية الفاعلة في تعزيز الصحة النفسية ونُظم الدعم النفسي والاجتماعي.
إضافة إلى محدودية قدرات وموارد السلطات الصحية لديها قدرات وموارد محدودة حيث لا يوجد سوى 45 طبيبًا نفسيًا يعملون في البلاد (36 في صنعاء و9 أطباء نفسيين في عدن - طبيب نفسي واحد لكل 700,000 فرد). كما أن الغالبية العظمى من الأشخاص الذين يحتاجون إلى الرعاية الطبية بما في ذلك الأدوية يجب أن يدفعوا تكاليف العلاج.
هذا، وتكتظ أرصفة الشوارع بالمرضى النفسيين، ومصابي المرض العقلي، بجانب ضحايا من المتشرِّدين والفقراء والعاطلين عن العمل، ممّن يعيشون على فتات ما يجود به أهل الخير.
في السياق، يؤكّد مصدر مسؤول في وزارة الصحة والسكان، في الحكومة المعترف بها دوليًّا -فضّلَ عدم الإشارة لهويته- في تصريح لـ"خيوط"، أنّ الوزارة تسعى بالتعاون مع منظمة الصحة العالمية، لإعادة ترميم وتأثيث مستشفى الأمراض النفسية والعصبية في كلٍّ من عدن وتعز، إلى جانب توفير الأدوية الأساسية؛ من أجل تخفيف الضغط على المستشفيات المتخصصة بالصحة النفسية، إضافة إلى تدشين برامج تدريبية لرأب الفجوة في الصحة النفسية، من خلال افتتاح عيادات متخصصة في المستشفيات العامة، وتأهيل الكادر العامل فيها بالتنسيق المستمر بين البرنامج ومكاتب الصحة بالمحافظات.
تجربة مع المعاناة
يُعرَّف المرض النفسي بأنّه "اضطراب في الشخصية، وهو اضطراب عصبيّ وظيفيّ غير مصحوب بتغير بنيويّ في الجهاز العصبي، ترافقه في كثير من الأحيان أعراض هستيرية وحصر نفسي، وهواجس مختلفة".
تشرح جمانة (اسم مستعار)، في حديث لـ"خيوط"، معاناةَ أحد المصابين نفسيًّا، والذي يسكن بجوار سكنها، حيث تقول: "ساءت حالة جارنا المصاب بحالة نفسية بعد وفاة والدته التي كانت تعتني به، وتحرص على أن يتناول العلاج في الوقت المناسب. حاليًّا، نسمع صوته يتعالى فجأة، حتى يتحوّل إلى صراخ مع ضرب على الجدران وسكب الماء".
يرجع أخصائي نفسي إكلينيكي، أسباب ازدياد المرضى النفسيين، إلى الصراعات والوضع الاقتصادي والفراغ والضغوط الحياتية بشكل عام، في ظلّ ارتفاع تكاليف المصحات والتي تفوق قدرات معظم أهالي المرضى، إلى جانب وصمة العار التي يفرضها المجتمع اليمني على الأسرة التي يتواجد فيها مريض نفسيّ.
وتتابع جمانة: "هكذا نعيش هذا الحال المخيف والمؤذي، الذي قد يتعرّض له المريض نفسه، أو جيرانه، خاصة الجيران الذين لديهم أطفال، حيث يخافون أن يعتدي عليهم، حال خروجهم للبقالة أو لأي مكان في الحارة".
موضحةً: "حدثتني أخت المريض أنّهم لم يتابعوا علاجه بسبب وضعهم المادي الذي لا يسمح لهم أن يتحملوا تكاليف العلاج والذهاب به للمصحة النفسية، خاصة في ظلّ غياب الدعم من أيّ جهة لمساعدتهم على علاجه"، تنهي جمانة حديثها لـ"خيوط".
حوادث اعتداء
شهدت العديدُ من المدن، حوادثَ قتلٍ قام بها أشخاص مصابون بالأمراض النفسية، متسبِّبًا بوقوع مشاكل لأسرهم مع أهالي الضحايا.
واحدة من هذه القصص المؤلمة، ترويها جميلة (29 سنة)، حيث تعرّضت لمحاولة قتلٍ من أخيها المريض نفسيًّا. وعلى إثر هذا الحادث، اضطرت إلى مغادرة بيتهم، للسكن مع أخٍ لها في بيت منفصل.
توضح جميلة لـ"خيوط"، أسباب حالة أخيها النفسية، حيث تقول إنّها "ناتجة عن تراكم المشاكل والظروف المعيشية، إذ طلّق زوجته نتيجة شكوك وأوهام تملّكته بسبب مرضه، وبمرور الوقت تفاقمت حالته النفسية، وبات يعتقد أنّ كلَّ من في البيت يحاول قتله والتخلص منه، وبالتالي فهو يحاول أن يحمي نفسه مني حينما هاجمني محاوِلًا قتلي".
في هذا الصدد، تقول لـ"خيوط"، منيرة النمر- رئيس الوحدة النفسية في مستشفى الرسالة بصنعاء: "يتم استخدام العنف بشكلٍ معين أحيانًا لتثبيت المريض العدوانيّ، لكن بدرجة لا يتضرّر فيها المريض، لحمايته وحماية الآخرين".
عجز وتخلٍّ
يُرجِع صخر الشدادي، أخصائي نفسي إكلينيكي، لـ"خيوط"، أسباب ازدياد المرضى النفسيّين، إلى الصراعات والوضع الاقتصادي، والفراغ، والضغوط الحياتية بشكل عام.
وذلك في ظلّ ارتفاع تكاليف المصحات، والتي تفوق قدرات معظم أهالي المرضى، إلى جانب وصمة العار التي يفرضها المجتمع اليمنيّ على الأسرة التي يتواجد فيها مريض نفسي.
بدوره، يلفت عبدالكريم غانم، أستاذ وخبير علم الاجتماع، الانتباهَ إلى أنّ اليمن يفتقر للبنى التحتية في مجال خدمات الصحة النفسية، وقلة العيادات والمصحات ومراكز الإيواء المختصة بالمرضى النفسيين.
إذ دفع ذلك العديدَ من الأُسَر إلى التخلّي عن الاستمرار في الرعاية الأُسَرِيّة لمرضاهم النفسيّين، مع وصول الأمر لدى البعض إلى حالة اليأس من تعافيهم واندماجهم في الحياة الاجتماعية مجدّدًا.