لا ينكر الشاب باسم عبدالولي، استسلامه مرات كثيرة لأفكار سلبية تدفعه للتفكير في جدوى حياته، حيث تراوح مكانها في ظل قيود تكبله للمضي قُدمًا في حياته التي بشكل عام لا يجب إلا أن تستند لأحلام وأماني وتطلعات وطموح يتنوع من شخص لآخر، ويمثل التعليم بداية الانطلاق لتحقيق كل ذلك.
لكن الأوضاع في اليمن انقلبت رأسًا على عقب في ظل حرب وصراع أدى إلى تفجير أزمات مست حياة الناس ومعيشتهم وتعليمهم وحرياتهم وأرزاقهم وسبل عيشهم، ولا تزال تُلقي بتبعاتها الكارثية للعام العاشر على التوالي. وسط وضع كهذا، يقول باسم لـ"خيوط": "كيف بالإمكان التفكير بالأحلام، فالنتيجة التي أصبحت حقيقة ملموسة هي أنّ كثيرًا من الشباب راودتهم أفكار تكون أحيانًا جنونية مثل الانتحار".
فالأمور تصل في بعض الأحيان إلى طريق مسدود، أفق مغلق، فرص منعدمة، هجرة صعبة، سوق شحيحة الفرص، ثم تتحول إلى كتلة من الطاقة السلبية العاصفة التي من الصعوبة توقع نتائجها التي قد تكون كارثية وصادمة.
الانتحار ليست ظاهرة حديثة على الواقع اليمني، وليست وليدة ظروف موضوعية أُنتجت خلال السنوات الماضية، فتداخلت لتفرز هذه الظاهرة فقط، بل إنها ظاهرة متجددة، لها وجود في كل المجتمعات الحديثة منها والمتخلفة، القديمة والجديدة، ولكن ما يجعل منها محل اهتمام في هذه الظرفية التاريخية، تفاقمُها في مجتمعنا بشكل غير مسبوق خلال السنوات الماضية، الأمر الذي يدفعنا للاهتمام بها، ولو بقدر ما تسمح به هذه الفرصة.
تتنوع دوافع الانتحار وتختلف من شخص لآخر، فشخص ينهي حياته لأنه لم يستطع إطعام طفلتيه، ومعلم يودع أولاده إلى الآخرة بسبب تدهور الأوضاع المعيشية، بينما نجد شابة تنتحر لأنها لم تتمكن من إطلاق سراح شقيقها من أحد السجون في البلاد، وبالرغم من هذا التنوع فإن النتيجة واحدة؛ الموت المتعمد أو الانتحار.
هناك من يرى أن الانتحار ليس فقط ظاهرة اجتماعية وحسب، بل إنه تحول إلى أقصى حالات المرض النفسي، فعندما يصل الفرد إلى مرحلة متطورة من الاكتئاب واليأس الذي لا يستطيع معالجته لا عن طريق الأدوية ولا إشراف أطباء نفسيين، يرى أن حياته وصلت إلى طريق مسدود ويجب التخلص منها.
بحسب بيانات متداولة، اطلعت عليها "خيوط"، لكن لم يتسنَّ التأكد من صحتها، هناك تفاوت بين مناطق طرفي الصراع في تسجيل حالات الانتحار التي تصل إلى بضع مئات، نُسب العدد الأكبر منها لمناطق نفود "الحوثيين" مقارنة بمناطق الحكومة المعترف بها دوليًّا.
هذه الأرقام المتداولة التي سُجلت في تلك المناطق -بالرغم من أن هناك من يطعن في صحتها- يسود اختلاف حولها، مردّه أن القوى التي تسيطر على تلك المدن لم تعترف بالعدد الحقيقي لعمليات الانتحار، ذلك أن التكتم عن تلك الحوادث وغيرها يوفر لها نوعًا من المشروعية ولا يطعن في كيانيتها، لكن على الرغم من ذلك فإن الرقم يحيل إلى ظاهرة أصبحت متفشية داخل المجتمع اليمني، إلى درجة ينبغي الوقوف عندها للتعرف على كُنهها والإمساك بتلابيبها.
المستقبل ومنظومة مستعصية على التفكك
تنوعت وتفاوتت ردود ونظرة الفتيات والشباب لموضوع "الانتحار" الذي لا يمكن إنكار تسلّل هاجسه في أوساط اليمنيات واليمنيين في ظل ظروف وأوضاع اقتصادية ومعيشية كارثية، وتضييق وكبت وقمع ساهمت في ظهور وانتشار عديدٍ من الظواهر السلبية في المجتمع اليمني، حيث أصبحنا من وقت لآخر نشاهد ونلاحظ ونسمع أو تأتينا أخبار من هنا وهناك في البلاد لمحاولات انتحار، كثير منها تظل مجهولة الأسباب، لكن بالمقابل، يسود الوضع الغالب المحفوف بالأمل والكفاح والقوة والصمود في وجه عاصفة الأزمات.
الناشط الاجتماعي وليد شاهر، يتحدث لـ"خيوط"، عن أن التضييق في هذا الأمر يصل إلى التستر عن محاولات أو وقائع وحوادث انتحار؛ لأنّ المشكلة في هذا الموضوع أن المجتمع يتعامل مع ذلك باعتباره نوعًا من أنواع منظومة "العيب" التي تستعصي على التفكك، حيث تستمد من تقاليد وعادات بالية شكّلت نمط حياة المجتمع، وانعكست على تعامله، سواء على مستوى الأسر أو على مستوى أكبر وأشمل.
في حين تقول العشرينية، مرام المروني، لـ"خيوط": إنه "ظاهرة ناجمة عن مجموعة من الضغوطات الاجتماعية والاقتصادية التي لها دور كبير في التأثير السلبي على نفسية الإنسان، ويقدم عليها الفرد كطريقة للهروب من الواقع المؤلم إن لم يستطع تقبل الواقع والتعايش مع تلك الصعوبات أو إيجاد الحلول لها".
بحسب الشابة أميرة سعيد، في حديثها لـ"خيوط": "لا يلجأ الإنسان العاقل إلى الانتحار إلا إذا وصل إلى مرحلة فقدان الوعي التام"، مرجعةً -وفقًا لاعتقادها- سبب بروز ظاهرة الانتحار بشكل كبير في اليمن، إلى ضعف الإيمان، فعندما يضعف الإنسان أمام مواجهة تحديات الحياة، ويفشل في التماسك والصبر، تذهب الأمور إلى ما لا يحمد عقباه.
هناك من يرى أن الانتحار ليس فقط ظاهرة اجتماعية وحسب، بل إنه تحول إلى أقصى حالات المرض النفسي، فعندما يصل الفرد إلى مرحلة متطورة من الاكتئاب واليأس الذي لا يستطيع معالجته لا عن طريق الأدوية ولا إشراف أطباء نفسيين، يرى أن حياته وصلت إلى طريق مسدود ويجب التخلص منها.
ويرى الشاب رأفت محمد، في حديثه لـ"خيوط"، أن المستقبل أصبح مبهمًا ومجهولًا للشباب في اليمن، حيث الأوضاع صعبة؛ بسبب الحرب وأطراف الصراع التي سلبت هذه الفئة مستقبلها وأحلامها.
التفكك وتنمية الدوافع والأسباب
بينما كان الانتحار عبارة عن مفهوم يعتريه القليل من الغموض، فقد ذهب الباحث الاجتماعي هيثم الأحمدي إلى التعرف على ماهيته، حيث يقول لـ"خيوط": "الجندي الذي يندفع إلى مواجهة موت محقق هو لا يبتغي الموت على كل حال، ومع ذلك هو صانع موته، أو الأم التي تضحي بنفسها من أجل ولدها، ونحو ذلك من القصص التي تخلق نوعًا من الالتباس في مفهوم الانتحار". بالمقابل، يرى الأحمدي أن هناك اختلافًا بين أن يكون الموت ببساطة كشرط مؤسف، ولكنه محتم، لتحقيق هدف منشود أو أن يكون متعمدًا ومرغوبًا لذاته.
ويعرف الأحمدي الانتحار بأنه "فعل فردي يقدم عليه شخص من تلقاء نفسه بشكل مباشر وبطريقة معينة"، متابعًا: "لا يداخلنا الشك في أن الانتحار بالمفهوم العامي الشائع هو قبل كل شيء فعل ناجم عن اليأس الذي يقوم به شخص لم يعد متعلقًا بالحياة".
ويستدرك بالقول: "ولكن لأننا في الواقع نكون ما نزال متعلقين بالحياة في اللحظة التي نغادرها، فنحن لا نفرح بأن نتخلى عنها، وفي حين أن جميع الأفعال التي يتخلى بواسطتها شخص حي على هذا النحو عن تلك الحياة التي تعتبر أنفس ما يملكه، فإن تنوع الدوافع التي قد تملي هذه القرارات لا يمكن أن تظهر سوى تباينات ثانوية. وهكذا، فحينما يذهب التفاني إلى حدّ التضحية المؤكدة بالحياة، فإن هذا يعني الانتحار.
كما أنّ ما تشترك به كافة الأشكال الممكنة لهذه التضحية (الانتحار)، هو أن الفعل الذي يقدم عليه يكون بمعرفة النتيجة؛ ذلك أن المنتحر يعلم في اللحظة التي يقدم فيها على الفعل، يكون على يقين بمعرفة النتيجة التي يترتب عليها تصرفه، إضافة إلى أن لديه سببًا دفعه إلى التصرف على هذا النحو.
فضلًا عن أن التفكك في الدور الثقافي للوسائل المخولة بتلك المهمة، من مدرسة وجامعة ووسائل إعلام بشتى تفرعاتها، جعل مسؤوليته هي تقرير أيديولوجية هذا الطرف أو ذاك، وليس العمل على تقديم دور منهجي يقلل من تلك الظاهرة، ولو بشكل بسيط".
ويستكمل الأحمدي حديثه قائلًا: "إن احتواء الفرد داخل أسرته وإشباعه نفسيًّا وعاطفيًّا، وتعزيز الجوانب الإيجابية التي يتحلى بها، والعمل على تشجيعه على طموحاته ورغباته المستقبلية إلى غير ذلك، كل هذه الأفعال وغيرها كفيلة بأن تكون مسؤولة عن الحد من تفاقم ظاهرة الانتحار".
ويذهب الاختصاصي في علم النفس، عبدالولي السالمي، في حديثه لـ"خيوط"، إلى القول إن الحد من انتشار ظاهرة الانتحار "يمكن أن يتأتى من التوعية والإرشاد المجتمعي بعدم جدوى الانتحار وتوضيح مخاطره، كونه يزيد من معاناة الأسر والأهل ولا يحل أي مشكلة. بالإضافة إلى نشر القيم الدينية والثقافية التي تجرّم فعل الانتحار وتشجع على الصبر، وتقوية التعاون والتكافل من خلال نشر الجمعيات المجتمعية التعاونية والخيرية من أهل الخير والمنظمات".
الأزمة الحقيقية تبدّد المنظور النفسي
لا بد لكل فعل، دافع، والانتحار فعل له أسباب ودوافع، حيث يوجز الدارسون والباحثون الأسبابَ والدوافع للانتحار؛ منها له علاقة بالجوانب النفسية المرتبطة بحالة الفرد النفسية، من مشاعر وصدمات واكتئاب، وجوانب عدة في هذه الخانة من التفسير لهذه الظاهرة.
في حين ينظر طرف آخر إليها من زاوية اجتماعية، حيث يرى أنصار هذه المدرسة، وعلى رأسهم إميل دوركايم، أن دوافع الانتحار تمليها الظروف الاجتماعية التي يعيش فيها الضحية داخل هذا المجتمع أو ذاك.
يضيف الأحمدي: "ولكن يمكننا القول إن الظروف الاجتماعية والنفسية، وأيضًا الاقتصادية التي يمر بها مجتمع ما، قد يكون لها دور كبير بشكل متداخل في التأثير على الإقدام للانتحار، وخاصة في بلادنا اليمن، فالفرد يتأثر بالواقع الذي يعيش فيه، ويضغط عليه نتيجة البطالة والفقر والجوع وعدم قدرة الشاب على تلبية رغباته الجنسية عن طريق الزواج، ومن ثم فإن هذه العوامل الاجتماعية والاقتصادية تتشابك مع الجانب النفسي للفرد، الذي يتفاعل مع تلك الجوانب، مما يفاقم حالته النفسية نتيجة تفاعله معها، وتؤدي به إلى ضغط عصبي نفسي وحالة من الاكتئاب واليأس...، وهذا يقود إلى الشعور بعدم أهمية حياته في ظل ظروف تكبله من جميع الجوانب، ومن ثم الانتحار يكون الحل لإنهاء ذلك التوتر".
ويتابع هيثم الأحمدي: "هناك أسباب أخرى مجتمعية قد تفضي إلى الانتحار، كالتفكك الأسري، والفراغ، والوحدة، وعدم اتخاذ هدف في الحياة، والخوف من العقاب عند ارتكاب جريمة ما، أو الخوف من الفضيحة والتعرض للقهر والتنمر".
أما المحلل الاقتصادي صادق علي، فيرى الأمر من منظور بعيد عن النظرة الفلسفية أو النفسية، فالأمر ببساطة، وفقًا لحديثه لـ"خيوط"، قد يكون له طابع اقتصادي رئيسي، إذ إن الفقر والبطالة وفقدان فرص العمل والحياة وسُبل العيش هي الحاضنة الرئيسية لكل هذه الظواهر السلبية التي أصبحت تجتاح اليمن خلال الأعوام الأخيرة، ومنها الانتحار.
لكن الانتحار -كما تستخلص وترصد "خيوط"- قد لا يكون بالضرورة إزهاقًا للنفس بآلة أو بوسيلة ما، بل قد تكون على شكل مرض، أو أزمات نفسية وقلبية، أو إدمان عادة سلبية مؤثرة للهروب من الواقع، وكذا بالهجرة التي أصبحت محفوفة بالاختفاء والموت والمخاطر؛ أو قد يكون على شكل هروب إلى الشوارع، حيث تتزايد أعداد المشردين والمتسولين، والمختلين عقليًّا.