في السادس من سبتمبر/ أيلول 2020، عُثِر على الشاب لؤي صدام مشنوقًا، فيما يعتقد أنها واقعة انتحار. لكن الاستشعار الفادح لخسارة هذا الشاب والذي يلقبه أصدقاؤه بـ"الفيلسوف" كانت عقب هذه النهاية المأساوية، إذ أتاحت هذه الفاجعة للكثيرين الاطلاعَ عمّن يكون هذا الشاب، وما الذي سيكونه لو أنه قُدّر له العيش الكريم.
يتحدّر لؤي من ريف العدين في محافظة إب، وبحسب شهادة أصدقائه الذين عاشروه، فإنه كان في حوالي الواحدة والعشرين من عمره، لكنه كان، على حداثة سِنّه، شابًّا متطلعًا وطموحًا، واتخذ من الكتاب ملاذًا للهروب من واقع الوحدة والشعور بالاغتراب. محمد دبوان المياحي، وهو أحد الأصدقاء الافتراضيين للشاب، وضع جزءًا من هذه السيرة في المتناول، على مواقع التواصل الاجتماعي:
"عاش حياة قاسية جدًّا، ماتت أمه وهو صغير، وهاجر أبوه للغربة، ولم يعد منذ 18 عامًا، تربّى في بيت أقاربه، وكان منذ طفولته حزينًا ويشعر بالوحدة، كافح ليعيش، وكانت الكتب ملاذه الوحيد، غرق في الكتب منذ صغره وتكوّنت له تصورات مختلفة عن المجتمع.
كان يناقشها مع الطلاب في المدرسة فيعنِّفه الجميع، لم يجد أحدًا يتفهمه، نهرَه المدرسون البلداء في مدرسته، طردوه، قالوا عنه ملحدًا، حرّضوا زملاءه عليه، نبذوه بدعوى أنه سيفسدهم، كان الجميع يتحدث عنه كما لو كان مجرِمًا، أكمل الثانوية ولم يجد أي طريق للحياة، فاعتكف في عزلته، وتضاعفت كوابيسه ثم انتهى به الحال للتخلي عن فكرة الحياة بكاملها".
كثيرٌ من الذين اطلعوا على منشورات وأفكار "الفيلسوف" الشاب، رأوا كيف انعكس نبوغه في شكل الهجاء المتواصل للثقافة الاجتماعية وقوالبها. وعوضًا عن أن يتم الأخذ بيده للاستثمار في عبقريته، ذاق الشاب وبال أمره، من الذين يعتقدون أنهم حراس مفترضون لمعبد الفضيلة والقيم، ما فتح الباب واسعًا أمام صروف التنمر والتعنيف اللفظي، الذي كان يواجهه كلما شرع بنشر أفكاره على مواقع التواصل الاجتماعي.
"لقد عشت أبحث عني رغم كل الإدراك الذي أملك أني لن أجدني، وكنت أعلم أني غير قادرٍ على حمل هذا الثقل، لكني حملته وتحررت بحمله إلى رغبات نادرة وقيود لم أكن لأشعر بها أبدًا. إن الوعي الظاهري الذي توصلت إليه كان وما يزال كما أعرف هادئًا وثائرًا. وما زلت أؤمن بإحساسي مهما كان اختلاف الفئات التي أعيش فيها".
في هذه الحالة، تحديدًا يمكن أن نستشهد -جزئيًّا- بالمقولة الشهيرة للأديب العالمي السيد ألبير كامو، إذ اعتقد أنه من الـ"عار على البشرية أن ينتحر أحدهم، وقد كان في حاجة إلى عناقٍ طويل". واضحًا وجليًّا، كان يمكن أن نرى اليتم والضياع، وكيف أن هناك إمكانية للتعامل معه، لو كنّا خارج هذا الوضع الاستثنائي. كتب لؤي كثيرًا، وحاور وناقش، ولكنه وصل للحظة اليأس، التي أرغمت قديمًا الفيلسوف أبو حيان التوحيدي، على حرق مراكب حروفه، وقد رأى ضمنيًّا، أن هذا المجتمع المتفكك الهازل لا يستحقه. حذف كل مقالاته الطويلة على حسابه في الفيسبوك، باستثناء مقالة واحدة، أراد بها قول كل شيء، عن حياة لم تكن كريمة معه:
"أقسمُ بكلّ ما استعظمتُه في حياتي كلّها، إن الأسرة هي وحدَها المتسبِّبةُ الضليعةُ المسؤولة عن كلِّ كلِّ الشرور الموجودة في هذا العالم، ولستُ أجدُ لها عذرًا يمكنه أن يجعلَ أصبعَ الاتهام غيرَ موجَّهٍ إليها".
أما في تعريفه للأنا والأنانية، فيضع لؤي التعريف الذي استمده من الواقع المعاش:
"الأنا والأنانيّة في الفرد تبدآن بالظهور بعد تخلّي أبيه وأمه وأقاربه الجِينِيِّين عنه وعدم الاضطلاع برعايته، هؤلاء الذين أخذوا قربه منهم حكرًا عليهم تخلّوا عنه الآن فأدرك وحدته ثم صار يضرب لنفسه مصالحَ أنانيّة، ومن هنا يتشكّل الصراع بين البشر، كلٌّ يضرب حسابًا لمصلحته الأنانية؛ لأنه صار يدرك وحدته بعد أن صدمه أقاربه إذ تعلّق بهم فتخلّوا عنه ولم يجد من غيرهم ذات القُرب الذي كان يشعر به في الصّغر، يحاول تعويضه بحبِّ فتاةٍ مثلًا يشعر بقربه منها، ولكن الأنانيّة تبقى فيه وذلك لعدم شعوره برعاية واهتمام غيره به، لو كنا مجتمعًا الحقّ فيه ورأسُ المال واحدٌ ولو على ما اقترحه ماركس، والحبُّ فيه والتّعلّق واحدٌ لكنا ملائكة".
يبدو أنْ لَا غبار -هنا- في مسؤولية المؤسسة الاجتماعية الفاسدة، بل المتفككة في الخراب الذي عاشه شاب في ربيع عمره. يستذكر المياحي، صديق الشاب المنتحر، لحظات الحرج والخوف لدى الشاب، في اللحظة التي قرر فيها التواصل مع شخصٍ اعتقد أنه يمكن أن يكون نديمًا ثقافيًّا:
"أتذكر أول مرة راسلني وهو متحرج وخائف، كان يعتقد أنني سأعارضه، تعاملت معه باحتفاء كبير، فشعر بابتهاج، أخبرته أنني أتابعه وأسمع عنه وأحيي وعيه الكبير، منحته رقم الواتس، فراسلني عليه: كنا نناقش كل شيء على فترات متقطعة، نصل لقناعات مشتركة في بعض الأمور، ثم نترك بقية الأفكار مفتوحة لنقاش قادم.
في نهاية آخر محادثة معه، بعثت له مقطعًا من كتاب فلسفي عن "معنى الحياة"، ولماذا هي جديرة بأن تُعاش، فرد عليّ: أشعر أنك الصديق الوحيد بحياتي الذي يجعل الحياة جديرة بالعيش، أريد أن ألتقيك يا صاحبي، أنا وحيد ولا أدري ماذا أفعل بحياتي؟!".
لكن يجب الاعتراف أيضًا، أن "لحظة العِناق" لا تتحمل هذه المعضلة كاملة، إذ إن سلوك الانتحار، عند الغوص فيه سيكولوجيًّا، يفوق بعذاباته، ما نفترضه من لحظات الرومانسية والشعر والفكر، كمقدمات لصناعة الفتى المتشظي، هناك الاكتئاب كمستجد يبدو طارئًا على الثقافة الشعبية، لكنه في صميم تركيبتها، وقد خاضت لأكثر من سبع سنين، حربًا، أكلت، فيما أكلته، مستقبلَ بلد.
في الثامن من فبراير/ شباط 2022، صحا طلاب كلية الإعلام بجامعة صنعاء، على جثة شاب معلقة في الفناء المشجّر لجامعتهم. وبعد وقت من التحري، اتضح أنها للشاب فيصل المخلافي، طالب الإعلام. ولا مفارقة هنا في كون سن المخلافي يقترب حد التطابق مع لؤي صدام، لكنَّ واقعةَ ما يُعتقد أنها انتحاره- تسلط الضوء على الجانب الآخر من المنظومة التخريبية، التي عاثت فسادًا في نفوس الشباب وتطلعاتهم.
لم تكن لدى المخلافي، أي تصورات قد تبدو مصادمة لروح المجتمع التقليدي، لكن حالة التصوف في شعره وتأملاته الفلسفية، بدت وكأنها ملاذ أخير، لتجنب ما وقع فيه لاحقًا من إنهاء لحياته. تتذكّر دولة الحصباني، وهي أستاذة مساعدة بكلية الإعلام جامعة صنعاء، مقولة أخرى لطالب من طلابها، أعادها إلى ذهنها انتحارُ فيصل:
"لا شيء مواتٍ، هذه الحياة لا تستحق أن نتشبث بها، أو أن نحاول إصلاحها يا أستاذة! الموت عودة للصواب". المقولات التي سجّلها فيصل في صفحته على الفيسبوك، سواء على شكل شعر، أو هجاء مرير للعيش، تعطي الانطباع ذاته، الذي يجعل من اللغة شيئًا يعدو عن كونه حالة غنائية رومانسية، إلى مؤشر جيد لوقوع الشباب المجد الطَّموح في براثن الاكتئاب وحالة الشعور باللاجدوى.
الحرب هنا، عامل فاعل في المأساة الإنسانية بكافة جوانبها، وتبرئتها هو اتهام لضحايانا الشباب، الذين كان بالإمكان استخدام ثقافتهم وتعالي ذائقتهم في الصالح العام للأمة، لا لجعل حالة الانتحار ذات بعد شاعري، أكثر مما نحتمل. لذا، وأمام جثمان معلق على شجرة، يمكننا العودة الآن لرؤية الروح المنقرضة التي سبقت الجسد، يقول فيصل المخلافي:
"لقد عشت أبحث عني رغم كل الإدراك الذي أملك أني لن أجدني، وكنت أعلم أني غير قادرٍ على حمل هذا الثقل، لكني حملته وتحررت بحمله إلى رغبات نادرة وقيود لم أكن لأشعر بها أبدًا. إن الوعي الظاهري الذي توصلت إليه كان وما يزال، كما أعرف، هادئًا وثائرًا. وما زلت أؤمن بإحساسي مهما كان اختلاف الفئات التي أعيش فيها.
عشت دائمًا أرافق البرود الذي من شأنه العمل إلى جوار الموهبة بالإخلاص، بينما ظلت هناك قصص طويلة لم أتحرر منها لأكتبها، بل ظلت منطوية وحبيسة في أعماقي كشيء مقدس يصعب تبريره للعالم، وغالبًا ما أضع التلميحات في أمكنة معينة وبشكل واضح كاستخدام المرأة أداة. واعتبر أن هذه التلميحات هي في الحقيقة مصدر الإلهام العميق الذي أصل إليه في كل نتيجة نهائية تتبخر منها الوحدة إلى العدم".
نعم، عدم، لكنه صار عدمًا مرئيًّا. فبعد إنهاء فيصل لحياته (أو هكذا نظن)، تداول الناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي حسابًا آخرَ لشاب، يعرّف نفسه على أنه "تعزي ضائع"، وتحمل مفرداته اللغة ذاتها التي قدّمت لنا مخاوف وأحزان الشاب المنتحر، إلى الدرجة التي اعتقد فيها الكثيرون، أن الحساب هو صفحة تنفيس مستعارة لفيصل نفسه.
وفي العاشر من فبراير/ شباط، كتب صاحب الحساب منشورًا طويلًا، معرفًا نفسه بمعتز العربي، ويبدو كما لو أنه مشروع لضحية انتحار قادم. يعرف الشاب نشاطه هذا، بأنه "يكتب كي لا يموت وجعًا"، يقول العربي مستنكرًا:
"لا أدري من نشر وقال إن هذا الحساب لفيصل المخلافي الذي انتحر قبل أيام، ولا أدري كيف الناس صدَّقوا هذا الكلام المنتشر وكأنه لا يوجد شخصٌ آخر يعاني ويتألم في هذا البلد البائس".
أما هذا التخلي العام الرسمي، والدفع إما بإدانة الضحايا المعذبين، أو دفع من تبقى من الشباب إلى هذا الشكل العدمي من الاقتراف، تبقى هناك مسؤولية جماعية وفردية، في التوعية بما تخلفه الحرب من دمار في البنية النفسية للمجتمع وأفراده، ومن ذلك رفع الوصمة على الذين يعانون، والوقوف إلى جانبهم، على أنهم ليسوا الوحيدين في هذا الجحيم، وأن من الطبيعي أن يصاب معظم الشباب بالاكتئاب في ظل أفقنا المسدود.
إن مغادرة حالة النكران، هي الخطوة الأولى للمعالجة، إذ إن "الاكتئاب" هو أحد أوبئة العصر، الذي يحتاج تضافر المجتمع للدفع بمن يعاني منه إلى مراكز الإرشاد النفسي، والتي يمكنها المساهمة بشكل بناء في التخفيف من هذا الصداع اللامنتهي. هنا أيضًا يجب توجيه الخطاب لمنظمات المجتمع المدني، للتوجه إلى هذا الجانب، ووضع سياسات لدعم الشباب التائه، بما يوجه سلوكه إيجابيًّا نحو العمل لا تدمير الذات، وهي مسؤولية المجتمع الدولي لتكثيف الدعم في هذا الجانب، للحد من الكلفة الباهظة للتطبيب والتشافي. كما أن إلقاء الضوء على ظاهرة الاكتئاب من قبل الشباب الذين مروا بهذه التجربة، واستطاعوا أن يحولوها إلى قصص نجاح، شيء بالغ القيمة، وبمقدوره أن يدفع بالموجة في الاتجاه الذي نأمل ونريد.