الإهداء:
إلى الصديق النبيل/ محمد صالح القاضي، عرفته وهو في قمة حيويته الذهنية والفكرية، في العام ١٩٧٦م، وما يزال على تلك الحال من الحيوية الفكرية والسياسية والعملية، وهو اليوم في أواخر الستينيات من عمره. كان من أنشط الكوادر القيادية الفاعلة والمؤثرة، سواء في العمل التنظيمي في المواقع التي كان فيها، أو التي أدارها بجدارة وكفاءة القائد السياسي المحنك.
محمد القاضي، مثقف وسياسي من مستوى رفيع، شخصية مؤثرة وفاعلة وكفاحية، مدنية دون ادعاء، يجمع في ذاته بين العمق النظري/ الفكري والقدرة السياسية على فهم الواقع وتحليله، وبين الممارسة العمَلية في أوساط المجتمع، لم أسمعه خلال تلك السنوات التي اشتركنا فيها في العمل السياسي/ الحزبي -مرحلة العمل السري- يشكو أو يتذمر، بل يعمل دون كلل، بروح تضحية عالية. تعرض للسجن وأهواله، وفُصل من عمله، وخرج من كل تلك المحن والمتاعب، أصلب وأقوى. الحوار معه متعة، يفتح أمامك مجالات خصبة ورحبة للسؤال.
محمد صالح القاضي، إنسان دمث الخلق، كبير على الصغائر، بسيط وكبير بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
إليه؛ هذه التحية التي تأخّرَت كثيرًا عن موعد استحقاقها، فمنه رجاء الاعتذار.
مع محبتي وتقديري.
كانت "مخرجات الحوار الوطني الشامل" في مضمونها العميق، هي الإجابة الفكرية والسياسية والقانونية والوطنية والدستورية لرفض كل الحروب، ودعوة للسلام السياسي، وللسلام الاجتماعي، وللسلام الوطني. نقول ذلك ونؤكّد عليه، لمن لم يتفوّهوا بكلمة سلام واحدة ضد الانقلاب والحرب، إن لم يبارك بعضهم ذلك الانقلاب والحرب، سواء بالكلام المراوغ أو بالحديث عن "السلام" الذي يعني القَبول الضمني، بل والصريح، بالانقلاب ونتائجه، أو بالصمت الذي كان يشرعن الانقلاب والحرب، وباسم" السلام"، إن لم يكن بعضهم يدافع عن ذلك باعتباره "ثورة ضد الفساد" وضدّ "العدوان الخارجي"! وكأن ليس هناك عدوانٌ داخليّ سياسيّ وعسكري، على كل المستقبل السياسي والوطني والديمقراطي لكل البلاد.
كان "مؤتمر الحوار الوطني الشامل" حالة رفض للخلط بين الوحدة والحرب، بين السلام والحرب، حالة رفض للقبول بالاستبداد باسم الحوار، أو باسم "السلام"، وحالة رفض لتحويل الجنوب الداعي الأول والأكبر للوحدة اليمنية السلمية، إلى غنيمة حرب. هذا لمن يفهم.
وفي خضم هذا العدوان على الوحدة السلمية والتعددية، وعلى "الحزب الاشتراكي اليمني"، وعلى كل الجنوب والشمال، كان الخطاب الرسمي حينها يرفع شعار "الوحدة وكفى"، "الوحدة بالحرب" و"الوحدة بالدم وبالموت"، وهو الخطاب السياسي الرسمي الذي كان يصرّ على رفض الحديث عن "القضية الجنوبية"، ويعتبرها خيانة ودعوة "انفصالية"، محاولًا إعادتها –أي "جذور القضية الجنوبية"– إلى المرحلة الاستعمارية، أو إلى قيام دولة الاستقلال الوطني 30 نوفمبر 1967م، كما كان الحال مع بعضهم. كانوا يريدون خلط الأوراق لتشويه وتمييع وتعويم المضمون السياسي والاجتماعي والاقتصادي والوطني لـ"القضية الجنوبية"، في تحويل لحظة الاستقلال الوطني المجيد، إلى لحظة إدانة للاستقلال الوطني، من خلال حديثهم عن "مظالم دولة الاستقلال"! كما كانوا يروجون، لتحويل نصر الاستقلال الوطني المجيد، ودولة الاستقلال، إلى عامل وسبب أساسي لبداية ظهور "القضية الجنوبية"؛ وكأن جذور القضية الجنوبية وبدايتها، تعود إلى لحظة إعلان الاستقلال الوطني في 30 نوفمبر 1967م.
وفي هذا السياق، ونحن في قلب "مؤتمر الحوار الوطني الشامل"، خضنا حوارًا سياسيًّا شاقًّا وصعبًا وطويلًا، وفي ظل ظروف معقّدة وقاسية، ليس لتأكيد عدالة وسياسية "القضية الجنوبية"، بل ولتأكيدنا على المناصفة السياسية بين الشمال والجنوب في كل شيء، وأنّ الجنوب ليس جزءًا من الشمال، بل جزءًا من اليمن الثقافي والحضاري والتاريخي، كما هو الشمال، ومن أن "القضية الجنوبية"، بدأت مطلبية، وحقوقية وقانونية، حتى أوصلها القمع، والمعالجات العسكري والأمنية الوحشية، إلى أن تصبح قضية سياسية ووطنية جنوبية يمنية بامتياز، حين كان بعضٌ يرفض ذلك، وبعضٌ آخر يتخوف ويتحرج من قول ذلك، بمن فيهم قيادات سياسية جنوبية.
وهذا الرأي والموقف، هو الذي تمسّكنا به وأصررنا عليه في "الحزب الاشتراكي اليمني"، رافضين خريطة تقسيم اليمن إلى ستة أقاليم، مقدّمين رؤيتنا مكتوبة، ودافعنا عن ذلك من داخل فريق "القضية الجنوبية"، ومن قلب جميع الفرق في مؤتمر الحوار الذي كان قائمًا، حيث اعتبر بعضٌ من دعاة "الوحدة بالحرب"، أنّ "رؤية الإقليمين" إنما هي أقصر الطرق نحو "الانفصال"، دون تقديم معطياتهم، وحيثياتهم لذلك القول. فقط، خطاب رفض اتهامي، مع أننا قدمنا رؤيتنا لماذا نرفض خريطة "الستة الأقاليم"، شفاهية ومكتوبة، ودافعنا عنها بالحجج السياسية والواقعية، أمام الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة، د. جمال بن عمر، وبعضنا نشر ذلك في الصحف، ولكنها كانت أفكارًا مسبقة ومبيتة، تم فرضها بـ"القرار الإداري"، من خارج وقائع المؤتمر؛ وبقينا متمسكين برؤيتنا التي أكّدت مصداقيتها وقائع الحياة. وما يجري اليوم على الأرض، هي وغيرها من الخيارات السياسية التي قدمناها، مع غيرنا من القوى السياسية والمدنية، والتي أعطت دفعة سياسية وقانونية تم تثبيت الكثير منها من قبل جميع الفرق المختلفة، ومن جميع الأطراف، في نصوص وقرارات "مؤتمر الحوار الوطني الشامل"، لصالح "القضية الجنوبية"، ولصالح كل اليمن الحداثي المدني والديمقراطي. ولا أتصور أنّ أعضاء "مؤتمر شعب الجنوب"، لا يتذكرون تلك السياقات من الحوارات والمساجلات السياسية الساخنة في قلب فريق "القضية الجنوبية"، وفي غيرها من الفرق.
لإنصاف "القضية الجنوبية" يتوجب وضعها في سياقها السياسي والوطني والتاريخي اليمني، من خلال المناصفة السياسية في كل شيء، ما يعني أنّ الجنوب كيان سياسي مستقل، وليس جزءًا من الشمال، بل جزءًا مكوِّنًا من مكونات اليمن، الثقافي والحضاري التاريخي.
كنّا نركّز على أنّ من أنتج "القضية الجنوبية" إنما هي جريمة حرب 1994م، وما تبعها من إجراءات سياسية وعسكرية وأمنية واقتصادية، هي بعينها الانفصال والتشطير في واقع الممارسة، إجراءات استباحت كل أرض جنوب البلاد، والأخطر والأبشع، هو إخراجهم من "المِلة"، بعد اتهامهم بالردّة و"الكفر"، وشرعنة الحرب ضدهم بـ"فتوى دينية" كافرة، لا صلة لها بالدين الإسلامي.
ليس المطلوب اليوم ردّ الاعتبار للجنوب فحسب، بل ومحاكمة الجناة عبر "العدالة الانتقالية"، و"حفظ الذاكرة"، لتوثيق ما كان، و"جبر الضرر"، ولإعادة بناء مؤسسات الدولة السياسية والأمنية، بعيدًا عن مرتكبي جرائم الحرب، على عكس كل ما يحصل اليوم، حيث يتم مكافأة القتلة، "طارق عفاش" -وغيره، نموذجًا- الذي صار بقدرة دولة أجنبية، قائدًا لمعسكر المخا، وعضوًا في "المجلس الرئاسي الانتقالي"، وبدرجة نائب رئيس جمهورية! عوضًا عن أن يكون وغيره، في قائمة المطلوبين للمحاسبة، وليس تكريسًا للإفلات من العقاب.
إنّ كل ذلك لا يعني سوى خلط للأوراق، وتمديد للحرب واستدامتها، وجعل الإفلات من العقاب عنوانًا فاقعًا لكل المرحلة المقبلة. مكافأة من أساء للناس، وللمجتمع، وللدولة، وليس تطبيقًا لقانون "العدالة الانتقالية"، بما يساهم ويشجّع الناس على بدء كتابة صفحة جديدة "انتقالية"، على قاعدة "نعم، نسامح، ولكن لا ننسى"، تمهيدًا لتطبيق قانون "العدالة الانتقالية"، وحتى العدالة الاجتماعية، والعدالة الجنائية؛ والأهم إصدار "قانون الأموال المنهوبة"، على الجميع بدون استثناء، والبداية في هذا الاتجاه، هي في إدانة جريمة حرب 1994م، وما تلاها من تداعيات، جرمية/ حربية.
وأقولها صراحة وبكل وضوح؛ إنه ما لم يتم بداية إدانة جريمة حرب 1994م، فإننا لن ننتقل إلى مرحلة سياسية ووطنية جديدة.
إنّ بداية البدايات هي الوعي السياسي والواقعي بالأزمة، فبداية الحل للمشكلة تكون في تقديم رؤية/ مشروع نهضوي وطني ديمقراطي، يستوعب الجميع دون إقصاء ولا تهميش، تكون أولى مهماته –كما سبق القول– في إدانة جريمة 1994م، وكل الحروب.
وكلُّ تأخير وتعويق في هذا المسار والسياق، يعني ترحيل حل "القضية الجنوبية"، بل وكل القضية الوطنية اليمنية، إلى زمن مجهول؛ فالعلاقة بين القضية الجنوبية والقضية الوطنية اليمنية، علاقة جدلية وموضوعية وتاريخية بصرف النظر عن بعض الحسابات الذاتية الانفعالية قصيرة النظر في الرؤية للواقع وللمستقبل، كما هي في عقل البعض، بعد "حذفهم للتاريخ" من حساباتهم، وتمزيقهم للجغرافية، لأنه يمكنك أن تتلاعب في قراءة وتأويل التاريخ أيديولوجيًّا وسياسيًّا كما تشاء، ولفترة مؤقتة، قصيرة "بمفهوم الزمن التاريخي"، ولكنك لا تستطيع أن تنقل "الجغرافيا"، وتبدل مواقعها من مكانها. كما لا تستطيع أن تلغي الأواصر والروابط والوشائج الاجتماعية الثقافية والسيكولوجية، والحضارية والتاريخية، بين أبناء اليمن الواحد، بجرة قلم سياسية انفعالية.
أؤكّد على هذا المعنى بصرف النظر -كذلك- عن كيفية رؤيتنا للحل السياسي، في صورة دولة اتحادية ديمقراطية، أو في صورة كيانين سياسيين، "تقرير المصير"، وفقًا للإرادة الشعبية والسياسية والدستورية الحرة للناس، بعيدًا عن أي ضغوطات وإملاءات خارجية؛ ذلك أنّ "القضية الجنوبية" في تفاصيلها السياسية الراهنة إنما ولدت وأنتجت داخل تاريخ دولة "الوحدة بالحرب" المأزومة.
إنّ أجمل ما في "مؤتمر الحوار الوطني الشامل" هو مخرجاته، التي أكّدت أولًا: على ضرورة البدء ببناء الدولة المدنية الاتحادية الديمقراطية؛ وثانيًا: تأكيد المخرجات على قضايا الحريات، والمواطنة المتساوية؛ والأهم ثالثًا: تأكيد المخرجات على الأهمية السياسية والوطنية لإنصاف "القضية الجنوبية"، ووضعها في سياقها السياسي والوطني والتاريخي اليمني، من خلال المناصفة السياسية في كل شيء، ما يعني أنّ الجنوب كيان سياسي مستقل، وليس جزءًا من الشمال، بل جزءًا مكوِّنًا من مكونات اليمن، الثقافي والحضاري التاريخي؛ أي ليس كما كانت تحاول ترويجه جماعة "الوحدة بالدم" و"الوحدة بالحرب"، الذين لم يغادروا حتى اللحظة مواقعهم السياسية والأيديولوجية العصبوية، من أنّ الجنوب "فرع" يجب أن يعود إلى "الأصل" على قاعدة "الضم والإلحاق"، وهو ما جاءت مخرجات الحوار الوطني الشامل لتنقضه، ولتبني على أنقاض تلك الرؤى والمفاهيم العصبوية البالية، دولة المواطنة والمساواة للجميع دون تهميش ولا إقصاء لأحد. الجميع سواسية في إطار دولة اتحادية واحدة، أو في نطاق دولتين، وفقًا لما تقرره الإرادة السياسية الشعبية الحرة للناس، وهو حلم اليمنيين جميعًا، في دولة مواطنة، تستوعب الجميع في الجنوب والشمال؛ دولة تلغي، ونهائيًّا، صفحة الحروب الشمالية الشمالية، والحروب الجنوبية الجنوبية، والحروب الشمالية/ الجنوبية؛ ومن يتابع تاريخ كل هذه الحروب المذكورة في تاريخنا المعاصر، سيجد بوضوح وجلاء أنّ الديمغرافية الوطنية اليمنية، "التركيبة السكانية"، حاضرة فيها جميعًا -بدرجات متفاوتة- ليس في تاريخنا المعاصر، بل ومنذ تاريخ اليمن القديم. ويمكنكم العودة لكتابات علماء تاريخ اليمن القديم، وحتى الإسلامي، من يمنيين وعرب وأجانب، وتحديدًا إلى كتابات أستاذ تاريخ اليمن القديم، البروفيسور محمد عبدالقادر بافقيه، في رسالته للدكتوراة من جامعة السوربون، عن "تاريخ توحيد اليمن القديم"، وهو أول وزير للتربية والتعليم، في أول حكومة تتشكل بعد إنجاز دولة الاستقلال الوطني في جنوب البلاد.
فلا نجعل من ردود الأفعال الاعتباطية هي من تتحكم بمواقفنا، وبمنطق رؤيتنا، وتفكيرنا؛ لأننا بذلك سنجني على الواقع وعلى التاريخ، وعلى أنفسنا، وستكون جنايتنا على الحاضر والمستقبل أعظم، وسنجد أنفسنا نعيد إنتاج دورات عنف لا معنى لها، وقاسية على كل اليمنيين، حرب بل وحروب كان يمكن تجنبها، فمن لا يتعلم من تجارب أخطائه في التاريخ، محكوم عليه بتكرارها.