عاشت اليمن غارقة في العزلة، محكومة بلعنة جغرافيتها حيث تتموضع في جنوب الجزيرة العربية. وبالغ النظام الإمامي في الشمال لتأكيد تلك العزلة. وبالنسبة للعالم، كانت مجرد قاعدة هامشية لتموضع الاستعمار في عدن. لكن ثورة سبتمبر، كانت بمثابة استعادة ذات وطنية كانت عرضة للمحو في الداخل، وأيضًا الخارج.
هذه المرة سنتناول سيرة مختلفة للأغاني الوطنية التي ارتبطت بثورة سبتمبر. ذلك الارتباط الوثيق مع واحدة من أهم المنعطفات في تاريخ اليمن الحديث، ما جعل الغناء الوطني قاعدة احتفالية توازي العرض العسكري في تكراره المناسباتي، وتتجاوزه في بقائها كعلامة تذكير مستمرة. وقبل ذلك كانت إحدى وسائل التعبئة ضد الملكيين للدفاع عن الثورة.
وأخذت سياقًا اتسع وفق دائرة الصراع التي تشكّلت محليًّا وعربيًّا. ولعلّ أهم جوانبه مشاركة السعودية في دعم الصف الملكي، والذي كان اتجاهًا يحظى بدعم بريطانيا وأمريكا والغرب. وفي المقابل، مشاركة مصر بقيادة جمال عبدالناصر لدعم الثورة. والأخيرة لم تكتفِ بإرسال جنودٍ للقتال في صف الثورة، أيضًا تزامن ذلك مع عملية تعبئة ودعم عبر مشاركة الفنانين في الغناء للثورة اليمنية، وأيضًا بإنتاج سينمائي، وإن كان ضعيفًا فنيًّا.
اتخذت الأغنية المصرية التي تحدثت عن الثورة اليمنية مسارين؛ الأول احتفالي بانتصار الثورة اليمنية، وآخر موجه للجنود المصريين الذين يقاتلون في جبال اليمن لمساندة الثورة. وبالتحديد الاحتفال بعودتهم كأبطال بعد أن ساندوا شعبًا عربيًّا شقيقًا لهم، وناصروا ثورته. وكانت بالنسبة لعبدالناصر جزءًا من معركته لدعم حركات التحرر، حسب خطابه، وأيضًا شكّلت ذراعه لتعزيز هذا الخطاب على أرض الواقع، كنجاح سياسي.
مرحلة بوجه خاص
وتعدّ أغنية فايدة "بالإرادة والعزيمة"، أشهر تلك الأغاني التي احتفلت بثورة اليمن، وتماهت مع الموقف السياسي لمصر، إذ كانت أول بلد يعترف بميلاد الجمهورية العربية اليمنية.
والأغنية على مقام العجم، تتسم بطابع حماسي، وجمل لحنية بسيطة، أضفى عليها صوت الفنانة المصرية القوي، عناصر ثورية وسمت اللحن. وتتفق مع كلماتها الممتدحة لبطولة اليمنيين ضد ما أسمته الفساد والطغيان. وأصبحت شعارًا عربيًّا يتغنّى به اليمنيون المناصرون للثوار، وتلهب حماستهم بوجود مساندة عربية لهم.
بالنسبة للملك السعودي فيصل بن عبدالعزيز، كان أحد أكثر الناس ارتياحًا لهزيمة عبدالناصر، إذ تمخض عنها خروج القوات المصرية من اليمن. حتى إن إسرائيل تواجدت في الخفاء لتدريب القوات الملكية المدعومة من السعودية، إضافة إلى ضلوع بريطاني وفرنسي
أغنية كامل لم تكن أول أغنية مصرية عن اليمن، ذات طابع سياسي، إذ سبقتها أغنية محمد قنديل "الحق سيوفه يمانية" أواخر الخمسينيات، والمتزامنة مع انضمام الإمام أحمد لاتحاد كونفدرالي مع مصر وسوريا، ووقّع ولي العهد الإمام البدر على اتفاقية الاتحاد في 8 مارس 1958. وشملت الأغنية مديحًا لأحمد والبدر.
غير أن عبدالناصر وقتها، كانت لديه حساسية من طبيعة النظام الإمامي الملكي؛ إلى جانب رغبته المضي أكثر في طريق تكوين الاتحاد الاشتراكي- تكون لاحقاً في يوليو 1962- تأسيساً على قوانين الاصلاح الزراعي التي بدأتها الحكومة بعد فترة وجيزة من ثورة يوليو بتأميم جزء من أملاك الأغنياء وتوزيعها على الفقراء. وهو شرط لم يقبله الإمام أحمد.
كان عبدالناصر يمثل جاذبية ساحقة في المنطقة، وملامحه السياسية واضحة، بدعم الحركات الثورية، بينما أخذت التداعيات تسير نحو التغيير، فالتشدد الإمامي الرافض للتغيير، قابلته حركة مباغتة في 26 سبتمبر.
ومع إعلان الثورة، اختفت أغنية قنديل تمامًا، بعد أن توارت قبل ذلك نتيجة وضوح توجه عبدالناصر. فحلت مكانها أغانٍ داعمة لثورة اليمن، استهلتها فايدة كامل، والتي شاركت في إحياء حفلات بصنعاء للجمهور اليمني، وبمشاركة شريفة فاضل وشفيق جلال. وكذلك غنّى محمد قنديل في تعز للجمهور اليمني.
والأخير شارك في الغناء لثورة اليمن، بأغنية "هب الشعب اليمني"، واتخذت منحى اتسم به الغناء الثوري بجمل بسيطة تتسم بالحماسة، مع أداء كورالي بلحن يتسم بالطابع العسكري. فيما اتخذ غناء قنديل منحى شعبيًّا، خلافًا لنشيد فايدة كامل الذي كان أكثر حداثة. إضافة إلى أنه أقل توهجًا بالمعنى الحماسي. وهذا أيضًا على صلة بطبيعة أداء قنديل الأقل انفعالية، وطبيعة صوته، مقارنة بأداء فائدة كامل المتفجر والحماسي.
كان هذا الوجه أيضًا، يتسق مع مرحلة تبنت فيها مصر دعم الثورات العربية. فغنّت للسودان وسوريا والعراق والجزائر، وكانت اليمن الوجه الأكثر حساسية، بالنسبة للنظام السعودي الذي اعتبرها مسألة حياة أو موت.
أيضًا ساهم قنديل في أغنية "يا راجع من اليمن"، الموجهة للجنود المصريين العائدين من اليمن. ومثل كل الأغاني التي تناولت هذا الموضوع، تمسّكت بعناصر الخطاب الناصري، وتحديدًا الوحدة العربية. وتمثلها كلمات الأغنية "يا رافع فوق سلاحك علم الوحدة". وبلحن يحتفل بهم كأبطال عائدين من النصر.
بينما كانت أغنية عبدالعزيز حمودة "أخويا راجع من اليمن" تعطي عودتهم شكلًا من الاحتفال الشعبي في مصر بعودة إخوانهم، وذلك بحسب السياق بعد إنجاز مهمتهم في دعم ثورة اليمن.
على أنّ أكثر الأغاني الاحتفالية بعودة الجنود المصريين من اليمن، كانت أغنية "بالسلامة" لعبدالحليم حافظ، فنان الثورة الأبرز في تلك الفترة. اتخذت الأغنية تعبيرًا فرائحيًّا، على مقام العجم. كما أنّ جملها اللحنية السهلة، أضفت العنصر الاحتفالي للتغني بالعائدين من رحلة بطولية.
الأغنية من تأليف حسين السيد، وألحان محمد عبدالوهاب. وتستهل الغناء بمطلع فرائحي "بالسلامة بالسلامة، رحتوا ورجعتوا لنا بألف سلامة". لكن أين راحوا، ومن أين رجعوا؟ فاللافت أنّ الأغنية تجنبت أي إشارة لليمن. ورغم تغنيها ببطولتهم، في مساندة الثورة، لم تخُص أو تحدد أي ثورة لتنقلها إلى الفضاء الأوسع، أي الثورة العربية.
كانت الظروف متغيرة، ويجثم شبح هزيمة حزيران 67، على المصريين. وفي الوقت نفسه لم يكن نظام عبدالناصر، عازمًا على تنكيس الراية. فكرس سنواته الأخيرة لإعادة بناء الجيش المصري، واستعادة جاهزيته القتالية لمواجهة إسرائيل واستعادة أرض سيناء.
هل حان الوقت لإعلان هزيمة الثورتين اليمنيتين؟ ففي صنعاء أصبحت ثورة سبتمبر مغيبة باحتفال ديني، وبمناسبة سياسية اختارت يومًا آخر من سبتمبر لتوقيت حضورها الداحض لثورة اليمنيين. وفي عدن تجري محاولة إزالة اليمن كهُوية سياسية بأخرى، خلافًا لأكتوبر التي أعلنته جنوبًا يمنيًّا
وبالنسبة للملك السعودي فيصل بن عبدالعزيز، كان أحد أكثر الناس ارتياحًا لهزيمة عبدالناصر، إذ تمخض عنها خروج القوات المصرية من اليمن. حتى إنّ إسرائيل تواجدت في الخفاء لتدريب القوات الملكية المدعومة من السعودية، إضافة إلى ضلوع بريطاني وفرنسي.
تبع ذلك، الانقلابُ على أول رئيس لشمال اليمن المشير عبدالله السلال. مع هذا نجح اليمنيون في الدفاع عن الثورة، واستماتوا في الدفاع عن صنعاء خلال حصار السبعين يومًا. وكذلك حقّقت ثورة أكتوبر هدفها بالتحرر من الاستعمار الإنجليزي في 30 نوفمبر 1967.
لكن ثورة سبتمبر تعرّضت لانقلاب من القوى التقليدية بتصفية قيادات برزت في الدفاع عن صنعاء، مثل عبدالرقيب عبدالوهاب، والشيخ أحمد عبد ربه العواضي. وتشكّلت ثغرة ستنبعث من خلالها قوى الماضي.
مع هذا لم تسقط تلك الأغاني التي تغنّت بثورة 26 سبتمبر، إذ عاد من واقع، إلى ذكرى ملهمة يتمسك اليمنيون بها، ويحيونها خارج الإطار الرسمي، بعد أن ظلت ذات طابع مناسباتي أكثر رسمية.
واقع من التحديات
وكما تبدو الصورة العامة مسارًا ناقمًا ضد مكتسبات ثورية، تشكّلت منها أنظمة في العالم العربي، يلوح شرق أوسط جديد بهدف إعادة رسم خرائط جديدة في المنطقة، بَدءًا بفرض واقع في اليمن يتشكّل من خلال سيطرة قوى مختلفة، أصبحت تتمتع بحكم ذاتي. لكن سبتمبر 62، والرابع عشر من أكتوبر، ثورتان بحجم اليمن الكبير. إذ كانتا استهلالة لوحدة، أصبحت عرضة للاجتثاث بمشاركة عناصر لها جذور حاولت وأد سبتمبر، والحيلولة دون انتصار أكتوبر.
هل حان الوقت لإعلان هزيمة الثورتين اليمنيتين؟ ففي صنعاء أصبحت ثورة سبتمبر مغيبة باحتفال ديني، وبمناسبة سياسية اختارت يومًا آخر من سبتمبر لتوقيت حضورها الداحض لثورة اليمنيين. وفي عدن تجري محاولة إزالة اليمن كهوية سياسية بأخرى، خلافًا لأكتوبر التي أعلنته جنوبًا يمنيًّا.
مع هذا، ما زالت سبتمبر 62، تحل بزينة أكثر في خيال اليمنيين، بعد أن أوهتها إخفاقات الحكام. وروح الأغاني التي انبثقت من ثورة 1962 ستبقى دائمًا لتبقى أحد وجوه الذاكرة غير القابلة للنسيان. بما في ذلك أغاني المصريين التي تذكرنا بمساندة ساهمت دون سقوط الجمهورية، وإن خسرت حليفها الأبرز، إذ إنّ اليمنيين كانوا أيضًا قادرين على حماية عاصمتهم من السقوط.