تحكي دينا محمد -اسم مستعار- عن معاناتها مع والدتها، التي تعمل شرطية في أحد أقسام الشرطة، وكيف أجبرتها والدتها على الانخراط في سوق العمل في سن مبكرة، وتأثير ذلك عليها كلّما تقدمت بالعمر.
تقول الفتاة العشرينية، لـ"خيوط": "أجبرتني والدتي على العمل في سن العاشرة من عمري، بدأت في بيع البطاط لمدة خمسة أعوام، ومن ثَمّ بيع المناديل الورقية في شوارع المدينة".
قررت دينا التوقف عن العمل بعد انتقالها من حياة الشغل اليومي في الشوارع إلى الجامعة في بداية التحاقها بها، لكن ذلك لم يعجب والدتها التي غضبت منها وقامت بضربها وسجنها، كما تؤكّد هذه الفتاة.
عندما اشتكت دينا من تعامل أمّها معها، نصحها بالزواج، لكي تتخلص -كما قال- من كل شيء يؤلمها، بالنظر إلى عدم قدرته على مساعدتها بسبب تواجده أغلب الأوقات والأيام خارج البيت، حيث يعمل في مدينة عدن (جنوب اليمن).
وتشير إلى أنّ والدتها أجبرتها على الزواج بشخص لا تريده، وبعدما شاهدت إصرار والدتها، قبلت بفتره الخطوبة؛ كي تتقبل فكرة الزواج بشخص غريب، لكن بعد سنة قامت بفسخ خطوبتها، ممّا عرضها لاعتداء شديد من قبل والدتها بسبب قرار الانفصال.
هكذا تمتد آثار البيئة المحيطة على كل شيء في الحياة اليومية، مهما حاول البعض التنكر وتجنب هذه التأثيرات، كالانعكاسات الناتجة بفعل الحرب والصراع في اليمن منذ العام 2015، على عسكرة المجتمع وتنامي الاستقطابات والتجنيد والعنف.
إذ تغيرت سلوكيات وتصرفات الكثير في المجتمع، مثل والدة دينا التي تغيرت طبيعتها من مشاعر الأمومة إلى شخصية قاسية انعكست تبعاتها بشكل كبير على حياة هذه الأسرة، كنموذج يجسّد صورةً حيّة لما أصبح يعاني المجتمع منه، في جميع مناطق ومحافظات اليمن.
ضحايا القسوة
حاولت دينا احتواء أمّها وتغيير معاملتها لها، والابتعاد عن أيّ شيء يوترها أو يسبّب أيّ مشاكل بينهما، بعد أن أصبحت تعاني من خوف وقلق ومشاعر سلبية لا إرادية؛ بسبب قسوة ومعاملة أمّها لها، التي تؤكّد دينا أنّها عاشت حياةً قاسية منذ نعومة أظفارها.
لم تكن والدة دينا هي الضحية الوحيدة لبيئة للتجنيد، وتأثيراتها؛ هناك الكثير منها، رجالًا ونساء، كما في حالة الشاب أحمد نزار (25 عامًا) -اسم مستعار- والذي يُعدّ أحد ضحايا التجنيد "العسكرة"، والذي يتحدث عن أنّه لم يعش حياته الطبيعية منذ أن أصبح والده يعمل ضابطًا في القوات الجوية.
في حين ساهمت بيئة التجنيد "العسكرة" من قسوة قلب والدة دينا، جعلتها كذلك تعامل كلَّ من حولها على أنّهم متهمون. فهذه البيئة وتبعات الصراع والوضع الناتج عن الحرب، جعلت من البعض، خصوصًا المنخرطين في التجنيد بالذات من الرجال والنساء، يبدلون شخصياتهم وإنسانيتهم، مع تنامي مشاعر وسلوكيات العنف والقسوة لديهم.
تشدّد أستاذة علم النفس بجامعة تعز، نادية محمد، في تصريح لـ"خيوط"، على أنّ البيئة لها دور كبير على الجانب النفسي والاجتماعي، حيث تتعرّض المرأة للعنف، سواء النفسي أو الجسدي والعاطفي من قبل البيئة العسكرية.
هذا الوضع وعسكرة المجتمع مع الحرب والصراع الدائر في البلاد، وتنامي سلوكيات العنف، ساهم في تغيير ثقافة المرأة من الجانب العاطفي إلى الجانب الآخر النقيض له، الذي يشمل العنف والقسوة والعدوان ضدّ أيّ طرف، سواء النساء مع نساء أو مع الرجال أو على الأطفال.
وحسب محمد، فإنّ هناك انعكاسات سلبية عميقة على المجتمع بسبب هذه الممارسات، والتي يكون ضحاياها الأطفال والفتيات والشباب، إضافة إلى العديد من التبعات على الجانب النفسي والاجتماعي.
ويحتاج المجتمع نتيجة لذلك، إلى إعادة تأهيل في الجانب المعرفي السلوكي، إذ تلفت محمد إلى أنّ هناك مراكزَ خاصة بالتأهيل النفسي والاجتماعي يقوم بها أخصائيّون عبر جلسات إرشاديّة تشمل جميع الفئات، رجالًا ونساء وأطفالًا.
استعادة السلوكيات الطبيعية
لم تكن والدة دينا هي الضحية الوحيدة لبيئة للتجنيد، وتأثيراتها، فهناك الكثير منها، رجالًا ونساء، كما في حالة الشاب أحمد نزار (25 عامًا) -اسم مستعار- والذي يعتبر أحد ضحايا التجنيد "العسكرة"، والذي يتحدث لـ"خيوط"، عن أنّه لم يعش حياته الطبيعية منذ أن أصبح والده يعمل ضابطًا في القوات الجوية.
يتابع أحمد بالقول: "لم ألحظ في أيّ يومٍ حنان أبي، لم يكن هناك سوى معاملته السيئة لنا ولأمي، وصراخه بكلماته: "سأقوم بقتلك، وذبحك"، وأيضًا ضربه لنا عند طلبنا أيّ شيء منه، وإجبارنا على فعل ما نكره، حتى حلمي في استمرار دراستي الجامعية، لم يسمح لي بتحقيقه".
كما أنّ تنصله عن مساعدة ابنه في دراسته الجامعة، كان حتى يدفعه ليسلك الطريق الذي سلكه في العسكرة والانخراط في التجنيد.
يضيف أحمد: "كل ذلك جعلنا لا نطيق الجلوس معه في غرفة واحدة، جميعنا نجتمع في غرفة واحدة عدا والدي، وفي حال مرض واحدٍ منّا لا نستطيع إخباره، وإن حدث أن أخبرته والدتي فلا يأتي معنا للمستشفى ولا يحضر لنا أي نوع من الأدوية، كأنّنا لا نعني له أي شيء. جميع الواجبات التي يجب أن يقوم بها والدي، والدتي من تقوم بها، هي الشخص الوحيد الذي ما زال يتحمل طبيعة والدي القاسية لأجلنا".
أستاذ علم الاجتماع في جامعة تعز، ياسر الصلوي، يؤكّد لـ"خيوط"، أنّ الإنسان ابن بيئته، فالبيئة التي ينشأ فيها، تؤثّر على طبيعته، وبيئة التجنيد هي بيئة قاسية يوجد فيها الكثير من السلوك العنيف أو العنف المنتشر، فيكتسب بذلك أكبر قدر من السلوك العنيف.
ويوضح أنّ كثيرًا من المجندين عند عودتهم إلى منازلهم، تجدهم متمثلين للسلوك العنيف، بسبب المواقف التي مرت عليهم؛ لذا تتطلب الحاجة والضرورة عرضهم على خدمات وعلاج نفسي يمكّنهم من استعادة شخصياتهم الطبيعية.
*تحرير خيوط