شهدت الحالة الثقافية في اليمن حالة تراجع حادة، تحديدًا منذ بداية الحرب قبل نحو سبع سنوات، التي عملت على إيقاف كافة الأنشطة الثقافية والمعرفية المتنوعة بصورة شاملة في كثير من مناطق البلاد، بما فيها العاصمة صنعاء الخاضعة لسيطرة جماعة أنصار الله (الحوثيين). ويتعرض المشهد الثقافي لعملية تضييق واسعة، من قِبل كافة أطراف الصراع في البلاد بلا استثناء. إضافة إلى عملية تشريد المئات من المثقفين اليمنيين -كُتّابًا، وأُدباء، وشعراء، وغيرهم- يتقاسمون حياة التشرد ورحلة اللجوء الشاق في بعض عواصم بلدان العالم، بعيدًا عن بلدهم "الأُمّ" الذي يعاني وسكانه مرارات صعوبة العيش وقسوة الأيام الجائرة.
يتحدث مثقف خمسيني -فضّل عدم ذكر اسمه- لـ"خيوط"، بقوله: "ليسوا جميعًا، لكن الأغلبية منهم أجبرتهم ظروف البلاد المعقدة على البحث عن أوطان يلجؤُون إليها، وما يزال آخرون باقين في البلاد". مضيفًا أنه لم يعد هناك دُورٌ للنشر، وأغلقت غالبية المكتبات الثقافية أبوابها منذ بدأت الحرب، إضافة لذلك توقفت أنشطة "معرض الكتاب" السنوي الذي كان يقام سابقًا في العاصمة صنعاء، حيث كانت تتوافد إليه الكُتب الثقافية والمعرفية من مختلف دُور النشر المحلية والعربية.
مقابل ذاك التوقف والغياب ظلت "مكتبة الرصيف" ملتزمة في توفير بعض الكتب الثقافية "المُستعملة" لباقي المثقفين الذين فضّلوا البقاء في بلدهم، رغم ظروف حياتهم البائسة.
"فارس علوان" يتردد من فترة الى أخرى على رصيف الكتب المستخدمة، للبحث عن العناوين الثقافية التي تروق له. يقول علوان لـ"خيوط": "أزور هذا المكان أحيانًا، وأبحث عن بعض الكُتب المعرفية والثقافية لكنها مستخدمة، وغالبًا لا أحصل على العنوان الذي أريده".
يقول بائع كتب إن معظم الكُتب المستخدمة التي اشتراها من الرصيف، كانت ملك مثقفين معروفين كانت ظروف الحياة الصعبة قد أجبرتهم على بيعها لمواجهة أزماتهم المادية التي كان يتعرض لها المثقفون مرارًا من سابق وحتى اليوم
وترتصّ مئات النسخ من مختلف الكُتب المستخدمة والقديمة فوق بعضها بصورة بدائية على أجزاء منفصلة من رصيف أحد الشوارع الحيوية بصنعاء، كعلامة تسجيل حضور فقط. دون بروز عناوين ثقافية فيها صدرت حديثًا، كمحفز أساسي لجلب ما تبقى من قُراء ومثقفين.
علي الحبيشي" أحد بائعي الكُتب المستخدمة على الرصيف في منطقة التحرير وسط صنعاء، يقول لـ"خيوط": "لي حوالي 20 سنة وأنا أبيع كتبًا مستخدمة فقد كان هناك شغل من قبل، أما في هذه الفترة فالعمل تراجع كثيرًا، وما عدنا نلاقي من أين نوفر كتبًا مستخدمة، قد جلْسَتنا هنا فَرْغَة!".
من أين تأتي الكُتب إلى الرصيف؟
تبدو حياة المثقف اليمني أشبه بعملية صراع مريرة مع الظروف الصعبة وألم المعاناة المستمرة، وقريبة من الفقر ورحلة الشتات. الأمر الذي أجبر بعضهم على بيع "مكتباتهم المنزلية" الزاخرة بعشرات العناوين المعرفية والثقافية، لمواجهة مشقة العيش وإعالة أسرهم. وهو ما شكّل مصدرًا أساسيًّا لبائعي الكتب المستعملة على الرصيف، تزودت بها بسطات الباعة من تلك المكتبات المنزلية.
وتحت ضغط الحاجة ذهب بعض المثقفين إلى الرصيف لبيع ما اكتنزوا من عناوين ثقافية، للتعامل مع بؤس حاجتهم المُزمنة ولو لبعض الوقت بثمن ذاك الإرث الذي اضطرتهم ظروف العيش لبيعه بثمنٍ بخس لبائع الكتب المستخدمة في الرصيف.
يضيف الحبيشي لـ"خيوط"، أن غالبية الكُتب المستخدمة التي يبيعها، اشتراها من بعض المواطنين والذين يبدو أنهم من الفئة المثقفة، دفعتهم ظروف قاسية لبيع ما يمتلكونه من كتب، متابعًا حديثة بالقول: "طبعًا أشتريها بسعر المستخدم لأني أشتي أترزق من فوقها".
ويحتفظ الحبيشي في مخزنه القريب من رصيف البيع ببعض الكتب النادرة، تحديدًا ذات العناوين المهمة والأسعار المرتفعة والتي تحظى بإقبال جيد للحصول عليها من بعض القُراء رغم قدمها واستخدامها.
محمد عبدالله، 40 سنة وهو قارئ شغوف بالكتب، يتردد باستمرار على رصيف الكُتب المُستخدمة، يقول لـ"خيوط"، ليست مشكلة أن أشتري كتابًا مستخدمًا وقديمًا لأقرأه؛ لأن الفائدة لم تنتهِ بعد منه، أهم شيء أن ألاقيه هنا وأشتريه، "لأننا في صنعاء لم نعد نحصل على أي إصدار ثقافي جديد بسبب الظروف التي تمر بها البلاد" وفق حديثة.
يتابع: "لاحظت توقيعات الإهداء في كثير من الكتب التي أشتريها من هذا الرصيف، وهم أشخاص معروفون ومثقفون محترمون؛ لاحول ولا قوة إلا بالله".
زمن المتغيرات الثقافية
لا تعتبر عملية بيع الكتب المستخدمة على الرصيف حديثة عهد، لكنها حاليًّا تعد آخر المعارض المعرفية والثقافية التي ما تزال متوافرة، وترافقت مع حالة النشاط الثقافي بصنعاء لنحو عقدين من الزمن، وفقًا لما قاله البائع "مروان حمود" لـ"خيوط": "لنا أكثر من 20 سنة، نبيع بهذا الرصيف كُتبًا مستخدمة، وكان هناك رواج لشرائها، لكن الآن لم يعد هناك كُتب ولا قُراء، وليس هناك سوى عناوين كتب دينية، لكن لا أحد يشتريها".
وشكّلت حالة غياب المثقفين وعدم إقامة معارض سنوية للكتاب، إضافةً إلى عملية الإغلاق الواسعة لغالبية المكتبات الثقافية بصنعاء وتغيير أنشطتها بصورة شاملة، خلال السنوات الأخيرة، وضعًا زمنيًّا تغيرت فيه كافة الشواهد الثقافية في مختلف محافظات البلاد.