يفتتح الأستاذ منصور هائل شهاداته السياسية، لأحداث 13 يناير 1986، في عدن، باقتباس مقولتين مكثفتي المضمون، أفرد لهما أول صفحة في كتابه المهم، "أطياف عدن.. هذيان الحطب"، الذي أصدره في 2019، عن دار ميارة للنشر والتوزيع بتونس. الاقتباس الأول كان مقولة للدكتور أبوبكر السقاف يوجز فيها شروط اندماج الغريب في مدينة عدن: "عدن لا تمنح حبها للغريب عنها بالروح أكان بدوياً جهولاً، أو قبلياً غازياً، أو قرصاناً إمبراطورياً". وهي وصفة تفسر لنا مفارقة عدن لروحها المحببة عندما لا نعد نشعر بمزاجها المديني المعروف بنكهته العدنية الشهيرة. المقولة الثانية كانت لابن خلدون في مقدمته، إذ يؤكد: "إن الأوطان الكثيرة القبائل والعصائب قلَّ أن تستحكم فيها دولة، والسبب في ذلك اختلاف الآراء والأهواء، وإن وراء كل رأي فيها هوى وعصبية تمانع دونها، فيكثر الانتفاض على الدولة، والخروج عليها في كل وقت...".
وقد جاءت سرديته هذه، بلغة أدبية رفيعة اشتهر بها منصور هائل؛ الكاتب الكبير والمثقف الموسوعي الذي لا تعوزه المواقف المحترمة. ومن مطالعتنا لعناوين الفصول، وقراءتنا في الصفحات الأولى من الكتاب، سندرك أننا بصدد مطالعة نصٍ ينتمي إلى جنس الأدب السياسي، يغوص بواسطته الكاتب في كثافة الماضي بأحداثه وخيباته ومفارقاته؛ ينفض الرماد عن ملفاته التي لا تزال ملتهبة حتى الآن، ويعاود طرح الأسئلة بخصوصها ومداولة النقاش للإجابة عليها. وهو إذ يفعل ذلك، فليس لتدوين الماضي كمؤرخ، وإنما لتوثيق موقفه كمثقف شهد تلك الأحداث وارتبط بها على نحو أو آخر، وهذا واضح من تذييله لعنوان كتابه بـ "شهادات سياسية".
يحسب للمثقف اتخاذه مواقف واضحة، حتى لو كانت ناتجةً عن مراجعة ذاتية (شخصية) أو موضوعية، قد تبدو متأخرة في نظر البعض، لذلك يبدي منصور هائل في الكتاب، استياءه بدون مواربة من الأصدقاء الذين عبروا له عن حرصهم على عدم إثارة الفتنة بقولهم: "موش وقته" فيتهكم على حرصهم هذا بالقول: "وكأنها نائمة من صدق". ستصلنا، في غير مكان من الكتاب، رغبته الملحة في اتخاذ موقف شخصي، وإنساني وسياسي وقيمي، رغم مرور كل هذه السنوات.
سيُموضع منصور هائل "زلزال يناير 86" في المركز من سرديته متناولاً، من منظوره السياسي والانساني، كارثيته التاريخية، وما سبقه من إرهاصات، وما تلاه من تداعيات تُخّيم، اليوم، بظلالها الكئيبة على مآلات الأوضاع السياسية والاجتماعية في اليمن اليوم. تنعكس في فصول الكتاب معاناة منصور هائل الشخصية، كإنسان وكمثقف وكحزبي شاب كان مهجوساً بتغيير العالم مع ثلة من الأصدقاء فتورطوا بمنتهى المبدئية في أتون صراع أدى إلى حرب يناير 86، وسيخبرنا منصور هائل، بعد ذلك، بأنه لم تكن لأي منهم في تلك الحرب، لا ناقة ولا جمل.
ابتكر منصور هائل لمقدمته عنواناً رشيقاً فكتب في رأس الصفحة: "أما قبل..." وذيلها بتاريخ 30 نوفمبر 2018، لكنه صبها، تحت العنوان الرشيق، في جملة طويلة واحدة تكدست بـ 13 سطر محتلةً صفحة كاملة (نحو 180 كلمة وتسعة فواصل ونقطة واحدة في نهاية آخر سطر) وهو ما جعلها – أي المقدمة - مفتوحة على عدد من محاولات القراءة للوصول إلى أصحها حملاً لمعنى مفهوم. نفس الجملة ستكون مفهومة في سياقها، عندما نصادفها كفقرة من فقرات الفصل الثالث ونكتشف بأنه اقتطعها بالكامل ليضعها كمفتتح للكتاب، رغم أننا لن نجد فيها ما يستحق!
يبتدئ بالقول: " أزعم أنني تجاوزت سن النبوة والزعامة ولست في حاجة إلى تدليك أو نفاق وتملق ذوي الشأن والبأس والسلطان فقد بلغت سن الشتات بجدارة << ولا رئيس لي سوى رأسي>>.." سينبهنا، في الهامش أسفل الصفحة، إلى أنه استوحى التعبير بين المزدوجين من الشاعر التونسي سليم دولة. لكن قد لا تروقنا، لفظة تدليك، التي أوردها للدلالة على التذلل والنفاق لذوي الشأن، والابتذال في التقرب إليهم. لا تبدو اللفظة جديرة بالدخول في معجم مفردات الأدب السياسي! لكن ورودها في ثاني أسطر المقدمة، بغض النظر عن موفّقية حدوث ذلك، سينبئنا، وهذا سيتضح مع استمرار القراءة في صفحات الكتاب، بأننا نُواعد لغة كتابة تخاتل بالتهكم ريثما تسنح الفرصة أمام الكاتب ليسخر بشكل لاذع. يعتمد ذلك الأسلوب الوضعي (الطبيعي) على استخدام مفردات ولوازم مما أصبح متداولاً من الفصحى اليومية في برامج التلفزة والإذاعة والتقارير الصحفية. هذا مما سيساعد في عدم السقوط بفخ الغنائية خصوصاً ومعظم فصول الكتاب الـ 13 تتناول بِنَفَس إنساني حزين، أحداثاً مأساوية ذهب ضحيتها أعز الأصدقاء والرفاق.
سيتكرر، قليلاً، اللجوء إلى تلك الانعطافات والقفلات المفاجئة، لكن معظمها سيظل مقبولاً وظريفاً وحتى محبباً، كقوله في نفس الاقتباس السابق: " بلغت سن الشتات بجدارة" والقليل جداً، منها، سيكون ثقيلاً على استرسال القارئ أو مستهجناً على غرار لفظة "تدليك".
تمضي المقدمة ذات الجملة الواحدة، بعد ذلك، بثبات كاتب قد خذلته الدنيا واغتالت آماله فلم تبقِ، له، ما يخشاه أو يجعله يصمت. سيقولها على بلاطة، ولا يمنعه من قول ذلك شيء: "إن السياسة في اليمن، كانت وما زالت عبارة عن ممارسات فتوحاتية وغنائمية وانتحارية شخصية وجماعية". ويردف بعد ذلك، بعمومية شديدة، بأنها – أي السياسة – تمخضت عن الفشل في بناء مجتمع متآصر ومتضامن من دون إقصاء لأحد ويكون فيه الأمل متاحاً للجميع. كما يرى، أيضاً، بأن الساسة، أو بالأحرى جلهم، قد استثمروا في الرياح، لكننا، نحن، من حصدتنا العاصفة. سيلتبس علينا بعد ذلك تحديد المقصودين بخطابه في وسط الجملة، ما إن كنا نحن أو الساسة، إذ سيرعد بمفردات صاخبة ومتلاحقة ويلذع الساسة من حيث يدري، والمواطنين من حيث لا يدري، باستخدام مفردة "فياجرا" مرتين في سياق ذكره لعمليتي تنشيط مختلفتين. واحدة للذواكر (جمع ذاكرة) إذ يقول ما مفاده: "بأن ذلك (ولا بد أنه يقصد الاستثمار في الريح) قد كان نتيجة الارتهان للجهلة والقتلة وزعماء النكد والغصة (!) وشيوخ السياسة وديناصوراتها الذين لم يأبهوا لحاجتهم إلى "تنشيط ذواكرهم" للاعتبار من الماضي لإسعاف ما تبقى من خريف أعمارهم".
عملية التنشيط الثانية سترد بعد ذلك في سياق تهكمي يلوم فيه الساسة على: "شبقهم السلطوي وشهوة التسلط والفجور التي كانوا عليها في زمنهم الذي عاشوه نكداً ومحناً وجشعاً واستكلاباً واستذئاباً، أجبروا الناس فيه على طهي الحصى والإقامة في عراء التصحر الإنساني وتحت خط الفقر السياسي والثقافي والمعرفي وعلى خط الإرهاب والرهاب والذهان والهذيان وفي خارطة ملتهبة بجغرافيا الأحقاد والضغائن والثأر". على رهافة الشعور ببؤسنا الإنساني الذي تسربه عبارات: كطهي الحصى، وصحراء التصحر الإنساني، وما تلاها من مفردات إلى آخر الفقرة، لكن لا ضير من تدوين تحفظ بسيط على انفعال منصور هائل المنعكس في تلاحق خمس مفردات متعاطفة بين نكداً واستذئاباً. تنتهي المقدمة المكثفة، شديدة العمومية، بذينك التنشيطين؛ ولا نجد للـ"فياجرا" الأولى تأويلاً يجعلها تستقيم وأي معنى، فيما بدا التهكم بالثانية، كالحصوة الصغيرة، قد تعكر، لكنها لن تعيق منطوق الجملة الذي يحمل الدلالة ويجري بها كالماء. سنكتفي، عند هذا الفصل، من ترصد وتناول حصوات السرد، فهي لن تكاد تذكر في باقي الفصول.
في ظلال من الحزن الشخصي والأسى الإنساني، سنظل نشعر في فصول الكتاب الستة الأولى، بشيء بالغ من تأنيب الضمير، يستحث منصور هائل على سرد الأحداث والتدفق دون توقف
في الفصل الأول، "انتحار جماعي"، يتخذ منصور هائل من "13 يناير" علامة سياسية ثابتة سيحملها مدلولات يختم بها فصله بعد التمهيد لذلك بتأكيده على أن ذلك اليوم، سيظل فارقاً في تاريخ التجربة التي كانت تطمح إلى استكمال مرحلة التحول إلى الاشتراكية واختراع وطن. لقد انفجر الموقف وتغلبت لغة الحسم العسكري على كل محاولات احتواء التنازع في أوساط القيادة التاريخية والقواعد. تحول الصراع على فتات السلطة البائس إلى تقاتل شرس أسفر عن آلاف القتلى والمشردين والمعوقين والمعتقلين. يشير بخجل إلى أنها أهدرت الأحلام والآمال في بقاء المواطنين والمجتمع ضمن رعايا العصر والتاريخ. لكن اللافت؛ استنساخه الكلام الإيدلوجي بادعاءات امتلاك الحق المطلق في حكمه على العلاقة المتوترة التي كانت بين جمهورية اليمن الديمقراطية وجوارها غير الراضي عنها، اليمن الشمالي ودول الخليج وفي مقدمتها السعودية. يقول عن تبعات أحداث يناير بأنها أسلمت رقابهم ومصائرهم للمتربصين بهم والمتكالبين عليهم في صنعاء وعربان الجزيرة والخليج. كلامه صحيح، لكنه يفتقد الموضوعية ويعكس نظرة مثالية للصراع قائمة على الخير المطلق والشر المطلق وهو مالم يكن صحيحا. فالتربص كان، سياسياً، ومتبادلاً، والاستفزاز، إن شئنا الدقة والموضوعية، كان في معظمه يصدر من الدولة الأكثر تقدمية في المنطقة وليس العكس.
سنطلع معه على الكثير من الأهوال والفظائع التي يقول بأنها تسببت له في هرم مبكر وهو الذي كان، وقتها، في العشرينيات من ربيع عمره المهدور في نزاعات الساسة على السلطة والنفوذ والثروة. لا يرفع منصور هائل في كتابه إصبعاً للإشارة بوضوح إلى أخطاء "الطغمة"، كما أنه لن يخبرنا بأسباب موقفه، آنذاك، المنحاز إليها. لكنه كذلك، وهذا مما يحسب له، لا يتخذ من سرديته هذه فرصة للنيل من الطرف الآخر- "الزمرة". أما مدلولات "13 يناير" التي يخلص إليها، فهي في كون تلك الأحداث قد مثلت عملية انتحار جماعي وشكلت علامة فارقة على الإخفاق في إدارة الخلاف والاختلاف، وعلى الخفة والانزلاق إلى تصفية الخصوم والقتل (هنا يغمز ربما دون وعي ولكن بوضوح، من قناة علي ناصر محمد)، ويؤكد بأن التصفية على ذلك النحو هو تصفية شرط الحياة والوجود الإنساني القائم على الاختلاف أصلاً.
في ظلال من الحزن الشخصي والأسى الإنساني، سنظل نشعر في فصول الكتاب الستة الأولى، بشيء بالغ من تأنيب الضمير، يستحث منصور هائل على سرد الأحداث والتدفق دون توقف. فمأساة فاروق علي أحمد ستغلف، ومآسي الآخرين، ذلك الفضاء المحيط بالفصول الثمانية اللاحقة، ابتداءً من الفصل الثاني "المتهم رقم ((1))"، ملقيةً بظلالها الداكنة على مأساة منصور هائل نفسه، ومستفزة قلمه على الكتابة.
من أهم ما يمكن ملاحظته، ويحسب لمنصور هائل، هو تنبهه للمآلات التي تعيشها عدن واليمن الآن بسبب يناير 86، والتي لم يكن ممكناً التنبؤ بها في حينها. نجد ذلك على نحو ما في مفتتح الفصل حيث يقول: "كانت وليمة القتلة قد استحضرت المحاربين من قبائل الطوق (هذا المصطلح بالذات جديد كل الجدة على ذاك العصر) وكافة أصحاب السوابق من المشاركين في جرائم واغتيالات سابقة (لم يسمها للأسف)، وتصفيات، ولحس (وهو مصطلح من مصطلحات تلك الفترة)، والزعران وفتوات الحواري بقصد تأهيلنا لمستقبل أكثر ميليشياوية وفوضوية ودموية، وبالكثير من جرعات التوحش".
سيفرد منصور هائل لفاروق علي أحمد، صفحات كثيرة لسرد قصة المثقف الذي لأجله جاء حسين عبد الرزاق، رئيس تحرير صحيفة الأهالي التابعة لحزب التجمع اليساري. حاول زيارته في مناسبتين، في الأولى لم ينجح سنة 86، بسب الذهنية المتوترة التي كان عليها رجال السلطة الجدد، وأفلح في المرة الثانية رفقة زوجته فريدة النقاش سنة 87، حيث التقيا بفاروق في سجن الفتح الرهيب، وكان مرافقهما الرسمي منصور. وقد كان الثنائي (حسين والنقاش) يكسران بزيارتهما طوق العزلة المفروضة على الطغمة بعد زلزال يناير العاتي. يتحدث (منصور) بإسهاب عن شهامة وثقافة وشخصية البطل المثقف (فاروق) الذي يواجه قراراً مسبقاً بالإعدام لكنه يتخذ من محاكمته فرصة للتهكم على المحكمة الصورية ورئيسها مصطفى عبد الخالق. وفاروق علي أحمد، هو بطل سردية تأنيب الضمير الرئيسي، ومعه أحمد سالم الحنكي، اللذين كانا محسوبين على الزمرة، مع ثلة من المثقفين كرئيس ونائب رئيس صحيفة أكتوبر ورئيس تحرير صحيفة الثوري ومدير إذاعة عدن وجميعهم صفّتهم "الطغمة" بطرق مختلفة. وإذ ننوه إلى أننا نتداول في قراءتنا مصطلحي الزمرة والطغمة، عطفاً على استخدام منصور هائل لهما، فإننا نعاود استكمال الفكرة التي سيوصلها إلينا كاملة عندما يخبرنا، جازماً، بأن المنتصرين (الطغمة) قد قاموا في اليوم الخامس من الأحداث، بتصفية مؤسس الحزب ومنظره الأول، عبد الفتاح إسماعيل، على يد واحد من المحسوبين على فريقه. وسيضع بين أيدينا إفادات مختلفة لمعاصري تلك الحقبة، من ساسة ومناضلين محليين وعرب، ويفتح أمامنا طرقاً ويدلنا على مراجع تمكننا من تتبع سيرورة الأحداث. يشعرنا، منصور هائل، بأنه يسجل بسرديته هذه موقفاً، وبأنها ليست لتبرئة نفسه أو إدانة الآخرين.
يبدو منصور فزعاً من تكرار الاحتراب. يخشاه فيستدعي القصيدة بحافز الوقائع التي يرى بأنها تسيل في مجرى التكرار السقيم لتجربة فاشلة وفاجعة، ونظنه يقصد تجربة الحسم العسكري وإقصاء الطرف الخاسر
سيتساءل، أيضاً، كيف نجا ولماذا؟ والإجابة قد تبدو بسيطة: لأنه كان مع الطرف المنتصر. لكن الأمر لم يكن كذلك مع تغير السيطرة بين طرفي الحرب. فيعترف في موضع آخر من الكتاب، بأن صديقه، أحمد سالم الحنكي، المحسوب على علي ناصر، قام بتخليصه من قبضة مسلحي الزمرة في الأيام الثلاثة الأولى من الحرب التي كانوا فيها متفوقين قبل أن تنهار قواتهم وتتقهقر مع انتشار قوات المدرعات وتدفق مسلحي الطغمة من طريق لحج إلى عدن.
في الفصل الثالث، "رأسي رئيس"، وفي الفقرتين الأولى والثانية منه، سيكمل إخبارنا بملابسات الموافقة على زيارة فاروق بعد مفاوضات شاقة تحمل فيها الثنائي المصري الكثير من العناء على أمل فتح كوة نجاة للمثقف الشاب المحكوم سلفاً بالإعدام بِعُرف سياسي قبل محاكمته التي ستكون صورية. مفاوضات للموافقة على الزيارة (وليس التماس العفو) ناقشا فيها (حسين والنقاش) العديد من المسؤولين ابتداءً بالأمين العام علي البيض، مروراً بياسين وجارالله، وانتهاءً بوزير أمن الدولة، سعيد صالح (الذي تدور حوله شبهة التورط في تصفية عبد الفتاح – كما سنعرف لاحقاً). وقد عكست كل تلك النقاشات مستوى الريبة والشك الذي وصل إليه قادة الدولة تجاه بعضهم وتجاه الآخرين. ستواتي منصور هائل، مع تذكر الزيارة التي تمت في سجن الفتح، عددٌ من المفارقات لفتح النار متهكماً على الاشتراكية التي ذهبت لتقيم جنتها فوق جحيم الفتح الذميم! سيتهكم، أيضاً، على مُسمى الفتح، الذي ينطوي، إضافة إلى خلفيته الإسلاموية، على أسطرة حقب غابرة، ويعكس شيئاً من حنينٍ ماضوي يتناقض كلية والإيدلوجيا والأطروحات النظرية التقدمية!
سيورد دوافع كتابته عن أحداث يناير على الرغم من الهواجس التي جابهه بها البعض، وخوفهم من أن يثير بشهاداته الفتنة التي يسخر منها بقوله: وكأنها نائمة "من صدق".
هنا بإمكاننا التعليق على هامش كلام منصور هائل، لنقول بأن فتنة يناير كان لها مستويين، أحدهما مناطقي، والثاني حزبي. فعلى مستوى الحزب الاشتراكي اليمني، سنبصم لمنصور هائل وأصدقائه القدامى بأنها نائمة. هي ليست فقط نائمة، بل ميتة و"شبعت موت". ذلك أن كلا الطرفين الزمرة والطغمة من الناحية العملية قد تركا، الحزب، منذ حرب 94. ما الداعي لبقائهم في حزب لم يعد في السلطة. تركوه لتعز وإب والحديدة وباقي محافظات الشمال، وتفرغوا لتصفية حساباتهم المناطقية والعصبوية في جولات صراع لا يمكنها التوقف إلا بمشروع وطني كبير.
انشق جنوبيون في 2018، [والتعقيب لايزال لكاتب هذه المقدمة] عن الحزب الاشتراكي بمسمى الحزب الاشتراكي الجنوبي، ولا يبدو قادة الحزب مدركين مغبة أن يصبح حزبهم شمالياً أيضا، وإن أدركوا ذلك فلا يبدو أنهم يحسنون مراضاة الجنوبيين بطريقة لا تجعل حزبهم يبدو متواطئاً ونزعات الانفصال المتطرفة الصادرة من المعقل التاريخي للحزب. لا بأس مع هذه الإشارات المباشرة من إعادة التذكير بتهكم منصور هائل وكأن الفتنة "نائمة من صدق".
يرد منصور هائل على أصحاب مقولة الفتنة نائمة بما مفاده: "في هذا السياق سأرد على هؤلاء بأن المسألة شخصية جداً أولاً، وإنسانية وحقوقية وأخلاقية وقيمية ثانياً". يقول بسأم: "لقد تعبنا طويلاً وأفضت بنا خبرة الألم والندم والدم إلى القرف من محترفي الأكاذيب وصانعي الخرافات ونافخي الفقاقيع، وآن – إن لم يكن تأخر – لأن نتلقف المشترك بيننا ونجعله يتدفق بضوء الألفة الإنسانية فما أحوجنا إلى ذلك لأن انعدام السلام في بلادنا أفضى بنا إلى الفناء قتلاً وتيهاً وشتاتاً يتخطى بمسافات قصوى السردية الكبرى والمؤسطرة للشتات اليهودي". ستعاوده صورة فاروق بعد هذه الفقرة المؤثرة. ستترجرج في ذهنه، كما يقول، فيما كان صديقه منكباً على الطاولة المعدنية الصدئة يكتب رسالته المنطوية على عدة رسائل لرفاقه المنتصرين والمنكسرين، ولرفاقه في الأحزاب الصديقة والشقيقة وحركات التحرر، ويقترح تجريم الاحتكام إلى السلاح وبناء عقد جديد، مشيراً إلى نتائج وعواقب ما حدث وإلى احتمالات انهيار وتبدد "التجربة" والدولة والشعب. يخبرنا منصور بأمر تلك الرسائل ولا يطلعنا، وشقيقته فاطمة، على مصيرها وردود الفعل عليها.
لا ينسى أخذنا في لمحة موجزة عن صراعات الأشقاء والرفاق في اليمن الجنوبي منذ حقبة الاستعمار مروراً بالإطاحة بقحطان وحبسه وتصفية سالمين ثم الإطاحة بفتاح الذي عاد وقضى نحبه في تصفية غامضة وانتهاء بهزيمة على ناصر وفراره شمالاً. وهو لا يني يؤكد بأنه سيكتب عن محنة فاروق ومأساته التي يرى بأنها كانت مأساة بلد وجيل بأكمله، إن لم تكن مأساة أجيال سابقة ولاحقة. يقول: "سأكتب لأنتصر على ذاتي، وقد أصاب من قال إن الانتصار على الذات هو أول الانتصارات وأعظمها. سأكتب لفاروق وعن أحداث يناير التي أحرقت الحزب والإنجازات والشعب والدولة..." مؤكداً كلما سنحت له المناسبة، على أن الصراع كان على النفوذ والسلطة وقد كان عارياً من كل الأغطية، فلا علاقة له لا باليسار الانتهازي ولا باليمين الرجعي، وكلهم كانوا "اشتراكيين جداً" في الإخفاق وفتح وتوسيع أبواب التنافس الدموي أمام الأجيال التالية على كل شيء وعلى اللاشيء. مرة أخرى سيقول: "سأكتب عن يناير حتى لا تتكرر التجربة".
سيبلغ تأجج مشاعر منصور هائل أوجه مع قراءة الفصل الرابع، "أسرار الفتح". يبتدئ، أولاً، بتضمين قصيدة للشاعر العراقي سعدي يوسف الذي لطالما أحب عدن:
"كنت أرنو إلى جبل كان يسمى حديداً
ولكنه اليوم أحمر
قد قال رامبو أنا الآن أسكن في الفوهة
ليت رامبو رأى ما رأيت
الجحيم الذي كان في عهده خامداً، لم يعد خامداً.."
يبدو منصور فزعاً من تكرار الاحتراب. يخشاه فيستدعي القصيدة بحافز الوقائع التي يرى بأنها تسيل في مجرى التكرار السقيم لتجربة فاشلة وفاجعة، ونظنه يقصد تجربة الحسم العسكري وإقصاء الطرف الخاسر. يعيد تأكيد ما عرفناه من هيجل حول تكرار التاريخ، فيصوغ تعليق ماركس بلغته المشحونة، الآن، في هذا الفصل تحديداً، بهواجسه العاطفية فيقول: "إن تكرار تجربة فاشلة يحول مجمل الحدث إلى مسخرة مكلفة ثمنها ملايين الضحايا والمشردين، وخراب ديار وأوطان ونكوص إلى الظلمات".
كذلك سيُظهر هاجساً تشاؤمياً من يناير الشهر. سيتذكر بحزن وفاة والده في 6 يناير 2015، ولحاق أمه به، ثم استشهاد شقيقته الكبرى بنيران ما أسماه الميليشيا "الحوثعفاشية"، في 9 يناير 2017. يترآى له يناير شهراً لتكرار يتمه الأول الذي أصيب به في 13 يناير 1986 - مرة واحدة وللأبد.
ستتكشف أكثر، مشاعره المتأججة بالاقتباس الذي يورده من رواية القوقعة للسوري مصطفى خليفة الذي يقول: "أؤمن بقول إن الإنسان لا يموت دفعة واحدة، كلما مات له قريب أو صديق أو أحد معارفه فإن الجزء الذي يحتله هذا الصديق أو القريب يموت في الإنسان..." ثم ينتهي بطل الرواية مخاطباً البطلة لينا بالقول: "وأنا يا لينا أحمل مقبرة كبيرة في داخلي تفتح أبوابها ليلاً.. ينظر إليَّ نزلاؤها ويحادثونني ويعاتبونني". وعند هذا الحد، تحديداً، سيفتح منصور هائل أبواب مقبرته، يمر فيها مسترضياً رفاقه وأصدقائه، من فاروق إلى الحنكي إلى بلجون إلى قائمة طويلة من شواهد القبور في صدره المكتظ. وأخيراً؛ سينهى فصله الأكثر شجناً، بالتهكم اللاذع على القيادة وعلى المحكمة، التي كانت بنظرها تهمة فاروق الخطيرة هي التنظير والكتابة. دون أن ينسى جعلنا نستعذب روح فاروق المتهكمة وقدرته السجالية العالية بتضمينه الحوار الذي دار بينه والقاضي: "سأله القاضي بسؤال مزدوج: "كتبت الورق؟ ليش كتبت؟" ابتسم ساخراً: "لأنو خطي مليح!". يتحسر على القيادة ومخبريها الذين اهتموا بمعرفة ما الذي قاله فاروق في زيارة حسين وفريدة له. فساط القيادة بشكل لاسع: "القيادة لم تكترث بماذا كتب، بقدر ما كانت مشغولة بمعرفة ماذا قال! قيادة ما قبل الكتابة".
في باقي فصول الكتاب الأربعة، تصاحبنا مجدداً، لكن بوضوح أكبر ونبرة صوت أعلى، هواجس منصور هائل، من تكرار أخطاء الماضي في المستقبل
سيسرد تنشئة فاروق في حزب اتحاد الشعب الديمقراطي. وفي أربع صفحات من الفصل الخامس، "الحزب يغرق في دمه"، سيسهب بالحديث عن المؤسس عبد الله باذيب ودوره التقدمي والنضالي كأول ماركسي يمني وكأكثر الماركسيين العرب رسوخاً. ثم ينتقل في فقرة تالية للحديث عن الوساطات العربية من الأحزاب الشيوعية العربية، ودور فاروق في تنسيق مهامها بما يضمن نجاح مساعيها. يتحدث مطولاً عن شهادة جورج حاوي الأمين العام السابق للحزب الشيوعي اللبناني وحواره المطول مع غسان شربل في مجلة الوسط 1996، وشهادة القيادي السابق في الحزب الشيوعي العراقي فخري كريم مع نفس الصحفي والمجلة. وهو إذ يعرض تلك الشهادات، وغيرها، فإنه يلتزم معها الحياد، فلا يوجهها لصالح هذا الطرف أو ذاك ويترك للقارئ الوصول إلى استنتاجاته بنفسه.
في "ربيع عدن"، الفصل السادس، سيدمج ازدهار مدينة عدن بمولد فاروق وتنشئته. ستعج الصفحات بكثافة السرد الحي، ويتدفق منصور هائل، كرياح الشواطئ وهدير أمواج المدينة، بين الأزقة والحواري والشوارع وفي أروقة المؤسسات وصفوف الدراسة. وفي النهاية، عندما سيطلق، رئيس المحكمة حكمه بالإعدام، سيزايلنا الشعور بسبب من براعة منصور، بأن الحكم سينفذ بحق فاروق والمدينة معاً.
لن يني منصور هائل معاودة فتح المقبرة الكبيرة في صدره المزدحم بشواهد قبور أصحابه ورفاقه، قفي الفصلين السابع والثامن، "عقدة الناجي" و "صراعٌ عارِ"، سيعلن بوضوح بأنه يعاني من عقدة الناجي، وبأن ذلك الصراع الذي فرق الأصدقاء وهوى بالحطام الهائل لآمالهم المشتركة فوق رؤوسهم لم يكن مبدئياً. وبأن المثقف، بالنسبة لطرفي الصراع، كان المتهم والضحية. يصفي كل طرف مثقفي الطرف الآخر، أولاً، وبعد أن ينتصر ينقض على مثقفيه.
من مسافة زمنية بعيدة، سيعاود منصور إطلالته على الأحداث؛ يخبرنا من دون أن يصرح بذلك، بأن فتاح وفاروق (على اختلاف فريقيهما) كانا بالنسبة إلى طرفي الصراع، يحملان ذات التهمة، فكل منهما كان مدينياً ومثقفاً وملتزماً حتى الموت بـ "ماغنا كارتا" السقاف.
يحيل، في الفصل السابع، إلى رواية "الجبل" للفرنسي – الجزائري، بانكريزي. فيستحضر وفقاً لعقدته التي يعلن عنها، طيف أحمد الحنكي. يتذكر الطريقة التي انتزعوه فيها من داره، دار الهمداني للنشر، ثم يبوح لنا بسر الصديق الذي ظل مبلوداً وهو يرقب صديقه من خلف طربال مهترئ، يساق إلى حفلة الموت من غير أن يجرؤ على رد المعروف الذي سبق وأسداه إليه الحنكي أيام الحرب الأولى. وها هو ذا يزف أمام ناظريه إلى حفلة التصفية في القفار البعيدة، وسيكون، وكوكبة من مثقفي المدنية الألمعيين، وجبة الرماية الرئيسية في عملية انتقام ملطخة بِـعارٍ لا يُمْحَى بغير الاعتراف والندم. وسيُهَيّج عقدته، أكثر، بالحديث عن نجاح دار الهمداني إبان إدارة الحنكي لها، ويُلْهِب آلام جرحه المنكوء بتهمة خذلان الأصدقاء (التي لم يقم بها حقاً) عندما يختم فقرة ازدهار دار الهمداني، متطهراً بكلمة الحق التي آلى على نفسه قولها حول مستوى النجاح الذي وصلت إليه الدار بكفاءة من الحنكي: "كان الطموح يلامس السماء". نتساءل ونحن في العقد الثالث من القرن الـ21: أين هي دار الهمداني اليوم؟!
لن تغادره حالة تأنيب الضمير في الفصل المزدحم بألمه الشخصي. يضمّن رؤية للكاتب السوري، ياسين الحاج صالح، بسيرته الحافلة بالمآسي، إذ ينوه (صالح) إلى خطورة الاستسلام لعقدة الناجي أو ما يمكن اعتباره مأزق السلامة بالنظر إلى سلامة شخص من مأزق لم يسلم منه الآخرون. ولا يكتفي بالتنويه، فيحذر بالقول إن لتلك العقدة أثرين مخربين؛ الأول أنها تدفع الناجي إلى إيقاف الزمن عند نجاته، أي خروجه من البلد كما هو الحال مع منصور، والتالي، عدم تبين التغير الذي يطرأ في الأوضاع وشروط الصراع وضرورة إصلاح الأدوات.
يورد في الفصل الثامن، شهادات الكاتب العراقي علي الصراف حول أحداث يناير في كتابه "اليمن الجنوبي من الجبهة إلى الحزب". ويضع منصور هائل بين أيدينا الكثير من الشهادات المختلفة، كشهادة البروفسور حبيب عبد الرب، ورئيس حزب التجمع، عبد الله عوبل، وغيرها من الإفادات، ويستخدمها في عقد مقارنات بين أحداث يناير 86 ويناير 2018.
يواصل تحذيره، في هذا الفصل، من مغبة القيام باستنساخ التجارب دونما اعتبار لمآسي الماضي البغيض. ثم يورد في نهايته، كلام صديقه العراقي، عبد الكريم كاصد، عند مغادرته عدن مجبراً بعد أحداث يناير 86 وهو يصف الأجواء التي خيمت على المدينة وقتها بالقول: "كانت للَّحظة في عدن ثقل الأبدية. لحظة تمتد حتى تغمر كل شيء بضجرها في فوهة هذا البركان التي اسمها "عدن" حيث سواد قبائل الغربان تلطخ خضرة الأشجار في الساحات والطرق كأننا في عالم خرافي. الفوضى اللانهائية للتاريخ. زمن لا يتقدم إلا لكي يرتد، ولا شيء ينجز أبداً".
في باقي فصول الكتاب الأربعة، ستصاحبنا مجدداً، لكن بوضوح أكبر ونبرة صوت أعلى، هواجس منصور هائل، من تكرار أخطاء الماضي في المستقبل. ففي الفصل التاسع، "ثقافة الإنكار"، سيؤكد على ضرورة تحقق المصالحة، وأن ذلك لا يكون بتناسي الماضي بمآسيه، فهذا النوع من النسيان يمثل شكلاً من أشكال توطين الظلم وإهانة الضحية. وأن الأصوب من النسيان، هو إظهاره بصورة بناءة وشفافة ومواجهته بحقيقته الشنيعة حتى لا يتكرر، والانفتاح على المصالحة بما هي "مراجعة سوسيولوجية جماعية لماضٍ مازال يلقي بظلاله الكئيبة على المجتمع ويخترق الوجدان الجماعي ويخلف بَصَمَاتٍ تنكأ الجراح وتثير القلق بموجات لا تكف عن التشويش على صيغة الحاضر وخربشتها". وسيذكر بأن الانفتاح على المصالحة مشروط بممارسة النقد الذاتي، على النحو الذي بادر بتقديمه في كتابه هذا. وأي حوار لن يكون جاداً ما لم ينفتح فيه كل طرف على الآخر، ويشدد على أن يكون حوار إرادات جادة وبما هو: "قوة فكر، وليس فكر القوة".
وسيشنع تالياً في الفصل العاشر، "تبييض سياسي" بمن يتصدرون المشهد اليومي الدامي ممن يتوهمون "أن بالإمكان تجزئة السفينة الجامعة غير آبه بأن هذا الضرب من الوهم يعني غرق الجميع". ثم يقول: " وكما كل مرة، تتكاثر الحرب وتكرر بسبب غياب المساءلة والمحاسبة". ويبدي استياءً واضحاً من معاودة القتلة السابقين وأنجالهم سيطرتهم على المشهد الدموي الراهن، ونجاحهم في تسويق أنفسهم وتبييض وجوههم الموصومة بالإجرام.
يطلق لسرده الريح قبل خط النهاية، ويحلق بنا عالياً في أسطر مجنونة، ليهذي كالعاصفة عن بطل الفصل الأخير، عن منصور هائل شخصياً! وعن الحزب والحرب، والوطن والشتات
وفي محصلة الفصلين السابقين، بإمكاننا أن نستشف ضجره من استمرار بقائنا عالقين في جملة من المآسي بات واضحاً أن لأذيالها قدرة طيعة على الامتداد دون انقطاع من زمن وقوعها البعيد. وبسبب من ذلك، فإنها ليست تستمر وحسب، بل هي تتشابك مع مآسي أخرى، في تكرارات لن تتوقف إذا لم تُقطع ذيولها بحلول تعترف بحقوق الضحايا في القصاص على نحو عادل، وبفعالية الدولة ومؤسساتها وقوانينها التي تتصدى لمن تسول له نفسه الاشتراك بما يتسبب في تكرار فظائع الماضي أو يظهر نزوعاً لممارسة أي نوع من الحماقات الدموية الجديدة.
في الفصل العاشر المعنون باسم الكتاب نفسه "أطياف عدن" يقارن الكاتب الحال في مدينة عدن بين تجربتي، ما قبل يناير 86 التي كانت حالمة، وما بعد 2015 في ظروف الحرب الراهنة وتقاسم الميليشيا السيطرة على أحياء المدينة. لا يبدي حنيناً رومانسياً لحقبة اليسار. يكتفي بتذكر المظاهر المدنية التي سادت تلك الحقبة، ويورد شهادات أجنبية بهذا الخصوص، من دون أن يغفل نقد التجربة، ومقارنتها بالحاضر. لا يقف مع الحالمين بعودة أي شكل مقدس سابق، لا خلافة الرفاق الأممية ولا خلافة الإسلامويين الراشدة. يعدد الكثير من حوادث التضييق والتشديد على الناشطين المدنيين، التي مارسها التحالف الذي ترعاه الإمارات بين الميليشيا الدينية وتلك القادمة من الريف. يكتب عن ملابساتها والمتورطين فيها بالتفصيل. يستخدم مقولات سعيد ناشيد وياسين الحاج صالح حول الوضع في عدن، ونقد كل منهما لتجارب اليسار ومقارنتها بتجارب الإسلام السياسي الجهادي.
لا يبدو بأن منصور هائل يميز بوضوح بين صنوف الجماعات الحركية الإسلاموية. لكنه، وهذا ما يهمنا، بتحليله لوضع عدن الراهن، لا يفقدنا الأمل بشروط عودة المظاهر المدنية التي ستظل متاحة، وهو ما علينا العمل لأجله في كل مكان.
سينتقل بعد ذلك، في الفصل المعنون بـ "النفط وانتقام الجوار النفطي" إلى إعادة انتاج القراءة للفصل المشابه في كتاب الدكتور السقاف، "اليمن الشمالي بين السلطنة والقبيلة"، ولكن على ضوء المؤثرات الراهنة على الوضع السياسي والاقتصادي اليمني. ونقصد بتلك المؤثرات: الحرب، "التحالف العربي" بتناقضات أطرافه وتضارب مصالحهم الاقتصادية والجيوسياسية، إيران، أمريكا، وحالة التمزق وغياب الدولة، والبعد الجغرافي والديمغرافي الذي تمثله اليمن لكل من تلك المؤثرات. يحيل في عنوان الفصل إلى كتاب كابلان الشهير، "انتقام الجغرافيا". ومنصور هائل في كتابته وتحليلاته الاستراتيجية والجيوسياسية وربطها بالمؤثرات الأخرى، هو الأستاذ الذي لا نملك إزاء تناولاته الباهية غير الاكتفاء بتأملها ومشاركتها على مواقع التواصل الاجتماعي كما نزلت من عنده.
أخيراً، وفي الفصل الأخير، "هذيان الحطب"، نفس العنوان الفرعي للكتاب، سيقرع لنا منصور هائل جرس النهاية "بسرد ذاتي" يشبه السحر. كان بهذا العنوان، يلفحنا، منذ البداية، بلهيب مشاعره المضطرمة بما "تصرّم" من حطب عمره.
سيطلق لسرده الريح قبل خط النهاية، ويحلق بنا عالياً في أسطر مجنونة، ليهذي كالعاصفة عن بطل الفصل الأخير، عن منصور هائل شخصياً! وعن الحزب والحرب، والوطن والشتات، عن الوجود والاغتراب، عن الحب والأشياء الأخرى، وعن محطات الحياة المليئة بإخفاقاتٍ تشهد على افتقار نضالاته إلى الإنجاز. سيخبرنا عن السرد والمشاريع التي لم تكتمل، وعن أصدقاء رحلوا قبل أن ينجز مشروعاً روائياً كان قد توعدهم فيه "باكتنافهم سردياً كأبطال في رواية لن تشبه حتى نفسها". ولن يبدو لنا مبالياً إن نحن سألناه: "أين صار مشروع الروائي"؟ فسيرد دون اكتراث: "ككل مشاريعي العظيمة: ورائي"!
لكننا سندرك، مع الختام، أنه بسرديته الرفيعة، هاته، إنما كان ينتفض من بين الرماد ليكتبَ ألَمـَه، وربما ندمه، مؤلفاً وجبة مشاعر دافئة يضعها بين أيدينا على طبق أدبي فخم، ولا مناص، لنا، من التهامها بالكامل بما انطوت عليه من تهكمٍ بليغ، ساط به ذاته ومواقفه السابقة، قبل أن يسوط أحداً آخر.