بطرق تقليدية ذات صلة بطقوس شعبية إثيوبية، تُحضّر (سلام) مشروب قهوة البُنّ للزبائن كل صباح؛ إذ تُشعل موقدًا طينيًّا صغيرًا مليئًا بالجمر وتضع فيه البخور، وبجانبه تضع مزهرية بداخلها "مشاقر" عطرية، وبالقرب من الموقد والمزهرية تُعِد سلام القهوةَ وتصبُّها في كؤوس صغيرة ثم تقدّمها لزبائن المطعم.
على وقع موسيقى وأغانٍ إثيوبية، تدير سلام -وهي امرأة إثيوبية- شؤون مطعم حبشي، اسمه (شَبيلَّى)، ويقع في الشارع الخلفي لشارع حدة، بالقرب من المدرسة الفنية في صنعاء؛ وذلك بهمة ونشاط عاليين، فتحمّص البُنّ وتعده في ذات الوقت كل صباح؛ ما يجعله ذا نكهة مميزة؛ كما يقول مريدو المطعم في الفترات الصباحية.
كان المطعم قديمًا يمثّل نقطة جذب وتجمع لأبناء الجالية الإثيوبية؛ كونه يوفر لهم ما يحتاجونه من أجواء وطقوس ومأكولات ومشروبات، ولاعتباره مجاورًا لمبنى السفارة الإثيوبية، وهو بذات الوقت محل اهتمام الكثير من اليمنيين الذين يحبون الأطباق والأطعمة الإثيوبية الشهية والشهيرة.
واحد من عناوين المدينة
بشجن يتحدث الشاعر والكاتب محمد الشيباني عن ذاكرة المكان، متذكرًا تفاصيل عاشها في مقهى ومطعم شبيلى، قائلًا لـ"خيوط": "تعرفنا أول مرة على المقهى في منتصف 2011، وكنا نلتقي فيه صباحًا، مجموعة من الأصدقاء والأساتذة الكبار، منهم: المرحوم أبوبكر السقاف، وعبدالباري طاهر، وأحمد كلز، والمرحوم عبدالكافي الرحبي، والمرحوم حسن عبدالوارث، وعبدالعزيز البغدادي، وعبدالكريم هائل سلام، والمرحوم علي الصبيحي، وعلي باوزير، والمرحوم محمد أبوبكر بازرعة، وعبدالغني ناجي، وفوزي غالب، وغيرهم من الأصدقاء، وكانت طاولاته تتحول إلى جلسات نقاش صاخبة بحضور صحافيين وكتّاب ومهتمين.
ويضيف الشيباني: "وفي المساء، ننتقل إليه للعب الورق، بعد أن تحول شارع هائل وقتذاك إلى ثكنة عسكرية مغلقة، وكانت (حنّا) صاحبة المطعم تختزل الثقافة الإثيوبية ورقّيها في التعامل مع الزبائن من كل الأصناف".
ويتابع الشيباني: "بدأنا ننقطع عن المكان تقريبًا مع مطلع العام 2016، وذلك بعد مغادرة الكثير من رواده من الأصدقاء إلى مستقرات جديدة بفعل حالة الحرب التي لفت كل اليمن، ومغادرة صاحبة المقهى وشقيقها مولر، وكثير من أبناء الجالية الإثيوبية الذين كانوا يرتادون المقهى بمدينة صنعاء".
ويختتم الشيباني حديثه: "يجرفني الحنين في أوقات متباعدة إلى المكان لتناول القهوة الإثيوبية المميزة"، مؤكدًا أن "أيام مقهى شبيلى الإثيوبي تبقى واحدة من عناوين مدينة صنعاء الباذخة حينما كانت ترفل بالسلام".
نقطة التقاء الأصدقاء
تجمع اليمنيين والإثيوبيين علاقات متداخلة تتشابه في بعض المواضع بالعادات والتقاليد، وبصورة عامة تعززت تلك العلاقات بفعل الزواج والاختلاط الذي جمعهم في حلقات تاريخية لأغراض المصالح التجارية والعائلية.
يتردّد المحامي خالد الكمال -زبون دائم- لزيارة المطعم؛ لإعجابه بالثقافة الإثيوبية المتعلقة بالأطباق الشهية كـ"الزجني" و"اللحوح الإثيوبي" و"السَّلَطات الإثيوبية"، ويقول إنه كذلك معجب بحالة الهدوء التي تسود المطعم؛ وذلك على عكس حالة الإزعاج والصراخ التي يهرب منها في كثير من المطاعم اليمنية؛ حد قوله.
تبدي الآن سلام مخاوف عديدة، إذ كانت تشكو من قلة الإقبال على المطعم وضعف العمل، وكل ذلك يرجع إلى أن كثيرًا من أبناء الجالية الإثيوبية قد هاجروا بسبب الحرب الدائرة في اليمن منذ أكثر من عشر سنوات، الأمر الذي انعكس سلبًا في الوقت ذاته على إقبال الزبائن اليمنيين؛ وذلك لتدهور الوضع المعيشي لدى الناس وانعدم المرتبات.
ويقول الشاعر بلال قائد، لمنصة "خيوط": "إن القهوة الحبشية في مطعم شبيلى مميزة، وتُعد بطقوس لافتة ورائعة، وطعمها له مذاق خاص"، ويضيف: "لطالما مثّلَ المطعم نقطة التقاء للأصدقاء والشعراء والأدباء والصحافيين"، وهو وفقًا لقوله، أحد الأماكن الرائعة للاستراحة والحصول على أكلات شهية ومختلفة عن الأطباق المعتادة في المطاعم اليمنية.
ويستطرد قائد: "تعرفت على المطعم في نهاية التسعينيات مع مجموعة من الأصدقاء، وكنا نزوره باستمرار؛ لأن الإثيوبيين يُتقنون إعداد القهوة بنكهتها الأصيلة؛ وذلك لاعتبارها المشروب القومي بالنسبة لهم، ومقهى شبيلى ظلّ فترات طويلة المكانَ الذي يمنحك الأثر الجميل، ولكنه مع الأسف تراجع مؤخرًا؛ بسبب ظروف البلاد".
سلام لا تنوي الاستسلام
قبل سنوات، كانت (حنّا) امرأة إثيوبية، تملك مطعم شبيلى، وكان وقتها من أشهر المطاعم الإثيوبية في صنعاء، حيث اشتهر بتقديم القهوة الإثيوبية والمأكولات الشعبية الإثيوبية سنوات طويلة، ولكن فترة الحرب التي عاشتها البلاد ولا تزال، حالت دون استمرار المطعم بتلك الوتيرة؛ إذ شهد ضعفًا كبيرًا في إقبال الزبائن؛ ما جعل (حنّا) تغادر اليمن وتسلم المطعم لـ(سلام).
تبدي الآن سلام مخاوف عديدة؛ إذ تشكو من قلة الإقبال على المطعم وضعف العمل، وكل ذلك يرجع إلى أنّ كثيرًا من أبناء الجالية الإثيوبية قد هاجروا بسبب الحرب الدائرة في اليمن منذ أكثر من عشر سنوات، الأمر الذي انعكس سلبًا في الوقت ذاته على إقبال الزبائن اليمنيين؛ وذلك لتدهور الوضع المعيشي لدى الناس وانعدم المرتبات.
تخوض سلام تحديات عدة، محاوِلةً إعادة زخم المطعم إلى سابقه، ولكن ذلك قد يبدو مستحيلًا؛ ليس لأن سلام لا تعمل بجد واجتهاد، بل لأن ظروف الوقت الراهن قد تغيرت جذريًّا، ومع ذلك فسلام مستمرة في إنعاش المطعم وعدم تركه للإغلاق أو النسيان.
كان مطعم شبيلى ولا يزال، يقدم الأطباق الإثيوبية الشعبية الشهيرة، وأهمّها "الزجني" وهي الوجبة التي يفضلها كثير من زبائن المطعم؛ لاعتبارها الأشهى والأغنى بالفوائد الصحية، ويتكون طبق " الزجني" من الخضروات المطبوخة، واللحوح الحبشي، وكذلك اللحم البقري ولحم الدجاج.
على الرغم من صعوبة العمل وضعفه في المطعم، فإن سلام تؤكد لـ"خيوط" أنّها لا تنوي بأي شكل التوقف أو الاستسلام وترك المطعم، وهي تعيل أسرتها في إثيوبيا، التي تتكون من أب وأم وثلاثة أشقاء وثلاث شقيقات، وهي تراهن في الوقت ذاته على تغييرات في البلد، من شأنها أن تعيد حياة المطعم إلى سابق عهدها، كأن تتوقف الحرب في اليمن.