من كشكوش إلى كيني ميني، مرورًا بشوتر وزنبقة في همي همك، ثم الدلال، وغربة البُن، وليالي الجحملية، وصولًا إلى دكان جميلة، وطريق آمن، وحتى دروب المرجلة، وماء الذهب، وخروج نهائي...؛ مرت الدراما اليمنية، خلال العقدين ونصف الأخيرين، بمراحل مختلفة وبإمكانيات متفاوتة، بين قلة الإنتاج وجودته في السابق مع شحة الإمكانيات، وبين غزارة الأعمال المعروضة حاليًّا ووفرة الإمكانيات، على حساب المحتوى والفكرة وأمور أخرى يفهمها أهل الفن والنقد.
عرفَت اليمن الدراما في فترة السبعينيات، ثم ازدهرت مطلع التسعينيات، يومها كانت الأعمال قليلة، لكنها مؤثرة؛ مسلسلات علِقت في الأذهان إلى اليوم، على الرغم من البساطة في الإمكانيات، فنيًّا وتقنيًّا. بعد الألفين (2000 ميلادية)، زادت قليلًا الأعمال الدرامية، لكنها وصلت مرحلة الطفرة في الخمس السنوات الأخيرة مع وجود أكثر من شركة إنتاج، وبسبب تعدد القنوات الفضائية، وسباقها في كسب رضا المُشاهِد اليمني، وانتباهه، وخلق قاعدة جماهيرية أوسع، في ظل انتشار منصات التواصل الاجتماعي، التي مكنتها من وصول سهل وسريع للمُشاهد، لكن هذه الطفرة في الإنتاج، قابَلَها ضعف في المحتوى والمضمون، وفقًا لرأي النقاد.
جودة الصورة والموسيقى
محمد خالد، كاتب سيناريو ومخرج، تحدث لـ"خيوط"، قائلًا: "الدراما في اليمن تطورت من ناحية جودة الصورة وجودة الموسيقى التصويرية، ولكن يبقى لنا تطوير النصوص والأداء والإخراج حتى نصل لأعمال درامية تنافس الأعمال العربية والأجنبية التي يتابعها المشاهد اليمني، وأنا متفائل بأن الوضع سيتغير للأفضل بوتيرة متسارعة فور انتهاء الوضع الحالي، الكارثي، في اليمن".
والجمهور اليمني، جمهور متابع للدراما، ووفقًا لما قاله محمد، يمكن ملاحظة اهتمام الجمهور اليمني بالدراما بشكل عام من خلال متابعته الأسبوعية لأعمال عربية وتركية وأجنبية، معتبرًا ذلك مؤشرًا على سوق واعد للإنتاج الدرامي في اليمن، خارج السباق الرمضاني. وأضاف: "أنا متأكد بأنه سيتم الاستثمار فيه، ما دام المستهلك موجودًا ومتعطشًا لمحتوى يليق به".
وقال معقبًا: "الجمهور اليمني في الداخل والخارج جمهور كبير، ويعد مصدر دخل يجب استثماره، وهو أمر تنبهت له بعض شركات الإنتاج العربية، فنلاحظ أن معظم المسابقات العربية التي تعتمد على التصويت مصدرًا للربح، تحرص على وجود متسابق يمني، لكي تستثمر أموال الجمهور اليمني الذي سيصوت له".
التركيز على وجوه معينة "مشهورة" ونسخها لأكثر من عمل درامي، في مقابل عدم إتاحة الفرصة الكافية لوجوه جديدة قادرة على تقديم مثل هذا العطاء وربما أكثر، يجعلنا نتساءل: هل الأمر ظاهرة طبيعية أو مشكلة ملازمة للدراما في اليمن؟ وهل يؤثر ذلك على مزاج المشاهد وتفضيلاته؟
تقول عينة من المشاهدين، استطلعت "خيوط" آراءهم، حول واقع الدراما في اليمن، إن "الدراما اليمنية، لا تعكس الواقع كما ينبغي، ولا تعالج أو تتطرق لبعض الظواهر المرتبطة بشكل وثيق بالحياة الاجتماعية اليومية، ولا تُظهرها كما هي، كظاهرة القات مثلًا، الذي هو جزء من حياة اليمنيين، وإن لم نشأ ذلك". كما تُكرر الأعمالُ الدرامية في اليمن، بحسب المشاهدين، نفس القصص والممثلين كل عام، نصوص تذهب بنا إلى الريف عادةً، ثم تناقش مسائل عادية أو سطحية، إضافة إلى أنها ليست جريئة في طرح قضايا تهمّ الوطن، وهموم المواطن بدرجة رئيسية، وتظل تحوم في الهامش.
نجومية الفنان والتكرار
خلال الموسمين الماضيين، برزت أشواق علي، بصفتها فنانة تأخذ دور البطولة، في كل مسلسل تقريبًا، شاهدناها في رمضان تظهر أحيانًا في مسلسلين، يُعرضان في ذات التوقيت، على قناتين مختلفتين، وهو ما أصاب المشاهد بـ"الربشة" والتشتت، ثم التساؤل: "يعني ما فيش ممثلين آخرين؟!".
لكن هذا ليس بجديد، إذ سبق للفنانة سالي حمادة، أن سيطرت قبل أشواق، على بطولة الأعمال الدرامية في اليمن مدة، شاركت خلالها في عدة مسلسلات متتابعة ومتزامنة، بأدوار مختلفة.
ولسنا هنا في وارد تقييم أداء الممثلتين؛ لكن لا بد من الإشارة إلى إشكالية تركيز بعض المنتجين، والمخرجين، وصنّاع الدراما، على وجوه معينة "مشهورة" ونسخها لأكثر من عمل درامي، في مقابل عدم إتاحة الفرصة الكافية لوجوه جديدة قادرة على تقديم مثل هذا العطاء وربما أكثر، لنتساءل: هل الأمر ظاهرة طبيعية أو مشكلة ملازمة للدراما في اليمن؟ وهل يؤثر ذلك على مزاج المشاهد وتفضيلاته؟
اعتبر الكاتب والمخرج محمد خالد، أن سيطرة نجم بحد ذاته لبطولة معظم الأعمال الدرامية أمر طبيعي، بعد أن يُحقّق جماهيرية ونسب مشاهدة عالية، وهو أمر تفرضه قواعد صناعة الدراما، حيث يصبح النجم محبوب الجماهير الأول؛ أما الأمر غير الطبيعي من وجهة نظره، هو أن يستحوذ نجم واحد على بطولة أكثر من مسلسل، يتم بثه في نفس الوقت، وهذا يضر النجم والمسلسلات وشركات الإنتاج؛ لأن ذلك يشتت المشاهد.
يُعيد الكاتب محمد خالد، الأخطاء التي يقع فيها صُنّاع الدراما اليمنية، إلى أخطاء الوضع "الكارثي" في اليمن بشكل عام، وفقًا لتعبيره، وقال إنه ليس من الإنصاف أن نطلب من صنّاع الدراما في اليمن، نتائج مثالية في وضع كارثي كهذا، ويضيف: "طبعًا أنا لا أعفيهم تمامًا من المسؤولية، لكني مقدّر ومتفهم، وأحترم كل محاولات الإنتاج الدرامية، التي تتم في هذا الوضع، وأعتبر الإنتاج بحدّ ذاته إنجازًا يستحق الاحترام والتقدير".
لا يوجد معهد متخصص
وحول سيطرة بعض الممثلين واستحواذهم على الأعمال الدرامية، وتأثير ذلك على المواهب الجديدة أو فرص الممثلين الحاليين الآخرين، يوضح محمد بالقول: "أنا لا أرى الموضوع من هذا الجانب، لأنني مؤمن بعدل الله وحكمته، وأنه لا يستطيع أحد أن يأخذ فرصة الآخر، وعلى العكس، فالدراما اليمنية متعطشة للممثلين والمواهب الحقيقية؛ لأنّنا في بلد لا يوجد فيه معهد متخصص للتمثيل".
إن عدم وجود معهد تمثيل متخصص، بحسب رأي محمد هو أحد أسباب ضعف الدراما اليمنية؛ لأنه يسبب ندرة الخيارات ويحصر المنتجين على نفس الوجوه، التي قد يشتكي بعض الجمهور من تكرارها في معظم الأعمال، وهذا ليس بسبب استبعاد المواهب الجديدة، وإنما لعدم توفرها أو مقدرتها على مواءمة الظروف المتاحة للإنتاج حاليًّا.
الأعمال الدرامية اليمنية لا تأخذ وقتها في الإعداد وتدريب الممثلين على النص واللهجة؛ لأن ذلك يكلف ميزانية الإنتاج، لهذا يتم الارتجال، ويتحدث كل ممثل بلهجته، بعذر أنهم يمثلون ويرمزون للبيت اليمني الواحد المتناغم والمتجانس باختلاف وتنوع لهجاته.
التكرار في الشخصيات يجعل الأعمال الدرامية في اليمن، تبدو نسخة من بعضها وإن اختلف السيناريو، والفكرة، والتصوير، ونحوه، لدرجة أن المُشاهد قد يعبر عن رأيه في كل عام، باقتباس شعبي يقول: "ديمة قلبنا بابها"، وهنا إشارة إلى ملل المشاهد، من التكرار، والتشابه، فيما يقدم من دراما كل عام، لا سيما أن الدراما اليمنية موسمية، تطل علينا برأسها في رمضان، ثم تنام طوال العام.
يُعرض في رمضان هذا العام، عمل درامي جديد اسمه "الجمّالية"، وفي الحقيقة هذا ليس إعلانًا مموّلًا، أو ترويجًا للمسلسل، فحتى الآن، أنا لا أعرف معنى الاسم ودلالته، ولم أسأل الذكاء الاصطناعي عن ذلك! هل يشير إلى حي أو منطقة في تعز؛ كما مسلسل الجحملية، أو إنه صفة لمن يعملون في رعاية الجِمال أو هو على وزن وشكل مسلسل "العالية" أو شيء آخر؟ لكن ربما ستشعرون عند مشاهدته بتكرار ممل في الشخوص، والأحداث، وحتى الملابس المختارة، وربما يحقق نجاحًا واسعًا... من يدري!
عندما سُئل الفنان عامر البوصي عن أعماله القادمة، أكد أنه لن يكون موجودًا في أي عمل درامي في رمضان هذا العام، وعن السبب، قال: "عُرضت عليّ أربعة أعمال، واعتذرت عنها، لأنني لم أجد نفسي فيها".
إشكالية اللهجات وحلها
شاهدت حلقات من مسلسل "مع ورور" بطولة الفنان الكبير نبيل حزام، الذي كان يتحدث بلهجة أهل إب وقد أتقنها، ومع أن مكان التصوير في محافظة إب، والأحداث تدور هناك؛ فإن غالبية المشاركين في هذا المسلسل، كانوا يتحدثون لهجة صنعانية بقافها وجيمها.
وإشكالية اللهجة، ملازمة لكل الأعمال الدرامية اليمنية غالبًا، ودائمًا ما يتندر المشاهدون، عندما تختلط كل اللهجات في مشهد واحد، الأب من تعز، والأم عدنية، والأبناء من صنعاء.
سألت "خيوط" محمد خالد باعتباره كاتب سيناريو، عن: كيف يمكن حل أو معالجة إشكالية تعدد اللهجات في المسلسلات اليمنية؟ أجاب وهو يضحك: "ما يحدث في بعض الأعمال الدرامية اليمنية من تحدُّث أفراد الأسرة الواحدة عدة لهجات، هو أمر غريب ولا يحدث في الواقع، ولا أخفيك أن هذا الأمر مثير للضحك لدى العاملين في مجال الدراما أيضًا، وليس الجمهور فقط".
لكن الأمر ليس عفويًّا أو قد يراها صنّاع الدراما خطأ أو سلبية كما نعتقد، بل هو مقصود، يوضح محمد ذلك بقوله: "حين بحثت عن كيف بدأ الأمر، حصلت على إجابتين: الأولى، أن تعدد لهجات الأسرة الواحدة في الدراما اليمنية لم يكن عفويًّا بل مقصودًا، وفيه إشارة إلى أن الأسرة في المسلسل هي رمز للأسرة اليمنية، ويجب مراعاة التنوع وتمثيل مختلف المحافظات قدر الإمكان، والإجابة الثانية هي أن الأعمال الدرامية اليمنية لا تأخذ وقتها في الإعداد وتدريب الممثلين على النص واللهجة؛ لأن ذلك يكلف ميزانية الإنتاج؛ لهذا يتم الارتجال، ويتحدث كل ممثل بلهجته، بعذر أنهم يمثلون ويرمزون للبيت اليمني الواحد المتناغم والمتجانس باختلاف وتنوع لهجاته".
والحل ببساطة لهذه الإشكالية، كما يراه المخرج والكاتب محمد خالد، هو أن يتم تدريب الممثلين على اللهجة التي يقتضيها المسار الدرامي للأحداث، وهذا ليس أمر جديد في صناعة الدراما، وأشار مستدلًا: "نحن نشاهد تجارب ناجحة فنيًّا وجماهيريًّا لممثلين سوريين في الدراما المصرية، وهم من جنسية ولهجة مختلفة تمامًا، والسبب في النجاح، يعود لتدريب الممثل السوري على اللهجة المصرية".
طريق إجباري في تعز
قبل 2010، كانت صنعاء، ميدان عمل كبير لشركات الإنتاج والمخرجين وصنّاع الدراما، حيث يوجد غالبية الفنانين والممثلين وتتوفر الإمكانيات، لكن بعدها وبسبب الأحداث التي مرت بها البلد، وما زالت، وجدنا تعز أصبحت مكانًا مفضلًا لإنتاج الأعمال الدرامية، خاصةً خلال السنوات الخمس الأخيرة، وهذا العام هناك أربعة أعمال على الأقل صورت في تعز، مع ذلك فالكثير من الدراما لا تزال تُنتج وتصور في صنعاء ومناطق أخرى، بحسب الحاجة. إضافة الى تجربة جديدة سابقة لمسلسلات جرى تصويرها وإنتاجها خارج اليمن، لاعتبارات فنية، وأحيانًا أمنية، أو طارئة كجائحة كورونا.
و"طريق إجباري" ليس عنوان فقرة هنا، بل هو اسم مسلسل جديد يصور في تعز، ويعرض في رمضان هذا العام، تعود فيه الفنانة سالي حمادة للظهور، ويشاركها عدد من نجوم التمثيل في اليمن، في مقدمتهم الفنان القدير نبيل حزام.
المخرج مشغول
قبل أشهر، أثار المخرج اليمني وليد العلفي، الجدل بمنشور على صفحته في فيسبوك، شكا فيه الإزعاج، قال إن تلفونه لا يتوقف، تصله اتصالات ورسائل كثيرة من شباب يبحثون عن فرصة مشاركة في أعمال درامية، انقسم المتابعون حول ما كتبه العلفي، بين متضامن معه، وبين من انتقده ورأى في كلامه تعاليًا، وفريق ثالث وجدوه محقًّا، لكن خانه التعبير.
وليس القصد هنا نبش موضوع قديم، فالناس تركوا المعنى في بطن المخرج، والواقع يقول إن الفنان الممثل في اليمن، حاله كحال لاعب كرة القدم في هذا البلد، يمارس التمثيل هواية، ولا يحترف المجال، ينتهي من تصوير عمل معين، ثم يلتفت لحياته ومشاغله، ويبحث عن مصدر رزقه، بمهن وأعمال أخرى مختلفة، ومعروف أنّ الدراما في اليمن موسمية، ومؤخرًا لجأ الكثير من الفنانين والممثلين، لعمل إعلانات تجارية في حساباتهم على منصات التواصل، تكون مصدر دخل.
ممثل يمني شاب اسمه "بشير العزيزي"، كان آخر عمل شارك فيه مسلسل "قرية الوعل" اعتذر للجمهور، وأعلن في يناير هذا العام اعتزاله التمثيل، ثم كتب قائلًا: "باختصار، الدراما اليمنية، ضياع لعمر الممثل".