لم يكن الأمر بالنسبة لي سهلًا حتى بدأت أشغف بالموسيقى الكلاسيكية الغربية، عدا أني فرضت على نفسي هذا كتحد خالص واستكشاف تدرجت وسط عوالمه كفأر تجارب. كان ارتباطي في الموسيقى شرقيًّا خالصًا، وسايرت ذائقة عصري من "لولاكي" إلى "تملي معاك"، في عالم البوب الشرقي وومتوغلًا في الكلاسيكيات العربية بمزاج متغير. وحين بدأت استكشاف الكلاسيكية الغربية كانت ثقافة مغايرة لعاداتي الموسيقية، شيئًا ما بين الموسيقى الصرفة في هارمونيات معقدة، ولحنية رومانتيكية تصبغها الأساليب الهارمونية والجوانب التكنيكية في العزف والأداء. حتى حين صدتني أول الأعمال الكلاسيكية التي استمعت إليها، عاندت في اختبار أذني وتدريبها. والحقيقة، أني وجدت نفسي أسير في تدرج منطقي بين عوالمها.
وحقيقة، لم أكن مهووسًا بالبوب الغربي، أو حتى بكلاسيكياته الحديثة الممتدة من الجاز والبلوز وحتى الروك. وبالفعل، بدأت تجاربي غير متزنة، ومنتهكة بعاداتي السماعية. فأول ما جذبني لهذا العالم، مدرس الموسيقى الذي عرفت منه اسم بيتهوفن، حين وصفه بالأفضل على الإطلاق. بعد سنوات كانت ذاكرتي مشغولة باسم بيتهوفن كلقية ثمينة وسط شغفي بالموسيقى. ووضعت تصورات في خيالي عن نوع الموسيقى الذي يمكن أن تنبعث منه قريحة موسيقي عظيم لم أستمع له بعد.
علاقتنا تبدأ بالموسيقى الغربية الكلاسيكية، عبر قصص الأطفال، دائمًا تكون الحركة الكرتونية مفعمة بكوكتيل متنوع من لمحات الموسيقى الغربية. عندما سأستمع لاحقًا سأتعرف على بعض مما احتفظت به ذاكرتي من حلقات الكرتون. لكن تلك العلاقة جزئية وسطحية، وفيها تتشظى الموسيقى بالصورة. بمعنى أن هناك علاقة مزدوجة تتفاعل بين الأذن والعين. فمثلًا لا تصدمنا الأصوات الهارمونية، ونتآلف معها أثناء المشاهدة، لأن الموسيقى تشبعها الحركة الدرامية وتتناغم بمؤثراتها.
في أفلام الكرتون أو حلقاته نستمع لوصلات مجتزأة ذات طابع حيوي أو نغمة فيولين حزينة للغاية مع بكاء شخصية كارتونية. ولا يكون هناك استرسالًا مشحونًا بتنويعات ثيمية، كما في الموسيقى الأصلية. إذ تعمل الحركة مع الموسيقى بتوليفات من أعمال مختلفة، تتسق بحسب الحالة التصويرية لحركة الصورة الكارتونية. فنستمع لجزء سيمفوني من بيتهوفن، أو برامز، أو كونشرتو تشايكوفسكي، أو تدحرج لمفاتيح البيانو لفنانين مختلفين.
وبين مقتنيات الكاسيتات لا يمكن العثور في منزل عائلتي على موسيقى غربية، بينما أغلب ما تعرضه الاستريوهات لا يتعدى كاسيتات البوب الرائج.
في رواية توماس مان "الدكتور فاوستوس" قرأت تحليلًا مبهرًا لسوناتا بيتهوفن الأخيرة رقم 32، وبصورة أخص حركتها الثانية التي صاغها بقالب الفوغة الأكثر تعقيدًا. لا أزعم أني أحببتها منذ اللحظة الأولى، عدتها مرارًا، حتى أصبح تكوينها العقلاني وبنيتها المتسمة بالجلال تحملني داخل عوالمها
حين أتمتع بمصروف جيد كنت أهدره في شراء ألبومات، غالبًا لفنانين عرب أو يمنيين. لكني في مراهقتي رحت ألاحق هوس حالم عن تلك الموسيقى التي لم أعرفها. كانت أيضًا قصائد نزار قباني مشغولة بأسماء موسيقيين مثل موزارت وبيتهوفن وتشايكوفسكي، وكذلك باسم النهاوند الذي عرفت أنه مقام موسيقي. كنت أطالع الصحف المصرية والعربية التي تكتظ في منزل عائلتي دون توقف. وكانت هناك مكتبة لأعداد قديمة من مجلات عربية. وفي جولاتي بين محلات الاستريو، قررت البحث عن بيتهوفن. يندر أن تعثر على ألبوم لموسيقى كلاسيكية في اليمن. وكنت أشبه بمغامر يبحث عن كنوز الذهب في جبال أمريكا.
لكن علاقتي بالموسيقى الكلاسيكية تشكلت من خلال التباس عميق. فبيتهوفن ظل اسمًا مبهرًا لأولئك الذين لم يعرفوا موسيقاه. وعندما سألت صاحب استريو في شارع جمال وسط صنعاء، عن بيتهوفن فتح لي موسيقى رائجة عرفت باسم مونامور، وكنت كمن عثر على مراده، فبالنسبة لذائقة لحنية طفولية توافقت الموسيقى مع ما أردت أن تكونه موسيقى الفنان الذي ألف أعظم أعماله وهو أصم. لقد خدعني ببراءة، وكانت موسيقى خالية من الهارمونية تعود لموسيقي أسباني أعمى هو رودريغو، وهي الحركة الأولى تقريبًا لكونشرتو ألفه للجيتار والأوركسترا. وسبق أن استخدمتها موسيقى تصويرية لأفلام عربية كلاسيكية، وبالتحديد فيلم لشادية مؤلم، نسيت اسمه.
كان الألبوم بمجمله تكرار لهذا اللحن الوحيد تعيده آلات مختلفة بينها صوت صفير رقيق. لم تكن أعمال بيتهوفن بتلك الرقة التي استأنستها، وليس هذا الاستئناس الغريزي سمة الأعمال العظيمة. وبقيت مخدوعًا ببراءتي التصقت ببراءة لا معرفية لصاحب الاستريو. لقد اكتفيت منها وزاد شغفي بالبحث الخادع عن نمط لا صلة له بموسيقى أبحث عنها، فتطلعت للمزيد منها.
في محل بشارع القصر كان يبيع آلات موسيقية، سألت عن بيتهوفن، وشعرت بفرحة المتبتل حين عرض لي نسخة أصلية لبيتهوفن، وأنا أنتظر رنين موسيقاها على المسجل. وكانت الصدمة بضربات شيطانية، من أمواج الأوركسترا المحتدمة بصوت البيانو، كان كونشرتو للبيانو. إنها ليست ما أبحث عنه. صدمتني هارمونيتها، هديرها القوي المفاجئ الذي يعقب صوتًا خفيضًا.
شعرت بحرج، هل أتراجع عن شراء الألبوم؟ وبعد أن كنت راغبًا بشراء النسخة الأصلية طلبت نسخة مسجلة على مضض. وعدت إلى المنزل لأستمع لتلك الموسيقى المنفرة لأذني. عشت علاقة ملابسة مع أول ألبوم لبيتهوفن أستمع له، ما بين الإهمال وإعادة تدويره، محاولًا الإعجاب بموسيقاه. كانت ربما صدمة قاسية لأذني، وما زلت حتى اليوم، وقد أصبحت شغوفًا بالموسيقى الكلاسيكية أشعر بحاجز مع كونشرتات بيتهوفن.
وفي واحدة من شطحاتي لاحقًا، رحت أردد أن تشايكوفسكي أعظم من بيتهوفن، كان شكلًا من التعصب الشرقي ضد ثقافة غربية رفيعة المستوى.
ولفترة تراجعت عن البحث عن أي موسيقى كلاسيكية، لكن خواطر أخرى أطلت من الكتب لا تقتصر على موسيقى بيتهوفن، فهناك أسماء كبيرة، وتعليقات فيما أقرأ تسمو بأعجاب عن موسيقى باليه بحيرة البجع. اتسم تطلعي برغبة مراهق، يريد إثبات وجوده كمثقف حقيقي. لا أنكر ذلك، وحين تحاورت مع أحدهم، عن اعتقاد مسبق بأن بحيرة البجع أجمل موسيقى.
واحدة من آفاتنا الثقافية، تصوراتنا المثقلة بأحكام مسبقة، هي ليست أكثر من رغبات عاطفية. لكن الأمر يتسم ببعد لحني توثقت صلته بنا، ولا أدري كيف اخترع لي أحدهم أن موسيقى أغنية فيروز بنت الشلبية هي موسيقى بحيرة البجع. سأدرك لاحقًا أن ثقافتنا تكتظ بهذيانات لا صلة لها بالواقع، وهكذا تشكلت عوالمنا المضطربة وواقعنا المربك، ما بين هيمنة الدين وتشكل ملامح ثقافية وسياسية بروح الخرافة. لكنها أيضًا تماهت مع تصوري الخادع عن الموسيقى الأجمل، أو ما يمكن اعتباره اللحن الأجمل.
عدت إلى بيتهوفن ووجدت أربع سيمفونيات له في محل بالدائري مجاور للجامعة القديمة. وكذلك خمسة سيمفونيات لموزارت بينها سيمفونيتيه الأخيرتين. بعدها كنت أطلب من أبي أن يشتري لي موسيقى كلاسيكية. وبدأت علاقتي تتشكل بشكل حثيث بالموسيقى الكلاسيكية.
فالحقبة الرومانتيكية كانت أقرب لذائقتي، مثلًا متتالية شهرزاد للروسي رمسكي كورساكوف، وأوبرا كارمن للفرنسي جورج بيزيه. كانت هناك مقاطع رائجة لموسيقى كلاسيكية تحظى بشعبية يسهل تذوقها. وأعجبت بأعمال شوبان منذ الوهلة الأولى، كانت هناك مقاطع بولينيز وموزاريك ما زالت تثير إعجابي برقتها المشحونة بالعاطفة.
لكن بيتهوفن، أكثر عنفوانًا، وهناك سمات أخرى عقلانية تثيرها أعمال باخ وموزارت. حصلت أيضًا على باليه بحيرة البجع وكذلك الجمال النائم لتشايكوفسكي، ما زالت تحفل بمادة لحنية ثرية في التراث الإنساني، في مدخل المتتالية التي كانت ترتفع بحدة غير مألوفة لي، رغم لحنيتها البراقة. لكني لم أعثر على موسيقى بنت الشلبية التي اخترعها ذلك الشخص وصدقته. عشت كثيرًا من الأكاذيب، لاحقًا كنت أسخر من سذاجتي الدائمة على تصديقها. لكني تعلمت شيئًا واحدًا، دون التجربة لا يمكن الحصول على الواقع الحقيقي.
في وقت لاحق، طلبت من أبي موسيقى سترافنسكي، كانت معرفتي بالموسيقيين ملتصقة بالكتب وأردت بلورتها بشكل وثيق كواقع سماعي. حصلت على عمليه العظيمين؛ الربيع المقدس وبيتروتشكا، في رحلة له إلى الكويت. كانت هناك ألبومات مقحمة كذلك بين ما حصلت عليه تعود لياتي، وأخرى لموسيقى أندلسية، بينها عمل للفرنسي رافيل هو بيرلو. في المجمل، كنت أعاند محيطي بالاستماع لموسيقى كلاسيكية، بدت منفرة لهم. واحتفظت بعلاقة مع ياني يافعة، فما زالت صلتي مضطربة بالموسيقى، خليط من الجيد والرديء، من العظيم والضحل. وتلك هي حياتي المسقوفة بنسيج غير متجانس من الأشياء والرغبات والأفكار.
والأكيد أن عملية التذوق الموسيقي، ليست مسألة خاضعة للرهافة الحسية، أو التذوق التلقائي، فهناك خليط من الكلاسيكيات، ما نحبه لأول مرة، وما يحتاج ليقظة ملحة. وهكذا كنت، مهتاجًا بفضولي، قبل أن أكون مسلحًا بذائقتي المتآلفة مع هذا أو ذاك.
في رواية توماس مان "الدكتور فاوستوس" قرأت تحليلًا مبهرًا لسوناتا بيتهوفن الأخيرة رقم 32، وبصورة أخص حركتها الثانية التي صاغها بقالب الفوغة الأكثر تعقيدًا. لا أزعم أني أحببتها منذ اللحظة الأولى. عدتها مرارًا، حتى أصبح تكوينها العقلاني وبنيتها المتسمة بالجلال تحملني داخل عوالمها. لاحقًا سأستمع لموسيقى لا تحظى بشعبية، فن الفوغة لباخ. ما قيل عنها، أنها لا تهضم بسهولة، وتحتاج لأذن مثقفة موسيقية، دعونا من تلك الاعتبارات الخادعة عما هو مثقف أو من عدمه. إنها مسألة اعتياد، ومثابرة، حتى في تحديد ملامح ذائقتنا. في البدء، نكون موجهين حول سمات حددتها أحكام نخبوية، ثم مع الوقت تتشكل لدينا شخصية، وخصوصية، في الحكم على ما نحبه من عدمه. وما كان مبهرًا في الأمس، ربما أصبح كثيرًا لامتعاضنا. هذا الأمر وجدته مع ياني، ومع ألحان خلتها هي ذروة التعبير، وكم تبدو لي ساذجة اليوم أو عادية.
نحن مجموعة أشخاص لا نتكون دفعة واحدة، وكل ما أفرزته لنا السنوات هي حبكة مثيرة ومفيدة، مهما كانت تبعاتها، وبينما كنا نشعر بالأسف على خطيئتنا الأولى، خطيئة آدم، التي طردتنا من الجنة في هذه الحياة الفانية والمؤلمة، لكن بعد كثير من التجارب والتفكير، سنرى أنها القرار الأمثل، ولو عدنا مجددًا إلى الجنة سنقترف نفس الخطيئة، طالما كانت متاحة. وفي الموسيقى ربما هناك كثير من الخطايا ارتكبناها، أقصد في التقلب بين الجيد والرديء، لكن الموسيقى ليست خطيئة، إنها الشيء نفسه الذي وصفه مارادونا عن كرة القدم. وفي العقل جزء غرائزي لا يمكن التخلي عنه، أو أنه يصبح آلة منطق بلهاء، هكذا انقاد بيتهوفن الأصم لكتابة أعظم أعماله، بالعقل والغريزة. لأن مقولة سترافنسكي أن الموسيقى ذهن صرف، مجرد تصرف حداثي، ساهم في تدهور الفنون، وإن أنتج موسيقى وفنونًا عظيمة.