يمثّل التقسيم الطبقي للمجتمعات خللًا جوهريًّا في بنيتها ونظامها الاجتماعي وبنية مكوناتها النفسية، إذ يبنى عليه كثير من التفاصيل المشوهة لأخلاقياتها، والنتائج التي تجرح إنسانيتها وتترك فيها ندوبًا غائرة لا يمكن تجاوزها.
وككل المجتمعات التقليدية التي تقسم إلى طبقات، يُقسم المجتمع في اليمن إلى طبقات تراتبية، وكل طبقة من هذه الطبقات لها ظروف حياتها وعلاقاتها بمكوناتها وبالطبقات الأخرى، ولها وعيها بالحياة وتبعاتها، وهي علاقات لا يسودها التوازن والتكافؤ؛ إذ تنظر الطبقات العليا إلى الطبقات الدنيا نظرة دونية ملؤها التعالي والانتقاص، وهو ما يخلق تنافرًا حادًّا بين هذه الطبقات ويفسح المجال لأفراد الطبقات الأعلى للاستحواذ على المال والسلطة وفرص الحياة الكريمة، نتيجة للفقر والإقصاء.
لقد حاولت الطبقية، وهي تخلق هذه التراتبية، أن تجعلها تبدو حتمية غير قابلة للنقاش أو إعادة النظر، وعُزّز هذا الشعور الوعي الذهني لدى المجتمع الذي تم ترسيخه على مدى عقود طويلة.
والملاحظ أنّ هذا التقسيم لم يقتصر على التقسيم الاجتماعي من زاوية محدودة، بل تجاوزها إلى تفاصيل كثيرة؛ فمثلًا تم تقسيم المهن تقسيمًا طبقيًّا، إذ غدا كلُّ عملٍ من الأعمال التي يزاولها المجتمع مرتبطًا بطبقة معينة دون غيرها، فليس أي عمل يكون صالحًا لكل الطبقات، بل يكون صالحًا للأداء من قبل أفراد طبقة بعينها، وتم تعزيز فكرة الاحتقار لعناصر الطبقات التي تؤدّي هذه المهن، ومِن ثَمّ الاحتقار لهذه المهن ذاتها بشكلٍ فارز.
لقد خلق هذا الفرز تصنيفًا في الوعي لدى الأفراد في كل طبقة، وبدا هذا الفرز كما لو أنه قانون ملزم لهم، ومن ثَمّ استتبعه نسق ثقافي ظاهر وآخر مضمر، يبدو الأول راسخًا وقارًّا يشير إلى كمال أفراد الطبقات الأعلى ونقص أفراد الطبقات الأدنى اجتماعيًّا، ويبدو الثاني متحولًا ومتناقضًا وغير قادر على التجاوز، ملؤه الرفض والوعي باختلال محتوى النسق الظاهر الفارز.
وبناء على هذه التصنيفات النسقية، فإنّ الطبقية تعمل على تعزيز الوعي بالإقصاء والتنافر وتكثيف حالة النفور بين أفراد الطبقات، ومِن ثَمّ النفور لديهم من معظم المهن التي أثبتت أنّها حكر على طبقات بعينها دون غيرها.
لقد عمد قانون الطبقية، بشكلها القائم، إلى توزيع المهن بحسب الطبقات، وترسيخ فكرة احتقار المهن بناء على احتقار الطبقات نفسها من قبل الطبقات الأخرى، وهو ما جعل معظم المهن الخدمية تبدو محتقرة لدى أفراد المجتمع، كالحدادة والحلاقة والجزارة... إلخ، واستتبع ذلك تفضيل معظم أفراد المجتمع البقاءَ دون عمل على أن يعملوا في هذه المهن المحتقرة، برغم ما تدرّه من منافع مالية -كثيرة أو قليلة- على أصحابها.
إنّ الطبقية -بناء عليه- تسهم في خلق مشكلة عويصة في المجتمع، وتكثّف حالة البطالة بين أفراده، بل تفاقم منها في ظلّ ظروف صعبة شحنتها الحرب بالفقر الحادّ والعوز والحاجة، وبرغم ذلك لم يستطع أحد أن يكسر حدة ما فرضته وما تفرضه منذ زمن طويل برغم الحاجة.
إنّ الطبقية لا تخلق شرخًا في المجتمع فحسب، بل تؤثر في كل تفاصيله من حيث الاندماج والتزاوج والعمل والألفة، ومن الغريب أنّ داخل كل طبقة طبقات أيضًا، فمعظم مكونات كل طبقة لا تتجانس فيما بينها، وتعاني عزلة أيضًا بين مكوناتها ذاتها، إذ ليس كل حلاق يماثل الآخر في مكانته مثلًا، ولا كل جزار يماثل الآخر، إنّها نزعة مركبة ناتجة عن التقسيم الطبقي أولًا، ومِن ثَمّ ناتجة عن تقسيم فئات كل طبقة ونظرة كل فرد من أفراد هذه الطبقة إلى أفراد طبقته، وذلك كله حصيلة وعي ثقافي تم ترسيخه على مدى مئات السنين من قبل فئة تعمّدت ذلك لتستطيع السيطرة على المجتمع وتسخير قدراته وجعل الطبقات الأدنى خادمة للطبقات الأعلى، اجتماعيًّا وماديًّا ومعنويًّا.
الطبقية معضلة اجتماعية شديدة الخطورة في حال استمرارها، معضلة على صعيد الوعي، وعلى صعيد التفكير، وعلى صعيد البناء الاقتصادي للمجتمع، وهو ما يتطلب وضع استراتيجية لتفكيكها، وتفكيك ما يتعلق بها من وعي وثقافة حتى تزول.
إنّ الطبقية حالة وعي حادّ لدى فئات المجتمع ذاته تم ترسيخها ذهنيًّا لديه بالفعل والقوة حتى آمن بها، وغدت قانونًا مسيطرًا، حتى صار من المستحيل إعادة النظر فيها، بل من المستحيل إعادة النظر فيها دون وضع خطط استراتيجية تسعى إلى تذويب ما تم ترسيخه وتفكيكه، ومِن ثَمّ القضاء عليه.
وبذلك فإنّ الطبقية المقصودة هنا ليست هي الطبقية المتعارف عليها في سائر بقاع العالم تقريبًا، إنها مبنية بِحِرَفيّة متقنة من قبل من هندس أدبيّاتها وأسقطها على المجتمع في اليمن، الذي لم يكن ينظر إلى مكوناته نظرة طبقيّة على مرّ التاريخ، ولم يكن يحتقر المهن في أيّ يوم من الأيام، كما تثبت ذلك حضاراته الممتدة منذ القدم، وهي حضارات كانت قائمة على احترام المهن والإعلاء من قيمتها ومن قيمة العاملين، بل كان يُنظر إليها نظرة مقدسة باعتبارها مصدرًا من أهم مصادر إغناء المجتمع وسعادته والقضاء على البطالة فيه.
لم تعد الإشكالية في التقسيم الطبقي أو حتى في احتقار المهن أو في كون ذلك شكلًا من أشكال التمييز، بل تكمن الإشكالية في كون المجتمع يؤمن بها ويعتبرها حتمية لا يمكن إعادة النظر فيها، بل صار ينظر إليها بوصفها مسلَّمة من مسلَّمات شتى، وصار هو الذي يصنف مكوناته وهو الذي يحتقرها ويحط من قدرها.
إنّ الطبقية معضلة اجتماعية شديدة الخطورة في حال استمرارها، معضلة على صعيد الوعي، وعلى صعيد التفكير، وعلى صعيد البناء الاقتصادي للمجتمع، وهو ما يتطلب وضع استراتيجية لتفكيكها، وتفكيك ما يتعلق بها من وعي وثقافة حتى تزول.