إعادة قراءة التاريخ عملية مستمرة ومتجددة، لا ينتهي البحث فيها إلى قولٍ فَصْل يُغْلَق بموجبه ملف قضية أو سيرة شخصية سياسية أو فترة تاريخية. تستمر هذه العملية لأن البحث في التاريخ لا يتعامل مع الأحداث التاريخية في حد ذاتها كوقائع متعينة، وإنما يتعامل مع رِوَايَة الأحداث، وسواء أكانت مادةُ الأحداث رواياتٍ شفاهيةً تَنُوقِلتْ ثم دُوِّنتْ أو وثائقَ مكتوبةً صاحبت الحَدَث، فجميعها تخضع لتوجهات رواتها وكُتَّابها والزوايا التي ينظرون منها إلى الأحداث. ولذلك، قد تتعدد الروايات وتختلف وتتناقض مما يدفع الدارسين، على اختلاف أجيالهم، إلى معالجة الموضوعات ذاتها، يحدوهم الأمل إلى إجابة الأسئلة التي لا تزال معلقة وإعادة ترميم الحدث التاريخي بالالتفات إلى ما همَّشه الدارسون السابقون وأغفلوه أو عبر اكتشاف روايات ووثائق جديدة. كما تتجدد عملية إعادة قراءة التاريخ بفضل ما يحدث داخل هذا الحقل العلمي من تطوير لمناهجه وأدواته أو توظيف منظورات جديدة تسهم في إعادة تقليب صفحات التاريخ وإنتاج قراءات جديدة.
من هذه الزاوية، يأتي الكتاب الجديد للمؤرخ والأكاديمي العراقي سَيَّار الجَمِيل في إعادة قراءة لتاريخ فيصل الأول وسيرته السياسية ضمن المواقع التي شغلها، بدايةً بتوليه القيادة العسكرية للثورة العربية ضد الأتراك التي أسفر نجاحها عن توليه حُكْم سوريا، وانتهاء باختياره ملكًا على العراق. وعلى الرغم من أن تجربة فيصل الأول قد خضعت للبحث والدراسة على امتداد ثمانية عقود، فإنها –كما يصرح الجميل– ظلتْ موضوعًا أثيرًا لديه ويتحين الفرصة لتقديم دراسة وافية عن فيصل الأول وعهده السياسي. صدر الكتاب عن مركز دراسات الوحدة العربية بعنوان: "الملك فيصل الأول (1883 – 1933): أدواره التاريخية ومشروعاته النهضوية"، وموضوعه يندرج ضمن دائرة الاهتمام البحثي للدكتور الجميل في دراسة تكوين العرب الحديث وفجر النهضة العربية الحديثة، أنجز خلال الثلاثة العقود الماضية ما يزيد على عشرين كتابًا وأوراقًا بحثية كثيرة دار معظمها حول الأزمنة المبكرة من التاريخ العربي الحديث. من أبرز كتبه "بقايا وجذور: التكوين العربي الحديث" (1997)، و"زعماء وأفندية: الباشوات العثمانيون والنهضويون العرب" (1999)، و"العَثْمَنَة الجديدة" (2015)، و"تحولات الأزمنة: رؤية عربية للتحقيب التاريخي" (2017).
يصدر كتاب الجميل بعد مرور أكثر من 100 عام على تولي فيصل بن الحسين عرش العراق في 23 أغسطس 1921، وتوقيت صدوره يبدو وكأنه نوع من الاحتفاء بالذكرى المئوية لتلك المناسبة. ولا يَنِي المؤلف في فصول كتابه عن التأكيد على أهمية أدوار فيصل وما لها من جاذبية خاصة، ترتد في جانب منها إلى موقع هذه الفترة المهمة من تاريخ العرب الحديث، وفي جانبها الآخر إلى تجربته بصفته شخصية سياسية جاءت في مرحلةٍ طابعُها العام التفكك والتحوُّل والتشكل، فانطبع كل ذلك في سيرته التي يسترجعها بوصفها «قصة غنية ومشوقة ومتنوعة ومعقدة وغاية في الإثارة والتعدد والصور والألوان» (ص39).
لمَّا تولَّى والده إمارة مكة أخذ يكلفه ببعض المهام، فتدرب على الاشتراك في المواجهات العسكرية وقيادتها، مشاركًا لوالده وأخيه عبد الله وأُسْندتْ إليه قيادة بعضها، كما عمل مبعوثًا وسفيرًا لوالده. حين توثَّق الشريف حسين من دعم الحكومة البريطانية، أعلن الثورة على حكومة الاتحاديين العثمانية، ودفع بفيصل إلى قيادتها عسكريًّا وأخذتْ تتوالى انتصاراتها حتى دخوله دمشق في أكتوبر 1918.
النشأة والعرش
تضمن الكتاب مقدمة واثني عشر فصلًا وخاتمة وقائمة مراجع، توزعت على 430 صفحة من القطع المتوسط. جاءت الفصول متوازنةً في تمثيلها لتاريخ فيصل الأول، فتحت عنوان "التكوين: تاريخ حكاية فيصل"، قدم المؤلف سردًا موجزًا لتاريخ سلالته "الأشراف" التي تعاقب أبناؤها على حكم مكة قرونًا عديدة، مبتدئًا حكاية فيصل بالميلاد والنشأة، فهو الابن الثالث للشريف الحسين بن علي (1854 – 1931) أمير مكة عام 1908 ثم ملك الحجاز لاحقًا (1916 – 1925). وُلِد فيصل بمكة في عام 1883، وبين عامي 1891 و1908 حلَّ والده والعائلة ضيوفًا على السلطان عبدالحميد الثاني في إسطنبول، وهناك التحق بإحدى مدارسها المرموقة واكتسب المعارف الحديثة باللغة التركية وأجاد استخدامها.
لمَّا تولَّى والده إمارة مكة أخذ يكلفه ببعض المهام، فتدرب على الاشتراك في المواجهات العسكرية وقيادتها مشاركًا لوالده وأخيه عبدالله، وأُسْندتْ إليه قيادة بعضها، كما عمل مبعوثًا وسفيرًا لوالده. حين توثَّق الشريف حسين من دعم الحكومة البريطانية، أعلن الثورة على حكومة الاتحاديين العثمانية ودفع بفيصل إلى قيادتها عسكريًّا، وأخذتْ تتوالى انتصاراتها حتى دخوله دمشق في أكتوبر 1918. مثَّل فيصل الأول العربَ في مؤتمر فرساي يناير 1919 أثناء توليه حكم سورية، وما لبث حلم الاستقلال أن تبخَّر مع اقتحام القوات الفرنسية دمشق في يوليو 1920 واضعةً بلاد الشام تحت قبضة الاحتلال. وفي العام التالي نُصِّب فيصل ملكًا على العراق واستمر حتى وفاته عام 1933.
مما سبق يَظْهَر أن سيرة فيصل السياسية كانت قصيرة بالكاد تجاوزت عقدًا ونصف من الزمن، غير أنها كانت مليئةً بالطموحات والأحلام، خاصةً في محطتها الأولى حين تسلَّم القيادة العسكرية للثورة في الحجاز، وصولًا إلى حكم سورية الذي امتد قرابة عامين من 1918 إلى 1920. ينظر المؤلف إلى الثورة العربية الكبرى التي انطلقت من مكة في مطلع يونيو 1916 بوصفها نقطةَ تحوُّل تاريخي في التاريخ العربي الحديث، ومثَّلتْ ترجمةً عملية لفكرة "العروبة" التي تبلَّوَرتْ في المؤتمر العربي في باريس عام 1913 لمواجهة سياسة "التتريك" التي اختطتها حكومة الاتحاديين العثمانية، وإقامة كيان عربي موحَّد يكون مركزه دمشق، ويضم العراق والشام وأجزاء من الجزيرة العربية (ص71–73).
غير أن هذه التجربة سرعان ما تعثرت لأسباب عديدة، أبرزها ما كان يُضْمره الاستعمار الغربي من أطماع للاستحواذ على ميراث الإمبراطورية العثمانية بعد هزيمتها في الحرب العالمية الأولى مسنودًا بجيوش منظمة وسلاح حديث وقدرات اقتصادية ضخمة، يقابله افتقار العرب الشديد إلى التنظيم والمال والسلاح، فبدا الأمر كما لو أنهم كانوا مجرد أدواتٍ استَغَلَّتْ بريطانيا حماستهم تحت مسمى الخلاص من اضطهاد الاتحاديين العثمانيين ثم تنكَّرتْ للوعود التي قطعتها لهم.
ينظر المؤلف إلى الثورة العربية الكبرى التي انطلقت من مكة في مطلع يونيو 1916، بوصفها نقطةَ تحوُّل تاريخي في التاريخ العربي الحديث، ومثَّلتْ ترجمةً عملية لفكرة "العروبة" التي تبلَّوَرتْ في المؤتمر العربي في باريس عام 1913 لمواجهة سياسة "التتريك" التي اختطتها حكومة الاتحاديين العثمانية وإقامة كيان عربي موحَّد، يكون مركزه دمشق، ويضم العراق والشام وأجزاء من الجزيرة العربية.
الثورة العربية الكبرى والأجندة الغربية
يتوقف المؤلف في الفصول الأولى عند عدد من القضايا والمواقف التي أُخِذَتْ على فيصل الأول، مثل توقيعه اتفاقية "فيصل- وايزمان" وعلاقته بمبعوثي الحكومة البريطانية ومندوبيها. حين يتناول المؤلف بروز فيصل الأول كزعيم سياسي، يَظْهَرُ المبعوثُ الإنجليزي توماس لورانس في خلفية الصورة مثل شَبَحٍ يحاول المؤلفُ إزاحته، ودعا في بداية الكتاب إلى ضرورة وضع لورانس في حجمه الطبيعي وكشف الحقيقة حول طبيعة الخدمات التي أداها للثورة العربية بعيدًا عن الصورة البطولية التي كرَّسها لورانس لنفسه في مذكراته "أعمدة الحكمة السبعة"، وما أضفاه عليها الإعلام الغربي من ملمح أسطوري على نحو ما ظهر في فيلم "لورانس العرب" (ص31). لكنه لم يسعَ إلى تقييم دقيق للمسألة من خلال مقابلة ادعاءات لورانس بما تحمله الوثائق والمذكرات العربية من معلومات، واكتفى بالقول إن ما اطَّلَعَ عليه من وثائق تكشف أن دور لورانس لم يكن يزيد على رابط اتصال لنقل الدعم البريطاني إلى فيصل بن الحسين، أما رسم الخطط واستراتيجيات المعارك فكان يقوم بها فيصل شخصيًّا يساعده في ذلك نخبة من الضباط والقادة العراقيين والعرب (ص153).
ضمن محور هذه العلاقة الملتبسة بالغرب الاستعماري، ناقش المؤلف مسألة اختيار فيصل لعرش العراق وقلَّبَها على وجوه عدة، ففي البداية ينفي ما ردَّدَه بعض المؤرخين من أن فيصل الأول لم يكن سوى صنيعةٍ إنجليزية، محاولًا تدعيم أطروحة بديلة ترى أن توليه العرش كان خيارًا عراقيًّا مُرْجِعًا اختياره إلى أدواره البطولية في الثورة وحكم سوريا، ونتيجة لمطالبة أعيان العراق الشريف حسين ترشيح أحد أنجاله لحكم العراق، فاختار لهم فيصلًا. وفي موضع آخر يرى أن البريطانيين وجدوا في فيصل المرشح المناسب لتولي عرش العراق، ويرجِّح أن اختياره كان أيضًا "نكايةً بريطانية بالفرنسيين" الذين اقتحموا دمشق في معركة ميسلون الدامية، وقاموا بنفي فيصل من سورية، مؤكدًا أنه «كان من المستحيل أن يستلم أحدٌ الحكمَ في العراق أو سورية دون تزكية ودعم من فرنسا وبريطانيا اللتين استلمتا تركة تركيا» (ص216).
يورد المؤلف جملةً من الوثائق، منها تلك التي تذكر أن البريطانيين عقدوا مؤتمرًا في القاهرة برئاسة وزير المستعمرات تشرشل في مارس 1921، حسموا فيه اختيار فيصل لحكم العراق، بينما كان وصول الوفد العراقي إلى مكة واختيار الشريف حسين ابنه فيصل لحكم العراق في يونيو 1921، أي بعد مؤتمر القاهرة بثلاثة أشهر، فالفارق الزمني بين مؤتمر القاهرة ووصول الوفد مكة لا يخدم مقولة المؤلف إن فيصلًا كان خيارًا عراقيًّا خالصًا، بل يشي بغير ذلك. ومع ذلك، فمن المرجح أن اختيار فيصل لتولي العرش كان راجعًا في جانب منه إلى أدواره السابقة ومرونته، كما كان في جانبه الآخر مخرجًا ضروريًّا لبريطانيا نتيجة لما تكبَّدته من خسائر في ثورة العشرين العراقية عام 1920. ومن هذه الناحية، يمكن القول إن الشعب العراقي بثورته الرافضة للاحتلال هو الذي فرض على بريطانيا بشكلٍ غير مباشر هذه الصيغة من الحكم التي جاء على رأسها فيصل بن الحسين ملكًا للعراق.
لا يكاد يبتعد المؤلف كثيرًا عما يجري في العراق اليوم، إذ تبدو قراءته لعهد فيصل الأول نوعًا من الالتحام بالواقع المعاصر، ويتبدى ذلك مثلًا في إرجاعه حالات القصور في تجربة فيصل الأول إلى طبيعة تركيبة العراق السُّكانية المتعددة وما كانت تشهده آنذاك من انقسامات دينية ومذهبية وقيمية لا تزال تلقي بظلالها حتى اليوم.
تكوين الدولة الوطنية
جاءت فصول الكتاب الأخيرة تمثيلًا للمرحلة العراقية في تجربة فيصل السياسية، مهَّد المؤلف لذلك بفصلين، فخصص الفصل السادس للنخبة الشريفية، وهم القادة والسياسيون من العراقيين والعرب الذين التحقوا بفيصل الأول أثناء الثورة، وعملوا معه خلال فترة حكومته في سورية ثم العراق، وتناول في الفصل السابع مؤتمر القاهرة واختيار فيصل لتولي عرش العراق. وقد أدار الفصول الخمسة التالية حول تكوين العراق من النواحي السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية.
يرى المؤلف أن عهد فيصل الأول (1921 – 1933) مرحلة مهمة في بناء العراق المعاصر وتكوينه السياسي، ويتخذ حديثه في التدليل على تلك الأهمية بُعدًا يقوم على المقارنة من مستويين: تزامني وتعاقبي. على المستوى التزامني ينظر إلى تأسيس دولة العراق في موازاة الدول الصاعدة في الإقليم آنذاك: مصر وتركيا، ففي الوقت الذي تحوَّلتْ فيه مصر إلى مملكة مطلع القرن العشرين كان قد مضى على حداثتها أكثر من مئة عام، وكذلك كان حال جمهورية تركيا الوليدة التي ورثت إمبراطورية لها مؤسساتها ومرافقها وهيئتها الاجتماعية. في حين أن العراق كاسم جامع للعراقيين لم يكن له وجود قبل ذلك، فقد كان مقُسَّمًا إلى ثلاث ولايات عثمانية، ولم يكن يمتلك أيّ مقومات وحدة داخلية اجتماعية وسياسية، وليس لديه مؤسسات وجهاز إداري، فالإنجاز الحقيقي لفيصل الأول أنه جاء إلى العراق «ليؤسس كيانًا وطنيًّا لم يكن له وجود، ويجمع شتات مجتمع ويقوده في غضون عشر سنوات فقط، ويبني له قوته، وينظم مجتمعه، ويحقق له استقلاله وينجح بمشروعاته» (ص334). وأما على المستوى التعاقبي فيقدم المؤلف نظرة تقييمية خاطفة لحكام العراق، بدءًا من إصلاحات حاكم ولاية بغداد مدحت باشا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وحكام المملكة، ومرورًا بحكام العهد الجمهوري، وانتهاء بحكومات ما بعد الاحتلال الأمريكي، ليصل إلى نتيجة أن فيصل الأول هو «الحاكم الوحيد الذي حمل للعراق مشروع بناء دولة وتحديث مجتمع من بين كل الحكام الذين حكموا العراق» (ص333).
لا يكاد يبتعد المؤلف كثيرًا عما يجري في العراق اليوم، إذ تبدو قراءته لعهد فيصل الأول نوعًا من الالتحام بالواقع المعاصر، ويتبدَّى ذلك مثلًا في إرجاعه حالات القصور في تجربة فيصل الأول إلى طبيعة تركيبة العراق السُّكانية المتعددة، وما كانت تشهده آنذاك من انقسامات دينية ومذهبية وقيمية لا تزال تلقي بظلالها حتى اليوم. يصف الجميل المجتمعَ العراقي أنه "أصعب شعوب الدنيا"، ولا بد لمن يحكمهم أن يتأهل طويلًا ليتمكَّن من ممارسة دوره السياسي والإنساني. لقد كانت التركيبة السكانية إحدى أهم مشكلتين واجهتا فيصل الأول، وحاول الرجل برؤيته الثاقبة الإسراع في معالجتها بالعمل على الجمع بين كل تنوعات المجتمع وأطيافه، فما يحتاج إليه «كل زعيم يحكم العراق هو التجرد من كل نزوعاته وانتماءاته وارتباطاته ليكون رمزًا للجميع [...]، ولقد توافر ذلك إلى حد كبير في فيصل الأول وَحْدَه» (ص332).
المشكلة الأخرى هي علاقة العراق بدول الجوار، وترتبط بالمشكلة الأولى من ناحية التداخل الاجتماعي والمذهبي بين مكونات النسيج العراقي ومحيطه الإقليمي. وقد ظلت هذه العلاقة ولا تزال تمثل قلقًا للعراق واستنزافًا لقدراته وزعزعة لاستقراره جراء التدخلات التي تمارسها بعض دول الإقليم التي تتحرك وفقًا لأجندات قديمة وتاريخية تبرر بها تدخلاتها. ويشيد المؤلف بفطنة فيصل الأول، فقد تنبَّه منذ البداية إلى أن الخطر الذي يتهدّد العراق والعراقيين يكمن في هذا المحيط المتربص، فسارع إلى عقد الاتفاقيات وتحويط البلاد من هذا الخطر الداهم.
يتضمن كتاب الجَمِيْل عشرات المحاور والعناوين الفرعية ويحفل بسِيَر موجزة للعديد من السياسيين والعسكريين والمصلحين من العرب والعراقيين الذين استعان بهم فيصل الأول، وعملوا تحت إدارته في مواقع عديدة لبناء الجهاز الإداري والمؤسسات المختلفة. لا شك أن الكتاب يمثل إضافة مهمة لما تراكم من دراسات حول عهد فيصل الأول وسيرته الشخصية والسياسية، فهو أشبه بمَكْنَز في كل ما يتصل بتجربة فيصل الأول، ومؤلفه صاحب قلم سَيَّال ومتدفق، أورد تقريبًا معظم الحوادث والقضايا والمذكرات واستوعبها تفصيلًا ورأيًا واستنتاجًا. وهذا ما جعله يشتبك بشدة مع الكتابات السابقة، فهو يتعقَّب الآراء والأحكام والمقولات في متن الكتاب وهوامشه استحسانًا أو تأييدًا أو رفضًا مدعِّمًا ذلك بالشواهد والوثائق التي لم تصل إليها أقلامُ المؤرخين السابقين أو تغافلتْ عنها أو أساءت توظيفها بغية وصم صنّاع تلك الفترة والتقليل من حجم ما أنجزوه.
لا غرو أن الاشتباك مع الكتابات السابقة قد جعل الكتاب ينحو في جانب منه منحى سجاليًّا في إعادة قراءة ذلك التاريخ وتقليب صفحاته. والمنحى السجالي قد يكون له آثاره على عملية الكتابة، فقد تصبح حركة الكاتب مؤطرة بالقضايا والمشكلات التي أثارها الكُتَّاب السابقون ومقيدة بالآفاق التي ارتادوها، وقد يغدو الكتاب كما لو كان مجرد حوارٍ بين الكاتب والمؤلفين السابقين. وعلى الرغم من أن كتاب الجميل قد خلا إلى حدٍّ ما من هذا الأثر، فإنه لم يسْلَم من بعض تبعات السِّجَال، فَطَالَ بعض فصوله تكرارَ المعلومات والآراء جراء إثارة القضية الواحدة في مواضع مختلفة وصلًا للسياقات التي تقتضي الإعادة والشرح والتفصيل.