حقّقت الصين، برعايتها الاتفاق السعودي-الإيراني، اختراقًا سياسيًّا مهمًّا في منطقة الشرق الأوسط. وإذا تمكّنت الصين أن تضمن نجاح الاتفاقية، التي تقتضي إعادة العلاقات الدبلوماسية المقطوعة منذ 2016، فبالتالي سينتج احتواء أكثر الأزمات تعقيدًا في المنطقة، وتهديدًا لأمنها واستقرارها. فإنّها تُعلن عن تأثيرها كقوة سياسية على المسرح الدولي، وما ستلعبه من دور سياسي في الفترة المقبلة.
علاوة على ذلك، تتحرك الصين في غرب آسيا، للتقريب بين بلدين يتمتعان باحتياطيٍّ نفطيٍّ وغازيٍّ كبير. وهو ما يُعزّز استراتيجيتها في تأمين احتياجاتها من الطاقة في المستقبل. وكذلك يعزّز سمعة الصين كقوة سياسية موثوقة يمكن الاعتماد عليها لحلّ الخلافات في المنطقة. وهذا بدوره لا يفتح المنطقة لها فقط، إنّما يُعزّز حضورها السياسي في مناطق أخرى حول العالم.
وستدفع (بكين) بكلِّ إمكانياتها لإنجاح هذا الاتفاق، ولديها كلّ الضمانات لذلك. فعلى صعيد علاقتها مع إيران، تمتلك أدوات ناعمة للتأثير والضغط عليها. وتشكّل الصين منفذًا اقتصاديًّا لطهران في وجه العقوبات الاقتصادية العالمية، كما أنّ البلدين سبق أن وقّعتا اتفاقية اقتصادية بموجبها ستستثمر بكين 500 مليار دولار في النفط والغاز الإيراني والبنية التحتية والاقتصادية.
gيس هناك أمام واشنطن سوى أن تعمل على إيقاف القطار الصيني الذي يتقدم بسلاسة مفزعة. لكن من المستبعد تمامًا حدوث صدام مباشر، ليس فقط لأن الصين قوة نووية، إنما قوتها الاقتصادية التي يمكنها إحداث زلزال في العالم.
وكما يبدو، لن يكون بمقدور طهران الاستغناء عن شراكتها السياسية والاقتصادية مع الصين. ما لم يعنِ ذلك، اختيارها الغرب كحليف استراتيجي، وبالتالي الامتثال لمطالب. وهناك عامل مهم ساهم في موافقة إيران على توقيع الاتفاقية، وقبول الشروط السعودية، منها عدم تسليح جماعة الحوثي. فالحكومة الإيرانية عانت مؤخرًا من موجة احتجاجات شعبية عمت المدن الإيرانية. ويحتاج النظام إلى إغلاق ملف الصراع مع السعودية، من أجل الالتفات إلى الشأن الداخلي. إضافة إلى ما تعرضت له من سلسلة هجمات غامضة، استهدفت منشآت حيوية عسكرية ومدنية. فضلًا عن وجود شكوك في أن يكون لإسرائيل يد مباشرة في تلك الهجمات، وهو ما أكدته صحف إسرائيلية.
لكن بالمجمل، ترغب إيران في إغلاق واحدة من الجبهات الإقليمية الخطيرة، للتعامل مع تهديدات إسرائيل التي لم تُخفِ عزمها على توجيه ضربة للمنشآت النووية الإيرانية.
الخروج ومحو الأثر
من جانبها، تسعى السعودية لإغلاق هذا الملف، بما في ذلك إنهاء الصراع في اليمن، إذ ستستخدم إيران نفوذها على "الحوثيين" لدفعهم إلى توقيع اتفاقية سلام مع الرياض. وكما يبدو، أنّها ستكون اتفاقية ثنائية بين الطرفين، بموجبها ستترك الرياض الصراع اليمني المحتدم منذ ثماني سنوات ليكون فقط شأنًا يمنيًّا خالصًا؛ أي إنّ السعودية ترغب في الخروج من الصراع اليمني بعد أن ضمنت عدم وجود أصوات يمنية فاعلة على الأرض تدينها في التدخل العسكري، لتبقيها حربًا يمنية خالصة؛ وبالتالي محو أي أثر لتدخلها العسكري.
لن تكتفي الصين بأن تكون محور اتفاقٍ سعودي-إيراني، بل أيضًا سيكون لها حضور مباشر في التأثير على الصراع في اليمن. وبالتالي، تؤكّد حضورها السياسي الفعّال في تعزيز السلام والاستقرار في مناطق النزاعات الشائكة، وهذا يعكس طموحها السياسي في المستقبل، بالرغم من بقاء السؤال الذي يطرح نفسه: كيف يمكنها إحداث اختراقات في مناطق نفوذ مغلقة للولايات المتحدة الأمريكية؟ الأمر قد يدفعها لتقدم نفسها في دور إيجابي، خلافًا للدور الأمريكي الذي تورط في كثير من النزاعات، والتدخلات العسكرية.
وتتخذ في سبيل ذلك خطوات تدريجية، وفي لحظة ينشغل الغرب بالصراع الروسي-الأوكراني. وهو صراع يستنزف -إضافة إلى روسيا- القوى الأوروبية، ولن تنجو من تبعاته الولايات المتحدة الأمريكية، خصوصًا على الصعيد الاقتصادي.
عندما توجد قوة مركزية رئيسية في العالم، فإنّ كل قوة صاعدة تبدأ منافستها بالتطاول على مناطق نفوذ تقليدية. فهل يُعدّ الشرق الأوسط، كونه منطقة تنافس تقليدية بين القوى العظمى، مجالًا حيويًّا لتعلن بكين عن طموحها السياسي.
من وجهة نظري، ارتكبت واشنطن خطأً استراتيجيًّا في الشرق الأوسط، عندما أرادت تغيير القواعد الراسخة التي تولدت في المنطقة منذ الحرب العالمية الثانية؛ أي إعادة تحريك الأحجار على رقعة اضطرابات. كانت حرب الخليج، حركة انتشاء تاريخية أعلنت فيها واشنطن سيادتها الكلية على العالم. ولم تأبه لوجود دولة مارقة مثّلها النظام الإيراني، إنما منحته فرصة مجانية لوضع سيطرته على العراق. عقب ذلك مقولات تاريخية، تتغنى بشرق أوسط جديد، لا مكان فيه سوى للديمقراطيات.
على الورق، حرك هذا الإعلان آمالًا عريضة بالنسبة لشرائح تتوق لحريات أوسع. لكنه مع الوقت، أفزع حلفاء تقليديين في المنطقة، بما في ذلك واحد من أهم حلفائها؛ أي النظام السعودي. كان بمقدور واشنطن تصور العالم بأنه رقعة واسعة بمقدورها أن تحرك أحجاره كيفما شاءت. وكل قوة عظمى تعيش مخاوف الركون إلى حدود جامدة لنفوذها؛ لأنّها مع الوقت تصبح قابلة للانكماش. وحتى لا تخوض مزيدًا من الصراعات، وجدت في الشعارات راية لتغلغلها الجديد لإزالة خطر المنافسة من أمامها.
كما يبدو، السعودية تقبّلت وجود لاعب منافس لها في اليمن؛ وهذا أيضًا ينم عن مخاطر مستقبلية، ولا يمكن لها أن تأمن التطلعات الإيرانية، فنظامها الحاكم سيرجئ أهدافه متنظرًا الفرص السانحة.
ولدى واشنطن أيضًا ما يجعلها تؤمن بأنّها تمتلك قوة الحق، لأنّها تحمل قيمًا عظيمة مثل الحريات والديمقراطية، وتعبيرًا عن دولة المساواة. لكن قواعد الفوز في لعبة سياسية، لا يقوم دائمًا على تلك المعاني، إنّما على سياسات واقعية. وبينما تصوّرت القوة المتفردة أنّ العالم الجديد مساحة لإلغاء الحدود وفق مفاهيمها القيمية الجديدة، بما في ذلك حركة الحقوق الواسعة التي تهدف لمنح الأقليات إعادة اعتبار إنسانيّ وسياسيّ وثقافيّ. وقواعد الفوز في السياسة، لا تقيمه الشعارات إنما الواقعية المحضة.
خطوات قادمة مرتقبة
ما يميز القوى الصاعدة، أنّها تعرف كيف تقتنص فرصها، وتعرف الطرق المناسبة للإعلان عن طموحها السياسي. وبما أنّ الصين ما زالت محصورة في حدودها الإقليمية، أي بحر الصين الجنوبي، يشكّل لها الشرق الأوسط قاعدة جيوسياسية مهمة لتبني عليه طموحها السياسي خلال الفترة القادمة. لكنها تأتيه بأدوات ناعمة، لتؤكد أنها القوة العالمية المناسبة التي بمقدورها أن تملأ فراغًا تتركه السياسات الأمريكية في العالم.
وكما يبدو، أنّ الصين كانت تنتظر فرصتها بصبر، وواقعية، ولم تتعجّل في النفاذ من الفراغ الذي تخلفه وراءها السياسات الأمريكية؛ لأنّها كقوة عظمى -خلافًا لفترة الحرب الباردة- كانت تتصرف متخففة من حمولة التاريخ، لكنها الآن مثل كل قوة عظمى؛ مع الوقت تعاني من تاريخها نفسه.
ليس هناك أمام واشنطن سوى أن تعمل على إيقاف القطار الصيني الذي يتقدّم بسلاسة مفزعة. لكن من المستبعد تمامًا حدوث صدام مباشر، ليس فقط لأنّ الصين قوة نووية، إنّما قوتها الاقتصادية التي يمكنها إحداث زلزال في العالم. كما أن وجود نزاع نووي سيكون كارثة على الوجود البشري.
ما يثير التساؤل: هل ستتقبل أمريكا هذا الوضع، وستسمح للصين بأن تحدث اختراقًا في مجال حيوي لها، وفي أغنى منطقة بالاحتياطيات النفطية؟ بالتأكيد لا. لكن براعة الصين في إيجاد ثغرة أخلاقية، بموجبها استطاعت التسلل؛ هل سيعني ذلك، أن تدعم الولايات المتحدة فكرة التدخل العسكري في إيران؟
هل ستمر الخطوة السعودية دون عقاب مستقبلي؟ من ناحيته قال المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية، نيد برايس، أنّ بلاده دعمت هذه العملية في كل خطوة، ما يعني أنّ الولايات المتحدة كانت على اطلاع بمجرى المفاوضات ودور الصين.
تثير الاتفاقية كثيرًا من التساؤلات، بما في ذلك ما إن كانت الولايات المتحدة ترى في الاتفاقية، فرصةً ذهبية لتوجيه ضربة عسكرية لإيران، بحيث تجنب السعودية تبعات أي صراع؛ وبالتالي تحد من التهديدات الإيرانية المحتملة على إمدادات النفط العالمية.
لن يتوقف الأمر عند حدود الاتفاق السعودي الإيراني بالنسبة للصين، إذ من المتوقع أن تقوم بعملية تطبيع واسعة في المنطقة، بموجبه سيستعيد نظام بشار الأسد علاقته مع دول المنطقة، على رأسها السعودية.
وبصرف النظر عن ذلك، لا خلاف أن وجود دور صيني في المنطقة، يثير انزعاج أمريكا. وصمود الاتفاق السعودي-الإيراني، سيعني الكثير بالنسبة لمستقبل دور بكين في العالم. كما أنه سيكون له تأثير كبير على وضع المنطقة مستقبلًا جيوسياسيًّا وأمنيًّا. وبطبيعة الحال سيكون له أثر على الوضع في اليمن، وما سيتمخض عنه من ترتيبات سياسية واتفاق شامل، يبدو مُرتقبًا.
فكما يبدو أن السعودية تقبلت وجود لاعب منافس لها في اليمن؛ وهذا أيضًا ينم عن مخاطر مستقبلية، ولا يمكن لها أن تأمن التطلعات الإيرانية، فنظامها الحاكم سيرجئ أهدافه متنظرًا الفرص السانحة. وبالتالي، سيكون من الغباء أن تأمن الرياض لما سيترتب عليه الوضع. لكن بتصوري قد تتقبل القوتان الإقليميتان علاقة جوار أقل حدة. وبالتالي، سيراهن كل طرف على تعزيز قوته العسكرية، فالرياض وسعت علاقتها بالصين في مجال الصناعة العسكرية.
ولن يتوقف الأمر عند حدود الاتفاق السعودي الإيراني بالنسبة للصين، إذ من المتوقع أن تقوم بعملية تطبيع واسعة في المنطقة، بموجبه سيستعيد نظام بشار الأسد علاقته مع دول المنطقة، على رأسها السعودية. وهو ما يمهد له تصريح للأسد بأن السعودية لم تتدخل في دعم أي جماعات مناوئة لنظامه في سوريا.
وستبقى اليمن، على الأرجح، مسرح الصراع البارد بين الطرفين. فالسعودية ستسعى ليس فقط لتحجيم الدور الإيراني، بل أيضًا لتحجيم دور إماراتيٍّ واضحٍ فيها. هل ستخسر الولايات المتحدة معركة الشرق الأوسط مع الصين، يمكننا الذهاب إلى أنها مجرد جولة. على الأقل ستتسع الأصوات المناوئة في أمريكا ضد سياسة واشنطن في الملف الأوكراني. ودعونا ننتظر إلى انتخابات الرئاسة في العام القادم، ما إن كانت ستعيد الحزب الجمهوري إلى الحكم، وهل سيكون هناك حدثًا استثنائيًّا في تاريخ الولايات المتحدة بترشح رئيس سابق مجددًا؛ أي دونالد ترامب في السباق الانتخابي؟