في الوقت الذي يستمر فيه انقطاع رواتب أساتذة الجامعات كغيرهم من موظفي الدولة، واستمرار هجرة كوادر الكليات للخارج، وتدهور المستوى التعليمي في الجامعات اليمنية حتى تذيلت جداول تقييم جودة التعليم في العالم بل وخرجت منه ولم تعد كثير من الدول تقبل شهاداتها كما أشيع قبل فترة؛ تبرز مشكلات غريبة لتؤرق طلاب وطالبات الجامعات اليمنية، وجامعة صنعاء تحديدًا، مع أنه لم يسبق أن كان لليمن عهد بها حتى في أسوأ مراحل تاريخها، أبرز تلك القضايا "قضية الاختلاط في الجامعات".
حينما تمشي كطالب جامعي باتجاه قاعة محاضراتك برفقة زميلتك أو زوجتك أو مخطوبتك؛ فحتمًا ستلاحقكما أعين من يدّعون أنهم حراس الأخلاق وحماة الهُوية الإيمانية فينقضون عليكما وسط حشود الطلاب والطالبات من حولكما.
فلا فرق حينها إن كنتما عابرا سبيل تمشيان في أمان الله وتحت رقابة الضمائر والتربية قبل رقابة المجتمع علاوةً على شرطة الأخلاق؛ تمشيان بمطلق الأدب في مكان عام وفي مرأى الناس دون "مياعة" أو استهتار وسط زملائكم وأساتذتكم؛ أو إن كنتما مجرمين خطرين ومطلوبين فارين من وجه العدالة؛ لأن التعامل معكما في زمن "الهوية الإيمانية" سيكون واحدًا، المهم أن تبدو عليكما مظاهر النعمة والقدرة على دفع مقابل الحرية والكرامة.
ينقضّون عليكما ويقومون بسحب بطائقكما ونقل الشاب وحيدًا لمكتب الأمن، ستحاول بثقة مطلقة إخبارهم بأنكما لم ترتكبا جرمًا يستدعي ما فعلوه معكما، فلم تكونا في مكان مشبوه أو في موقف فاضح حتى يحدث ما حدث، فتجد الضابط أمامك قد تحول إلى واعظ يخطب فيك عن معاني الأدب والعيب وأخلاق اليمنيين؛ وقبل أن تحاول الرد عليه بأنك يمني وتعرف الأدب والأخلاق والقانون وأنك لم تتجاوز أيًّا منها؛ سيصرخ في وجهك ويتحول من ثوب الأخلاق لبدلة الشرطي فيرمي عليك تهمة الحرب الناعمة والتسبب في تأخير النصر.
ستفقد حتمًا الأمل لأن المنطق قد غادر المكان ولم يبقَ إلا قانون "ما أريكم إلا ما أرى"، ثم على حين غفلة يتوجه إليك أصغر أفراد الأمن هنالك رتبةً وأكثرهم دبلوماسية ليبايعك؛ فإما أن تدفع له ولمساعد ضابط الأمن في الجامعة -الذي يستمع إليه هناك- وتخرج من القضية مثل الشعرة من العجينة، أو أن تواجه أعلاهم رتبةً وصوتًا وتفننًا برمي تهم "الحرب الناعمة والتسبب في تأخير النصر" عليك، مطالبًا إياك بإحضار ولي أمرك وولي أمر زميلتك أو زوجتك أو مخطوبتك.
يضعونك وسط فكي كماشة بالرغم من براءتك، يضعونك وهم مراهنون بكل ما يمتلكون من جشع بأنك ستكون على استعداد لدفع كل ما تملك من مال أو هاتف أو إكسسوارات، ومن الممكن أيضًا أن تحرر لهم شيكًا أو يعطوك رقم حسابهم البنكي لتحول لهم فورًا عبر الهاتف الذي صادروه. أما إن كنت مفلسًا فلا تخف، لن تضطر لاستدعاء أولياء أمرك وزميلتك؛ لأنهم سيعرضون عليك أن تترك البطائق الشخصية وتذهب لإحضار المال، كل تلك التسهيلات يقدمونها لك بطرق تفوق عروض بنوك التسليف والإقراض وشركات التسويق.
لن يجد الطالب والطالبة المسكينين اللذين لم يرتكبا جرمًا غير ما يدعونه بـ"الاختلاط"، وهي عبارة فضفاضة لا يمكن ضبطها وليست من الدين بشيء، إنما دعوى لممارسة التسلط وانتهاك الحقوق والتضييق على الحريات وفرض نمط الأخلاق التي يريدون تشكيل المجتمع بناءً عليها، على غرار ما تفعله سلطة طالبان في أفغانستان، وما فعلته الوهابية في السعودية تحت عباءة "هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، والتي انتهى دورها بصعود محمد بن سلمان لكرسي السلطة هناك.
أصبح الحديث بين الطالب وزميلته أو المشي معًا مصيدةً ناجحة لمدعي الأخلاق ومقاومي الحرب الناعمة، فكم من شاب وفتاة تم ابتزازهما ونهبهما تحت هذه الدعاوى الباطلة، وذلك بسبب الثقافة التي اعتادت اتباعها كثير من الأسر في مجتمعنا التي تقف دائمًا ضد الشاب والفتاة حتى وإن كانا بريئَين براءة الذئب من دم يوسف، ما يجعلهما يرضخان للابتزازات مغصوبين.
فالموقف الذي يَضع فيه المبتزون الشاب والفتاة موقف شبهة يصعب تبريرها، حتى وإن كانا متزوجين ولم يتوفر معهما عقد الزواج أو البطاقة العائلية يومها، حتمًا سيتحرجان من الاتصال بوالديهما ليحضرا لمكتب الابتزاز لإنقاذهما منهم، لأنه بلا شك سيتوجه بال الأسرة نحو فكرة أنهما ارتكبا خطيئة، وهذا بالتحديد ما يراهن عليه المبتزون ويصعب إقناع أولياء الأمور بخلافه للأسف.
من جهة أخرى، فقد منعت السلطات وإدارة الجامعات تنفيذ "مشاريع التخرج المختلطة" حسب تسميتهم، لينعكس ذلك سلبًا على أداء الكثير من التخصصات التي يلزم في كل فريق منها وجود طلاب وطالبات، كقسم الإذاعة والتلفزيون في كلية الإعلام، حيث ستكون هنالك ضرورة لتوفر كادر متكامل في فريق إنتاج الأفلام، لأن الطالبات لا يملكن القدرة على التنسيق والنزول الميداني وحمل الكاميرات وأدوات الإضاءة وبقية أنشطة الإنتاج للأفلام بقدر الطلاب، وهم كذلك تنقصهم مهارات الطالبات في الكتابة والتسجيل والإخراج...إلخ.
مما يترتب على فرض حظر الاختلاط في مشاريع التخرج لجوء الطالبات لدفع مبالغ مالية كبيرة لزملائهن الذكور في الفرق الأخرى مقابل قيامهم بتنفيذ تلك الأنشطة التي كان يمكن لهم المساهمة بها بالمجان باعتبارهم شركاء في المشروع، أو أن تلجأ الفتيات لمصورين وكادر ذكوري من خارج الجامعة فيغدو لا بد من الاختلاط كما هي سنة الحياة وكما هو حال جميع مؤسسات الدولة والقطاع الخاص، فيصبح القرار بحظر الاختلاط قرارًا متهورًا وغير مدروس؛ إلا إن كانت الجامعات هي المرحلة الأولى منه، وسيتبعها تدريجيًّا بقية المرافق العامة والخاصة لتغدو البلاد في عزل تام بين الذكور والإناث، وهذا غير مستبعد.
ولا يخفى علينا كذلك في الإطار ذاته، قرار "منع الاختلاط في حفلات التخرج" ابتداءً من هذا العام 2021، ليصل الأمر بالطلاب في كل دفعة حد الانقسام لفريقين ودفع تكاليف أضعاف تلك التي كانوا سيدفعونها معًا. وما زال الأمر مجهولًا في نظر خريجي هذا العام؛ إذ هل سيُسمح بحضور أولياء الأمور من الآباء والأمهات والإخوة والأخوات في تلك الاحتفالات فيغدو قرار منع الاختلاط غير ذي جدوى، ولا نتيجة ترجى منه سوى زيادة تكاليف الاحتفالات على الخريجين؛ أم أنهم سيمنعون أمهات الخريجين وأخواتهم ونسائهم، وآباء الخريجات وإخوانهن ورجالهن من الاحتفال معهم/ن، فتغدو الاحتفالات غير ذات جدوى، حفلات النساء للنساء وحفلات الرجال للرجال كما يحدث في الأعراس.
ذلك التخبط والتهور في اتخاذ قرارات عاطفية متطرفة وغير مدروسة في ظل غياب اللوائح التنظيمية الواضحة والملائمة؛ هو ذاته السبب الرئيس في ظهور وانتشار الفساد والابتزاز وفي تنامي الشعور بالظلم والرفض لتصرفات السلطات، وتحديدًا في ظل غياب المساءلة والرقابة على العاملين في مكاتب الأمن والمكاتب المشابهة ذات العلاقة، ما يجعل من الطلاب والطالبات فريسة للابتزاز، سواءً كان الطالب مثقفًا ومدركًا لحقوقه مطلعًا على نصوص القانون، ومدركًا لمسؤوليات وحدود العاملين في المجال الأمني؛ أم كان جاهلًا بكل ذلك؛ لأن النتيجة في الحالتين سواء، بل إن دفاع الطالب عن حقه الطبيعي في رفض الظلم والابتزاز حتمًا سينعكس عليه سلبًا ويزيد من غطرسة وتعنت المبتز مدعي الدفاع عن "الهوية الإيمانية" ومواجهة "الحرب الناعمة".
ختامًا هي رسالة للسلطات القائمة في صنعاء بضرورة مراعاة حريات الناس وعدم تضييقها، باعتبار أن القانون يحوي نصوصًا تعاقب أي فعل فاحش في الإطار العام وأن ضمائر الناس هي وحدها الضامن لاستقامة الأخلاق، بل إن التضييق غالبًا ما ينحو بالسلوك الطبيعي والقويم للتحول لسلوك شاذ في ظل ممارسته بالخفاء بعيدًا عن أعين المجتمع وسلطة الحراس.
وهي كذلك لأولياء الأمور؛ إياكم والتشكيك في ثقتكم بتربيتكم لأبنائكم وبناتكم وتسفيه نظرتهم لتلك المواقف حينما يسردونها لكم في مقابل كلمة المبتز مدعي حماية الأخلاق، فحتمًا هنالك دليل وشهود لإثبات كل خطأ، ولولا الدليل لقال من شاء ما يشاء ولاتهم كل واحد غيره بكل التهم.
ولنفترض جدلًا أن ابنك أو ابنتك قد حدث وأخطؤوا بفعل ما، فإن واجبك حينها كولي أمر هو أن تكون داعمًا ومساندًا لهما حتى يستطيعا الثقة بك وبأنك ستعينهما على أن يتجاوزا ما حدث ثم تساعدهما على إدراك خطئهما وعدم تكراره أو حتى معاقبتهما بالقدر المناسب بعد الخروج من أزمة الابتزاز؛ لا أن تكون مساعدًا للمبتزين وداعمًا لهم ضد فلذة كبدك، فيلجؤون، إن حدث لهما شيء في المستقبل، للخضوع للمبتز والانصياع لرغباته.