التحالف فكرة إنسانية كُرّست في حياة الكيانات البشرية منذ القدم، وقد غدا التحالف يعبر في الأساس عن حاجة تستدعيها ضرورات بشرية وإنسانية ليكون جسرًا يُمكِّن القوى المشكِّلة له، بحكم تقاطع المصالح خلال مرحلة أو أكثر، لتحقيق الأهداف المتوخاة منه.
وهو كنسق عرفه اليمنيون ومارسوه منذ عهود قديمة. وإنّ ما وصلنا إليه اليوم بكل ما علق بالذاكرة تاريخيًّا، وما مورس من صيغ العمل العام بأشكاله ومستوياته المختلفة، قام على التحالف، وقد لا أتجاوز إن قلت إنّ كثيرًا من الدول والكيانات التي قامت في اليمن على امتداد تاريخه وحتى بدايات القرن العشرين، قامت على أكتاف تحالفات قبَلية إما لدواعٍ أمنية، أو على قاعدة دينية أو عبر جسور طيف مذهبي، ولئن كانت تلك التحالفات قد حُكمت بتقاطع المصالح، أو لتسييد الدين، أو المذهب، أو ضرورات الأمن، أو الحرص على النفوذ، أو سعيًا لذلك كله!
وممّا يدعو للأسف والحيرة أيضًا، أنّها لم تجسّد ما يدعو إليه الدين الحنيف من قيم ومثل عليا ويفرض اتجاهات وأنماط علاقات وسلوك (حقوقًا وواجبات).
تجارب متعددة
وفي تاريخنا المعاصر تجارب كثيرة ومثيرة، سواء ما كان منها بصيغ أقرب للتفاهمات أو للتنسيق أو للتحالف أو للعمل الجبهوي (بالظاهر المعلن أو المستتر)، وبما لبعضه من ارتباطات عابرة لحدود الوطن والوطنية، وبعضها مضرة بهما.
ولقد سجّل التاريخ منذ بداية القرن العشرين تشكُّل صيغٍ للعمل العام، بدت مختلفة عما سبقها، ومنها مثلًا التحالف الذي أوصل إلى استقلال شمال اليمن عن الحكم العثماني بتحالف مذهبي على قاعدة مقاومة الحكم العثماني، والمشاركة في الحكم بعد الاستقلال، إلا أن الإمام يحيى حميد الدين نكث بالوعود وراح يتخلص من محالفيه وحتى ممّن والاه بعد الاستقلال أيضًا، فانتكست تجربة التحالف.
عن تقصي التقييم، يمكن القول باختصار، إنّ اليمن شمالًا وجنوبًا في الفترة منذ ثورتي 26 سبتمبر و14 أكتوبر، وحتى قيام الوحدة في 22 مايو 1990، قد عرفت صيغًا عديدة في العمل العام، منها (التنسيقات، التحالفات، العمل الجبهوي) تحت علم الجمهورية تبدت بعضها بسعيها للتغيير والتحديث بمواجهة تحالفات أخرى تقليدية ذات علاقات خارجية مسيئة لاستقلال الوطن وقراره.
وبالمقابل، دفع طغيان الإمام يحيى وولي عهده إلى تشكيل تحالف (محكوم بثقافة تلك المرحلة) تحت سقف وطني غير مقيّد بأغلال المذهبية وبمسميات تعدّدت، وكان منها حزب الأحرار اليمنيين- لاحقًا (الجمعية اليمنية الكبرى)، وقد حاولت التغيير في العام 1948، بما سُمّي بالثورة الدستورية التي ارتكست، ولكنه ظلّ فاعلًا في سياق المعارضة حتى قيام ثورة سبتمبر 62. وبالرغم ممّا قد يقال عنه، فإن التاريخ سجّل بأنه أسّس لتحالفات تالية عديدة، اكتسبت طابع الهُوية الوطنية المتجاوزة للمذهبية وللكيانات الاجتماعية ما دون الوطنية أيضًا.
وبعيدًا عن تقصي التقييم، يمكن القول باختصار، إن اليمن شمالًا وجنوبًا في الفترة منذ ثورتي 26 سبتمبر و14 أكتوبر، وحتى قيام الوحدة في 22 مايو 1990، قد عرفت صيغًا عديدة في العمل العام، منها (التنسيقات، التحالفات، العمل الجبهوي) تحت علم الجمهورية، تبدّت بعضها بسعيها للتغيير والتحديث بمواجهة تحالفات أخرى تقليدية ذات علاقات خارجية مسيئة لاستقلال الوطن وقراره، جمعتها معها تقاطع المصالح سعيًا لرفض أي تغيير، أو تحديث أو إنصاف لحقوق المواطنة، أو تمكين لأن يستعيد المجتمع حقّه في السيادة، وبإعادة تصحيح علاقته مع من يحكم.
ومن سعت للتغيير، أحسنت حينًا وأخفقت أحيانًا، وبات ميسورًا أن يقال إن أغلبها على الأقل افتقدت للرؤى البرامجية الواضحة المبنية على تقاطع الأهداف المقاسة على المصالح العليا للمجتمع، وكذا خضوع بعضها لارتباطات عابرة للحدود، ومتماهية مع ثقافة الإقصاء والمرتكزة على ادعاء امتلاك الحقيقة، واحتكار تمثيلها، ومن ثم الشك إن لم يمكن التخوين لما عداها، وسوّغت لنفسها الانقلاب على باقي المكونات في بيئة مجتمعية لم تؤهل بعد لتكون حاضنًا ثقافيًّا فاعلًا، وحاملًا واعيًا، وضامنًا حقيقيًّا لمقتضيات التحالف وأهدافه، ومانعة لاستهدافه أو الارتداد عنه والنيل منه. ولذلك فقد عانت بنسب مختلفة كل تلك التجارب التغييرية التي حدثت، ومنها ما جاءت بها ثورة سبتمبر/ أكتوبر/ حركة نوفمبر الرجعية/ حركة 13 يونيو 1974، وغيرها حتى إعلان قيام دولة الوحدة في 22 مايو 1990.
وبالرغم من المثالب السابق ذكرها، فإنه ممّا يُسجل لها -على سبيل المثال- تميُّز الممارسات السياسية للمكونات المختلفة بإمكانية القبول المؤقت بين الفرقاء المتناقضين. كذلك تميزت الحياة السياسية بالإعلان عن الظاهرة الحزبية، سواء ذات البعد القومي أو الإسلامي السياسي أو الماركسي، وقد حقّق كلٌّ منها بنسب متفاوتة، حضورًا ملموسًا ضمن مكونات وحواضن اجتماعية (كلًّا بحسب ما توفرت له من الإمكانات والعوامل المساعدة)؛ لأنّ الظاهرة الحزبية كانت منكورة؛ إما بحكم الثقافة الاجتماعية السائدة المحكومة بالموروث الراكد، أو تغوّل رموز القوى الاجتماعية المسيطرة على التكوينات القبَلية كالمشايخ، لضمان استمرار المصالح بتجهيل الأتباع وصد موجات انتشار التعليم وتنفيرهم من كل فكرة تؤثر على سيادتهم، وكذا مدّعِي امتلاك حق إلهي كاذب بالحكم والوصاية، أو بتأثير جماعة الإخوان المسلمين التي سعت لإقامة دولة الخلافة وتدعي احتكار الدين وتمارس تكفير الآخرين، وغيرهم من أسرى المصالح الشخصية والعملاء.
ابتلاءات شتى
وبالرغم من محدودية الوعي المتأثر بالصراعات الإقليمية والدولية وثقافة المرحلة، فقد كان غريبًا بناء علاقات تحالفية بين تيارات فكرية متناقضة جمعت بين الديني والمصلحي والمدني مع العمل على الكيد المبطن والإعداد للنيل من الآخر بعد إنجاز بعض الخطوات الأولية على طريق تحقيق الهدف العام الذي تجمعوا لإنجازه، ومن ذلك مثلًا (قوى حركة نوفمبر ٦٧).
كان من نتائج الاستثمار في الصراع بين النظامين بما مثلاه من تحالفات مركبة وبعد جولتي حوار مباشر بالنار، وجولات صراع دموي غير مباشر تحت دعاوى (التحرير في مواجهة فتاوى التكفير)، الوصولُ إلى قناعة بضرورة النزول درجات عن سلّم الاستعلاء والاستقواء، والإقرار بحق المجتمع بالسعي لتحقيق الوحدة وإعادة امتلاكه لإرادته.
ولذلك أصيبت ثورة سبتمبر بنكسة نوفمبر ٦٧، وابتليت ثورة أكتوبر ٦٣، بالاقتتال بين رفاق السلاح، وما تلا ذلك من حملات إقصائية وتخوينية عنيفة، وبذات الأمر ابتليت حركة يونيو ٧٤، بانقلاب دموي رجعي في ١١ أكتوبر ٧٧، ثم بما مارسه النظام السياسي الانقلابي التحالفي من بطش بالمعارضين. ولهذا حديث يطول.
ولقد كان من مثالب بعض قوى (التحديث) أنّها ظلت مشدودة حول بريق فلسفات سعت لفرضها، فكانت كفراشات حول نار، ظلّت تنتظر من المجتمع بعامته أن يرتقي بوعيه إلى مستوى وعيها الأيديولوجي وإن تصادم مع القيم، ولم توازن بين الطموح النظري وحقائق الواقع المتخلف المأسور بثقافة مجتمعية ترفض كل جديد، حتى لو كان من قبيل (ارتداء البنطلون) الذي ما زالت تستعر من حول مشروعية ارتدائه، فتاوى وبرامج واتجاهات وعلاقات أسرية تنكر التزيي به حتى اليوم.
كما كان من نتائج الاستثمار في الصراع بين النظامين بما مثلاه من تحالفات مركبة وبعد جولتي حوار مباشر بالنار، وجولات صراع دموي غير مباشر تحت دعاوى (التحرير في مواجهة فتاوى التكفير)، الوصولُ إلى قناعة بضرورة النزول درجات عن سُلّم الاستعلاء والاستقواء والإقرار بحق المجتمع بالسعي لتحقيق الوحدة وإعادة امتلاكه لإرادته.
ولقد جاءت الوحدة بآمال كثيرة، ومنها ما تعلق بإمكانية تفعيل وإنضاج أنساق وصيغ العمل التكاملي العام بتنسيقات وتحالفات متزنة وقائمة على قواعد الديمقراطية المكفولة بنظام سياسي يلتزم بالتعددية السياسية والتداول السلمي للسلطة، ومسيّج بدستور أُقرّ مجتمعيًّا رغم معارضة الإخوان المسلمين! باستفتاء عام مشهود أصبح فيه المجتمع المالك الحصري لإرادته.
ولكننا نرى ونرصد من هذه الفترة وحتى الآن -إجمالًا- أنّ المجتمع قد عرف (اتفاقات بتفاهمات حدثت، وتنسيقات تشكل منها مجلس تنسيق أحزاب المعارضة، وتحالفات عديدة، منها: تحالف الاشتراكي والمؤتمر لدمج نظامي ما قبل الوحدة، واللقاء المشترك، وتحالف المؤتمر والإصلاح الذي استهدف روحية الوحدة ومنع تحقق التحولات الديمقراطية لبناء مجتمع المواطنة المتساوية، وتحالف المؤتمر مع ما سميت أحزاب الموالاة، وما يمكن تسميته بصيغة العمل الجبهوي الذي أنتج وثيقة العهد والاتفاق، التي أقرت بالتوافق إقرارًا بتجاوز الأخطاء وتصحيح المسار، ولرأب الصدع ومنع الصدام).
وكل تلك التجارب تستحق دراسات رغم مرارات خيباتها؛ لأن حصاد النتائج تفيد بأنه لم يكن ممكنًا الركون إلى تلك الإرادات المفتقدة للثقة في سلامة النوايا، ولم يكن مفهومًا تقبل الحزب تسريع الدمج مع طرف يقف على طرف النقيض ومعلوم بتوجهاته وارتباطاته وتحالفاته الداخلية والخارجية وأهدافه وثقافة الفيد التي تحكم تحالفاته وغيرها. ومن ثم فلم يكن ممكنًا المراهنة على نجاح علاقة تحالفية تجمع بين نقيضين، وبين نزوعين مثل الاشتراكي؛ أحدهما رانٍ نحو بناء نظام تعددي يحتكم لمخرجات صناديق الانتخاب، ويستهدف بناء دولة مدنية حديثة مسيجة بمجتمع متساوٍ في الحقوق والواجبات، وطرف آخر ظل يتعامل بثقافة الفيد التي أوصلته إلى حد الإيمان بملكيته الحصرية للدولة بكل ما يتصل بها من نظام وسلطات ورعايا وأرض وخيرات، ويحمي نفسه بتحالفات داخلية وخارجية، وساعيًا لتنفيذ أجندات عبر سياسات وأساليب كثيرة، لا يقر بعدل ولا مساواة، ولا يؤمن باستقلال الوطن، ومضاف إلى ذلك اشتداد تشوه واعتلال الوعي، وأمسى الاعتداء على حقوق الآخر حرية، وتداعي حوائط الصد، والتلهي عن مواجهة سياسة تدجين المجتمع بغياب التنمية، وإذكاء إحياء العلاقات الاجتماعية في مجتمع ما قبل الدولة، واختراق المكونات الحزبية ومنع تفعيل مهامها وأداءاتها الداخلية والمجتمعية حتى اعتلت، وتسابق الكثيرون على مقايضة الدور بالمنافع، حتى لعبت الرياح بأوراق المكاتب، واصفرّت الصحف!
كما ظهرت في السنوات الأخيرة تحالفات مختلفة، منها: المجلس الانتقالي، وبعض التحالفات القبلية، وأخيرًا تحالف الأحزاب والمكونات الداعمة للشرعية التي أعلن عنها في عدن، في الأسبوع الأول من شهر نوفمبر 2024!
تجربة المشترك
ولما كان الكثيرون قد اعتبروا تجربة اللقاء المشترك أرقى وأطول وأنجح صيغ التحالفات السياسية في اليمن، وبعيدًا عن الخوض في تجاربه العديدة ومراحلها، وأداء مكوناته، والعلاقة البينية بين أعضائه، وجدوى حضوره في ساحات الحراك المجتمعي منذ فبراير 2011، وما سبقها، وما تلاها، وفي حكومة الوفاق وفي مؤتمر الحوار الوطني كأمثلة- فإن مما لا يختلف عليه اثنان، سواء أكان مريدًا أو كائدًا، ما يأتي:
- أن جَمعًا من فرقائه كانوا (مكفَّرين)! ثم اضطر الإصلاح بحكم أدائه البرجماتي ونزوعه الأناني إلى الالتقاء معهم وسعى لردّ الاعتبار لهم، وإن كان قد اتخذ كلٌّ منهما الآخر جسرًا يمكن العبور فوقه لتحقيق بعض الأهداف المرحلية.
- أن اللقاء المشترك أنجز وثيقة (برنامج الإصلاح السياسي والوطني الشامل)! وبغض النظر عن مثالبه العديدة، فقد عطله، ولم يستفِد منه بالدراسة والبحث لخلق ثقافة حزبية جديدة تردم الهوات بين أعضاء مكوناته، وللحوار مع الفرقاء ولتوعية المجتمع به.
- تبنى المشترك ترشيح المرحوم المهندس فيصل بن شملان، لكنه خذله في ذات الوقت!
- استجاب المشترك لدواعي الحوار مع الحزب الحاكم، ولكن بمستوى (مسك العصا من المنتصف)!
- اتخذ المشترك موقفًا باهتًا من السلطة عند مواجهتها للحراك السلمي في المحافظات الجنوبية منذ العام 2007!
سلطتا عدن وصنعاء ما زالتا تصران على وأد الحق بالاختيار والاصطفاف، دونما أدنى مبالاة بالمصالح الوطنية العليا، سواء بالإرادة والوعي أو بالوصاية والتبعية، وبتنا نسمع عن مكونات تحالفية لا صوت مسموع لها، إلا كلما احتاجت إحدى السلطتين للتزين بها كديكور، مع استغلال الظروف القائمة لإكراه البعض أو لإغراء البعض الآخر.
- لم يبالِ بتكريس السلطة لسياسات استهدفت إعادة تشكيل وعي المجتمع بما يسيء لقيم الوحدة والتعددية والديمقراطية والتداول السلمي للسلطة، مع إهماله لما أصاب الدستور من تعديلات وصلت حد التغيير (وكان الإصلاح قد شارك فيها إبان تحالفه مع الحاكم بأمره ابتداء من أغسطس 1994).
- كان موقفه فاضحًا حد التعرية، سواء في بداية الحراك الجماهيري في العام 2011، بسعيه لاحتكار القيادة (بالتخويف والتجويع) ...، وصولًا إلى التوافق على المبادرة الخليجية (المشؤومة)!
- عند تشكيل ما سُمّي بحكومة الوفاق، برزت انتهازية الإصلاح، ولم يُعِر اهتمامًا لمقتضيات الشراكة.
- في مؤتمر الحوار، كان الأداء مأساويًّا.
وحتى لا أطيل أكثر من ذلك، فإني أقول بيقين مستريح، إن تجربة اللقاء المشترك حملت أسباب فشلها.
رؤى فاحصة
ولقد بيّنت كل التجارب السابقة والمعاصرة، أننا لم نستفِد من الأخطاء، وأنه بات محتمًا على الجميع إعادة الدراسة واستخلاص العبر والدروس، والسعي لبناء آفاق جديدة (مطلوبة بالضرورة) لمواجهة تحديات الحاضر والمستقبل برؤى فاحصة تستفيد من الفرز القائم بصوره الواضحة الدالة على وجود خيارين لا ثالث لهما، بعد أن أيقن الجميع أننا لم نمتلك بعد دولة المواطنة المتساوية، وأنّ سلطتَي عدن وصنعاء ما زالتا تصران على وأد الحق بالاختيار والاصطفاف، دونما أدنى مبالاة بالمصالح الوطنية العليا (سواء بالإرادة والوعي أو بالوصاية والتبعية)، وبتنا نسمع عن مكونات تحالفية لا صوت مسموع لها، إلا كلما احتاجت إحدى السلطتين للتزين بها كديكور، مع استغلال الظروف القائمة لإكراه البعض أو لإغراء البعض الآخر.
ولقد بات لزامًا على الجميع تحديد المواقف بوضوح لا يقبل اللبس أو الضلال ممّا هو قائم الآن من كيانات وسلطات حكومات وميليشيات، وأن نسعى للتوافق -بصفته حاجة بقاء وضرورات أمن- للإبقاء على وطن غير ممزّق أو مقطَّع الأوصال، وذلك يقتضي من الفرقاء (الكوارث) -سُلطات وكيانات وقوى سياسية- الإقرار بأن الحل يجب أن يكون يمنيًّا بدون وصاية، ومن ثم فواجبهم الوطني والديني والأخلاقي والسياسي أن يرفعوا أيدي الرعاة عن أفواههم، وأن يفكوا أَسْر إرادتهم، كما على الجميع التوافق على عقد حوار وطني تحت سقف الدولة اليمنية الواحدة. فهل يستطيعون؟!
ويبقى الحديث عن مستقبل التحالفات السياسية وفقًا لما سبق، مرهونًا بالتوافقات داخل مكونات مؤتمر الحوار وحرصها على تنفيذ مخرجاته، ووعيها بأهمية إعادة ترميم وتحديث بناء مكوناتها وهياكلها الداخلية، وتحقيق المصالحة الداخلية، وتبني برامج إعادة اندماجها اجتماعيًّا، وكل ذلك يتطلب مناخًا ديمقراطيًّا تنظّمه سلطات المرحلة الانتقالية وقيادات المكونات.
أما على افتراض بقاء حالة الانقسامات والتشظي القائمة حاليًّا، فذلك بحث يطول، حتى لو أردت إعادة تكثيفه؛ نظرًا لما فيه من زوايا معتمة، وظلال كثيفة تحجب الرؤية بوضوح، ومع ذلك فلو افترضنا حدوث مؤتمر حوار تحت الوصاية أو مضلل بالرغبات الأنانية، فإنه وإن قدر له إحداث توافقات، فلن تكون محققة للرضا المجتمعي وحريصة على مصالحه من جهة، ومن جهة أخرى تنفيذ ما قد يتم التوافق عليه سيبقى مرهونًا برضا الراعي أو الوصي، وسينشأ بناء عليه تحالفات وظيفية تعزز استمرار الأزمة وحالة عدم الاستقرار، وإن استمر ضبط إيقاعاتها كما هي حاليًّا. فهل سيكون ذلك مقبولًا في الداخل الحزبي؟
حاجتنا اليوم أمست تقتضي النضال لبناء دولة المواطنة، لا السعي لفرض النظام السياسي المتمنى (بالحلم)، وإن بناء الدولة المطلوبة الكافلة لحقوق المواطنة المتساوية يجب ألّا تكون تحت مظلة أيديولوجية بعينها، فمفهوم الدولة يتجاوز ذلك، بل يتطلب البحث عن المشتركات، ولنا في مخرجات مؤتمر الحوار الوطني ما يمكن اعتباره (مادة خام)، يمكننا أخذ ما يناسب منها مع إضافة المطلوب مما يستجد لبناء برنامج سياسي جامع.
ولن تتيسر مناخات الحركة والنشاط الحر (لمن لا سند ولا داعم له)، وحينها لا يمكن المراهنة على تبني أشكال تحالفية ديمقراطية، وستعود هواجس العمل السري للحضور، تفرضها ضرورات الأمن، مضافًا إليها قوالب أيديولوجية ربما حقائق الواقع لم تعُد تتقبلها في ضوء المتغيرات المتسارعة، سواء الناتجة عن الأزمة الوطنية أو الناتجة عن تأثيرات العوامل والمصالح الخارجية، وما تسعى لإعادة تصديره من ثقافات استهلاكية أو برجماتية مختلفة.
ولو افترضنا أيضًا، مع بقاء واستمرار تكريس التشظي، وجودَ مساحة للتنفس والحركة، فالمتوقع ظهور تكتلات متباينة؛ منها ما يرفض بناء دولة مدنية حديثة بمواطنة متساوية، تؤمن شراكة في السلطة والثروة، ومنها ما قد يكون ذا نزوع انفصالي وظيفي، ومنها ما يكون ذا نزعة إسلام سياسي، ومن ثم فلن يبقى لمن يرنو لبناء دولة المواطنة، وفي مقدمتهم المؤدلجون سياسيًّا وتنظيميًّا، سواء ممن اعتزلوا الحياة الحزبية لأسباب مختلفة أو لمن بقي حالمًا بتفعيل أداء الأدوات السياسية القائمة- لن يبقى أمامهم من سبيل إلا الحوار والتوافق على اتخاذ نسق تحالفي جديد أو بناء تيار وطني يتجاوز السقوف الأيديولوجية القائمة لأسباب كثيرة، ومن أهمّها أن أسباب ظهور المشاريع الأيديولوجية وتبنيها، التي سادت في تلك العقود قد تبدلت الآن، ثم إن أغلب المتحزبين لم يعودوا (متمثلين) لما كانت تفرضه أيديولوجياتهم من قيم واتجاهات وعلاقات وسلوك، كما أن حاجتنا اليوم أمست تقتضي النضال لبناء دولة المواطنة، لا السعي لفرض النظام السياسي المتمنى (بالحلم)، وإن بناء الدولة المطلوبة الكافلة لحقوق المواطنة المتساوية يجب ألّا تكون تحت مظلة أيديولوجية بعينها، فمفهوم الدولة يتجاوز ذلك، بل يتطلب البحث عن المشتركات، ولنا في مخرجات مؤتمر الحوار الوطني ما يمكن اعتباره (مادة خام)، يمكننا أخذ ما يناسب منها، مع إضافة المطلوب مما يستجد لبناء برنامج سياسي جامع، وليبقى لكلٍّ منّا قناعته الأيديولوجية كما يشاء، ولكن بدون فرضه على الآخرين، كما أن مقتضيات بناء دولة المواطنة تحتاج لنضال قد يمتد سنوات، وربما لعقود. لذلك يجب أن تحشد الجهود لبنائها؛ احترامًا للتاريخ النضالي، وامتثالًا لعدم التنكر للتضحيات، وإقرارًا بتدارك أخطاء الممارسات التي حدثت طوال العقود الماضية، ووفاءً لتأمين حاجة الأجيال القادمة بالانتماء لوطن ومجتمع يؤمن له ما يحتاجه من حقوق ومكانة، بحسب قدرته ومشاركته في الإنتاج. وسيكون مطلوب من الأدوات السياسية القائمة بعد أن افتقدت أسباب بقائها، أن تعيد بعث الحياة في أوصالها إن استطاعت إلى ذلك سبيلًا.