الشرعية المفترضة والميليشيات المسيطرة والعنف الأهلي

السياسة حين تتحول إلى سلطة غاشمة
قادري أحمد حيدر
November 12, 2024

الشرعية المفترضة والميليشيات المسيطرة والعنف الأهلي

السياسة حين تتحول إلى سلطة غاشمة
قادري أحمد حيدر
November 12, 2024
.

منذ عشر سنوات ونحن نعيش حالة من الحرب متعددة التسميات، استقرت خلال السنوات الخمس الماضية على حالة من العنف الأهلي المستمرة، والخشية كل الخشية أن تدخل البلاد إلى مرحلة الحرب الأهلية متعددة المستويات شمال جنوب، وشمال شمال، وجنوب جنوب، وهو ما تخطط له الدوائر الاستعمارية الإقليمية والدولية.

العنف في التاريخ مرتبط بالسياسة عمومًا، ومرتبط أكثر بالسياسة حين تتحول إلى سلطة وإلى سلطة غاشمة بدرجة أساسية.

ليس هناك تعريف محدد وثابت متفق عليه حول العنف، وكذا حول كلمة الإرهاب، هي كلمات وألفاظ تأخذ تعبيراتها ومعانيها من السياق الذي تكون وتوجد فيه.

فقد كان العنف ضمن شروط معينة في التاريخ هو قابلية الحياة، ومصدرًا لميلاد الأشياء والمعاني الجديدة، فالعنف ليس كلمة مرذولة وسيئة ومكروهة بالإطلاق، شأنها شأن جملة من الكلمات والألفاظ والعبارات، هي مفردات وكلمات تُقرأ وتفهم في سياقها الذاتي والموضوعي/ التاريخي، وفي علاقتنا/ علاقتها بالتقدم الاجتماعي التاريخي.

العنف والسياسة

فالعنف والتمرّد والانتفاضة ضد العبودية والاستبداد وقمع الحريات، هو عنف مرادف لمعنى الثورة/ التغيير، والعنف المسلح ضد الاستعمار المحتل للأرض، هو عنف تقره جميع الشرائع الدينية، والمواثيق والقوانين الوضعية والدولية، وهو الطريق في الغالب لنيل حرية الشعوب المستعمرة لاستقلالها وتقريرها لمصيرها.

فهناك على سبيل المثال، من يتحدث عن شعار السلام، حد تحويله إلى "تيمة مقدسة"، وهو يرمي إلى تأبيد لحظة الاستبداد والاستسلام لسلطة الأمر الواقع كيفما اتفق، تحت شعار "السلام وكفى"!

وهو مسترخٍ في سريره الكلامي عن "السلام"، الذي لن يأتي إلا بالحروب؛ لأنه لم يعد العدة له من أدوات القوة على الأرض لتحويل السلام إلى حقيقة واقعية، يتحول معها السلام إلى كلمة فارغة من المعنى، بل إلى معنى مرادف للقبول بالاستبداد وبعنف سلطة الأمر الواقع، وباسم سلام لن يأتي إلا بالحروب المستدامة، حينها نجد أنفسنا أمام "سلام" هو رديف للعنف. تذكروا سلام "السادات"، إلى أين أوصلَنا، وبعده سلام "أوسلو"، و"وادي عربة"، جميعهم أوصلونا إلى حالة من العنف والوحشية لا مثيل لها في التاريخ العالمي، "إبادة جماعية متلفزة"، فالعنف والسلام كلمتان، من المهم أن تُقرأَا وتُفهما في سياقهما الذاتي والموضوعي والتاريخي.

خطر الحروب الأهلية في الغالب، أنها بدون عقال يضبطها ويوقفها، عنف منفلت، وموجّه ضد الجميع، حرب تأتي على كل شيء في المجتمع والدولة، بحجة المحافظة على المجتمع والدولة، وذلك حين يرفع طرف معين في الصراع أو أطراف متصارعة مصالحها الصغيرة فوق مصالح كل المجتمع، "الشعب" والدولة، فإن ذلك يقود إلى تفكيك المجتمع، وتفكيك الدولة.

والسؤال: هل هناك علاقة جدلية بين العنف والسياسة والسلطة؟ أقول: نعم، وفقًا للظروف السياسية الواقعية في كل حالة من الحالات، فحين تجد سلطة الدولة -أيّ دولة- أن لا مفر أمامها لفرض الأمن والاستقرار (هيبة الدولة)، إلا باستخدام سلطة القانون كقوة، حينها يكتسب العنف معناه الشرعي، الصادر عن جهة رسمية "دولة"، أي لفرض قوة الشرعية (قوة الحق)، من خلال احتكار الدولة لحقها في استخدام العنف، وفقًا للدستور والقانون، وليس شرعية القوة (الغلبة)، على أن الأكيد أنه ليس هناك اقتران شرطي بين السياسة والعنف، أي بين السلطة والعنف باعتباره شرطًا لوجود للسلطة. وفي كل الأحوال، حين يزيد العنف على حده القانوني والمقبول، يفقد شرعيته ومشروعيته، ويتحول إلى استبداد وطغيان، يفتح الأبواب مشرعة أمام الحروب الداخلية، والحروب الأهلية خاصة. 

خطر الحروب الأهلية في الغالب، أنها بدون عقال يضبطها ويوقفها، عنف منفلت من كل عقل، وموجه ضد الجميع، "حرب الجميع ضد الجميع"؛ كما كتب توماس هوبز، حرب تأتي على كل شيء في المجتمع والدولة، بحجة المحافظة على المجتمع والدولة، وذلك حين يرفع طرف معين في الصراع أو أطراف متصارعة، مصالحها الصغيرة، فوق مصالح كل المجتمع، "الشعب" والدولة، فإن ذلك يقود إلى تفكيك المجتمع، وإلى إضعاف الدولة، أو بالأصح تفكيكها لإعادة شرذمتها واقتسامها بين أقوى الأطراف المتصارعة، في مثل هذه الحروب العبثية، والحرب الجارية في بلادنا اليوم، وبالصورة التي نراها، تحولت بالفعل إلى حرب اعتباطية وعبثية، بل ولا معنى سياسي وطني لها، وهي في الغالب حروب تمارس نيابة عن "الكفلاء" في الخارج، بعد أن صارت الأرض اليمنية في الشمال والجنوب مستباحة، وتحولت إلى ساحة للصراعات التي تخدم الأطراف الخارجية، وتكرس مصالحها وهيمنتها على بلادنا، حرب/ حروب يدخل وينخرط فيها جميع الأطراف، من أجل مصالح صغيرة ومشاريع هوياتية أصغر، ينتفي أو يغيب معها وبعدها السلم الاجتماعي، والسلام الأهلي، ومظاهر الحياة المدنية لعقود طويلة، وهو ما نراه قائمًا أمام أعيننا في الشمال والجنوب وأخطر نتائج أيِّ حرب أهلية هو انقسام المجتمع، عموديًّا وأفقيًّا، على أساس من الهويات الصغيرة؛ ما دون الوطن والشعب والدولة، حروب تقود إلى تشظي النسيج الاجتماعي والوطني، وإلى تفكيك الدولة وإعادة توزيعها بين تجار الحروب، والميليشيات حسب موازين القوة والقوى بين الأطراف المتقاتلة المتحاربة في الداخل، ولصالح الخارج، وهو المستفيد الأعظم من مثل هذه الحروب البدائية.

شرعية متآكلة

وما يحصل في اليمن المعاصر اليوم، تحت العناوين والتسميات المختلفة -كما سبق القول- هو توزيع حصة الدولة؛ دورها ومكانتها وقوتها، بين ثلاثة أطراف بل وأكثر، ما يجمعها ويوحدها أنها جميعًا -بدرجات مختلفة– لا تمتلك إرادتها السياسية الوطنية بيدها، جميعها -مع الأسف- مرتهنة للخارج، وتحكمها موازين سلطة القوة على الأرض، في صورة: ما يسمى من جانب أول -تجاوزًا– "الشرعية"، بعد أن تآكلت هذه الشرعية من داخلها ومن خارجها، وفقدت هذه السلطة المفترضة جزءًا كبيرًا من شرعية ومشروعية الرضا والقبول من ناس المجتمع الذين يفترض أنها تمثلهم، وهي الشرعية، التي لا تمتلك حتى مكانًا تستقر فيه كسلطة، لتمارس فعل الشرعية من خلاله على أرض محددة، والأسوأ أنها بلا عاصمة تمثلها سياسيًّا ودبلوماسيًّا، ووجوديًّا، وقانونيًّا أمام الداخل (شعبها)، وأمام الخارج، فعاصمة الجمهورية اليمنية، تقع تحت قبضة الجماعة الحوثية "أنصار الله"، والعاصمة البديلة المؤقتة عدن، تقع تحت سلطة وإدارة الانتقالي المرتهن كذلك للخارج، وهذا الحديث ليس مساواة بين الحوثي "أنصار الله"، والانتقالي، أو الشرعية، فقط، هو توصيف لواقع الحال كما هو دون تدخل من عندياتنا، شرعية مكونة من "مجلس رئاسي انتقالي" من ثمانية رؤوس، ولكل رأس فيها جيش/ ميليشيا خاصة به. 

رحم الله "الشرعية" المفترضة التي تملك -اسميًّا- كل شيء، وفرطت عمليًّا بكل شيء، بعد أن فقدت إرادتها السياسية الحرة المستقلة، وأفقدت البلاد سيادتها واستقلالها، وقرارها السياسي الوطني المستقل، ولا أتصور أنّ اليمن السياسي والثقافي والحضاري من القديم إلى الإسلامي إلى الحديث قد وصل به الحال إلى هذا المآل البائس والكابوسي، الذي نعيشه.

شرعية تتآكل على الأرض السياسية والوطنية، ولكنها تكبر وتتسع في حجم ميزانياتها المصروفة لها باسم مسميات لا معنى لها: سفارات وملحقاتها، محافظون بدون محافظات يديرونها ويحكمونها وبميزانيات هائلة غير مبررة، ولا مفهومة، إلا تحت عنوان الفساد السياسي، بعد أن صارت "المشكلة اليمنية"، بيد الأطراف الخارجية، هم من يديرونها، وينوبون عنّا أمام الخارج –مع الأسف كذلك- في حل مشكلتنا، وهو ما يحصل اليوم، ومن جانب ثانٍ هناك سلطة أمر واقع في صنعاء، تريد فرض الحكم باسم الحق الإلهي، وتشتغل على كل الأوراق السياسية، الوطنية والقومية (فلسطين)، والمذهبية والقبَلية والطائفية (الدينية)، لفرض مشروعها الأيديولوجي/ السياسي السلطوي الخاص، "ولاية الفقيه"، ومن جانب ثالث، سلطة أمر واقع في عدن، بدون رؤية ولا مشروع سياسي وطني واضح ومحدد المعالم والغايات والأهداف، مشروع ميليشاوي -كالآخر- يتبع دويلة أجنبية صغيرة، وتحتل مفاصل استراتيجية واقتصادية وعسكرية في الجنوب والشمال، والأخيرتان –مع الأسف- لهما مكان ووجود على الأرض، وإن كانتا بدون أي شرعية، دستورية أو وطنية أو دولية، ووجودهما مناقض للدستور وللقوانين النافذة في الجمهورية اليمنية، وهما السلطتان اللتان لهما حضور فاعل ومؤثر على الأرض، ولهما مكان مستقر، ومحدد ومعلوم، وإن قد كان تم أخذهما والسيطرة عليهما، أقصد المكان/ الجغرافية، بالغلبة، وبدعم من قوى خارجية، ورحم الله "الشرعية" المفترضة التي تملك -اسميًّا- كل شيء، وفرطت عمليًّا بكل شيء، بعد أن فقدت إرادتها السياسية الحرة المستقلة، وأفقدت البلاد سيادتها واستقلالها، وقرارها السياسي الوطني المستقل، ولا أتصور أنّ اليمن السياسي والثقافي والحضاري من القديم إلى الإسلامي إلى الحديث، قد وصل به الحال إلى هذا المآل البائس والكابوسي، الذي نعيشه.

حوار جدي

ورحم الله شاعر اليمن الكبير/ عبدالله البردّوني، الذي قال ذات شعر، وذات يوم، وذات غضب، قال: "فظيعٌ جهلُ ما يجري، وأفظعُ منه أن تدري"، وهو ما ينطبق حرفيًّا على اللحظة السياسية اللاوطنية الراهنة.

هذه هي "المشكلة اليمنية" في تدحرجها ككرة ثلج إلى مستنقع العنف والتشظي في حالة اللادولة القائمة، خدمة للمشاريع الإقليمية والدولية/ الاستعمارية.

إن المطلوب هو تقديم مبادرات جدية مرتبطة بخطوات سياسية، وعملية وطنية تقرّبنا من الحل، فرحلة الألف ميل تبدأ بخطوة عملية سياسية صحيحة واحدة، أساسها مشاركة وإشراك الأحزاب القادرة على الفعل، وقوى المجتمع المدني والاجتماعي والاقتصادي (القوى العاملة المنتجة)، والنقابات، بما فيها من تبقى من القوى الحية في البرلمان، وفي مجلس الشورى، وفيما تبقى من مؤسسات الدولة المختلفة، بعيدًا عن المبادرات الفوقية/ النخبوية الإقليمية التي يتم حصر تداولها بين أوساط "النخبة" السياسية اللصيقة بالسلطة، وبالخارج المحتل، ولا يعلم عنها ناس المجتمع أي شيء، بل إن الأطراف اليمنية الرسمية ذاتها لا تعلم عنها –أحيانًا– إلا من خلال الإعلام، مبادرات لا يهمّها أمر إعادة بناء الجيش اليمني بعقيدة قتالية وطنية، ولا استعادة الدولة، ولن تقبل بأقل من استمرار الأحوال كما هي عليه، ومن استمرار الانقسام في الصف السياسي الوطني اليمني، بين الشمال والجنوب، وفي داخل كلٍّ من الشمال والجنوب؛ لأن ذلك هو سبب استمرارها متحكمة فينا.

إنّ المطلوب اليوم هو ربط المبادرات بالناس، ومصالحهم وقضاياهم الواقعية التي ستشكّل فارقًا نوعيًّا بدلًا عن مبادرات "النخبة" والخارج، محدودة التأثير.

أي إن المطلوب مبادرات سياسية تنزل للناس، وتدفعهم للمشاركة في الإصلاح والتغيير لارتباطها بمصالحهم اليومية، والحيوية الاستراتيجية، ولو بالتدريج، وهي وحدها التي -حتمًا- ستشكل فارقًا، وضغطًا حقيقيًّا على جميع أطراف التعويق للحل في الداخل؛ الذي من المهم أن يستعيد ثقته بنفسه وبقواه الحية، ليعيد إنتاج حوار جدّي وندّي مع جميع أطراف الخارج، على قاعدة المصالح الوطنية العليا لكل أبناء اليمن، شمالًا وجنوبًا.

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English