مرّت ثمانية أعوام من عمر الحرب التي ما تزال مستعرة في اليمن، وما زالت معاناة اليمنيين جراء انعدام المياه تتفاقم، خاصة في المناطق الشمالية، ومنها العاصمة صنعاء التي كانت تستهلك نحو خمسة ملايين لتر من المياه في السنة الواحدة، قبيل اندلاع الحرب، وزادت كميات الاستهلاك أضعافًا كثيرة بسبب تزايد أعداد ساكنيها وأعداد النازحين إليها من مختلف المحافظات اليمنية.
كما تعاني العاصمة اليمنية صنعاء، من نقصٍ حادٍّ في حوضها المائي، قبيل بَدء الحرب الجارية، نتيجة استنزاف موارد المياه الجوفية والحفر العشوائي للآبار الموجودة فيها وفي ضواحيها.
محمد فارس، وهو شاب في السابعة عشرة من العمر، من سكان صنعاء، يصف في هذا السياق لـ"خيوط"، كيف أصبحت أزمة المياه ملازمة له منذ أن كان عمره عشرة أعوام، فالمهمة التي اعتاد عليها صباح كل يوم، قبل أن يذهب إلى مدرسته، هي جلب المياه من خزان السبيل الذي يتقاطر إليه أقرانه، ونساء ورجال آخرون، يصطفون في طوابير طويلة من أجل الحصول على كميات من المياه، علّها تكفي يومهم المثقل بالهموم.
لكن خزانات السبيل الخيرية التي كانت منتشرة في أزقة وشوارع المدينة، تراجع اليوم دعمها من قبل الجمعيات الخيرية ورجال الأعمال بسبب طول أمد الأزمة، الأمر الذي تسبّب بنقصٍ في كميات المياه التي كانت تستفيد منها العائلات الفقيرة، فهذا الشاب وعائلته ليسوا وحدهم من يعانون جرّاء شُحّ المياه في مناطق سكنهم، فقد أصبح بعض سكان صنعاء الذين كانوا معتمدين على شراء المياه من الصهاريج المتنقلة، المسماة محليًّا بـ"الوايتات"، غيرَ قادرين على توفير تلك المياه، بسبب ارتفاع أسعارها لمبالغ باهظة، وعدم اهتمام بائعيها بنظافتها وخلوها من الجراثيم، وأصبح وايت المياه يبُاع اليوم بـ12 ألف ريال، بدلًا من ثلاثة آلاف ريال، كما كان يُباع في الأيام الأولى للحرب الجارية.
في حين يعتمد نحو 100 ألف مشترك، بحسب بيانات رسمية اطلعت عليها "خيوط"، على المؤسسة المحلية للمياه والصرف الصحي، وهي المؤسسة الحكومية التي تزوّدهم بالمياه، وتقدّم لهم خدمات الصرف الصحي، لكن هذه المؤسسة باتت على مقربة من الفشل والانهيار؛ نتيجة أزمات متراكمة، وتدخلات غير مسؤولة في مهامها من قبل نافذين، الأمر الذي سينعكس سلبًا على حاضر ومستقبل قطاع المياه في صنعاء، الذي قد يعاني من نفاد المياه بحلول عام 2025، بحسب خبراء. كما أنّ العاصمة صنعاء أيضًا في طريقها لتكون أول مدينة في العالم تفتقر إلى إمدادات مياه مستدامة.
ضعف المياه
"لم نعد نحصل على المياه من المؤسسة الحكومية إلّا مرة واحدة كل أسبوعين، ولا يصل الماء إلا ضعيفًا، مع ذلك يطالبوننا بسداد فاتورة المياه والصرف الصحي التي ارتفعت أضعافًا عن سابقاتها، إضافة إلى مطالبتنا بتسديد مديونية سابقة لمياه استهلكها مستأجرون في ثلاث شقق تابعة للعمارة السكنية التي أملكها، غادروها والآن يقطنها مواطنون نزحوا من محافظة الحُديدة لا يملكون سداد الإيجارات المتراكمة عليهم"؛ يقول الحاج أحمد الرحبي، شاكيًا حاله مع أزمات المياه التي يعاني منها هو وجيرانه في منطقة حدة، أحد أرقى أحياء العاصمة صنعاء.
ويضيف في حديثه لـ"خيوط": "اضطررت إلى تسديد مديونية المستأجرين السابقين، وحينما أتأخر في تسديد أقساط فاتورة المياه، تأتي أطقم من مؤسسة المياه الحكومية وتقوم بسد مجاري الصرف الصحي، وهو الأمر الذي يضاعف من معاناتنا، لقد تحوّلت هذه المؤسسة من حكومية إلى تجارية، لا يهمّها سوى جني الأموال، دون مراعاة للظروف التي يعاني منها المواطن".
الأحداث أثّرت على أداء مؤسسة المياه الحكومية، وتراجع نشاطها الملحوظ بعد أن توقف الدعم المادي الذي كانت تقدمه منظمة اليونيسف، بسبب الفساد والخلافات بين مسؤولي قطاع المياه في صنعاء، بالرغم من أنّ المنظمة الأممية كانت تنوي تخصيص أموالٍ طائلة لإعادة صيانة شبكات المياه والصرف الصحي، وإنشاء شبكات جديدة بدل المتهالكة.
مثل الحاج الرحبي، الكثيرُ من المواطنين المنزعجين من رداءة الخدمات التي تقدّمها مؤسسة المياه الحكومية لهم، وآخرون يشْكُون من عدم وصول خدمات المياه الحكومية للأحياء والحارات التي يقطنونها، بسبب تهالك شبكات إمدادات المياه، مثل المواطِنة أمينة الجرفي، التي تقطن المدينة العتيقة في العاصمة (صنعاء القديمة)، إذ تشكو في حديثها لـ"خيوط"، بأنّها راجعت المؤسسة الحكومية للمياه بغرض صيانة شبكة إمدادات المياه في بعض أحياء صنعاء القديمة، إسوة ببقية الأحياء التي استفاد ساكنوها من حملات الصيانة التي أجرتها مؤسسة المياه في أوقات سابقة من عمر الحرب التي ما تزال تراوح مكانها في اليمن.
في نفس السياق، يشكو سكان أحياء ومناطق أخرى في أطراف العاصمة صنعاء من عدم وصول مشروع المياه الحكومي لها، رغم التوسُّع العمراني الذي شهدته تلك الأحياء المكتظة بآلاف البشر، إذ يقول جميل العتمي لـ"خيوط"، وهو أحد المغتربين العائدين من المملكة العربية السعودية، أنّه حينما اشترى منزلًا في حي سعوان بصنعاء، كان يتوقع حصوله على خدمة المياه بسهولة، بسبب أنّ المنطقة فيها العديد من المنازل والبنايات السكنية ذات الطابع المعماري الحديث، ولأنّ غالبية من يقطن فيها هم من اليمنيين المغتربين في دول الخليج وأمريكا، لكن ذلك لم يحصل بسبب عدم مقدرة مؤسسة المياه الحكومية على توسيع مشاريعها في العاصمة صنعاء خلال الوقت الراهن، كما أخبره موظفون في المؤسسة، وعلى الرغم من استعدادهم للمساهمة في تمويل مشروعات توسعة شبكات المياه والصرف الصحي في تلك المنطقة، إلَّا أنَّ المؤسسة أصبحت في الوقت الراهن عاجزة عن تنفيذ ذلك.
عراقيل
يعترف القائمون على إدارة المؤسسة المحلية للمياه والصرف الصحي، بأمانة العاصمة صنعاء، في حديثهم مع "خيوط"، بوجود قصور في أعمالهم والمهام الموكلة إليهم، لأسباب كثيرة تعود غالبيتها إلى تداعيات الحرب الجارية، وأخرى إدارية. ويحذّرون من الأسوأ خلال الفترات المقبلة، بسبب التدخلات السلبية المفاجِئة لوزارة المالية التابعة لحكومة صنعاء التابعة لسلطة أنصار الله (الحوثيين)، إذ قررت الأخيرة تجميد أموال تابعة لمؤسسة المياه، تقدر بمليارات الريالات، مخصصة لشراء الوقود الخاص بتشغيل مضخات المياه ومحطات الصرف الصحي والصيانة العاجلة، حال حدوث مشكلات طارئة تخصّ المياه في حارات وأحياء العاصمة صنعاء، ممّا يعني أنّ مشروع المياه الحكومي مهدّدٌ بالتوقف عن الضخّ بشكل نهائي خلال الفترات المقبلة.
يؤكّد نائب مدير المؤسسة العامة للمياه في صنعاء، عبده الشامي لـ"خيوط"، بالقول: "عند اندلاع الحرب كانت مؤسسة المياه في وضع لا يُحسد عليه، إذ تراكمت الأزمات عليها، ولم يكن باستطاعتنا شراء الديزل لتشغيل المضخات، فتوقف ضخ المياه في كثير من المناطق، وانفجرت، ولم نكن قادرين على تحصيل الأموال من المواطنين المشتركين في المؤسسة بسبب عدم تمكّنهم من دفع الأموال التي بالكاد كانت تكفيهم لشراء المواد الغذائية، كان وضعنا حرجًا للغاية".
ويتذكر الشامي كيف كانت ظروف المؤسسة العام 2015، وكيف حاول العاملون في المؤسسة أن يتواجدوا في الميدان ويسعوا لتوفير المياه للمواطنين، والحفاظ على استمرارية خدمات الصرف الصحي رغم الأوضاع الصعبة، لافتًا إلى أنّ الخزانات العملاقة التي تزوّد صنعاء بالمياه لم تسلم حينها من قصف طيران التحالف، ومن بينها خزان النهدين الذي كلف إنشاؤه نحو 4.5 ملايين دولار من أموال الدولة.
في حصيلة أولية، يؤكّد الشامي أنّ الخسائر الناتجة عن القصف الجوي لطائرات التحالف، الذي طال خزانات المياه وشبكات الصرف الصحي في صنعاء، يُقدّر بأكثر من 20 مليون دولار أمريكي.
وتحوّلت شوارع صنعاء في الفترة ما بين العام 2015 حتى 2017، إلى بحيرات راكدة بسبب طفح المجاري ومياه الصرف الصحي، وهي المشكلة الطارئة التي كانت إحدى مسببات انتشار جائحة الكوليرا التي أودت بحياة الآلاف من اليمنيين، حينها أكّدت منظمتَا اليونيسف والصحة العالمية، أنّ سبب تفشي الكوليرا جاء نتيجة لانهيار أنظمة الصحة والمياه والصرف الصحي؛ وهو انهيار منع حصول 14.5 مليون شخص، على المياه النظيفة والصرف الصحي في اليمن، بصورة منتظمة.
كان على المنظمات الدولية، ومن بينها اليونيسف، ألّا تقف مكتوفة الأيدي، والتدخل الفوري لعمل ما يمكن إنقاذه، كما يقول دومينيك بورتيو، رئيس قسم المياه والإصحاح البيئي، في مكتب منظمة اليونيسف، بصنعاء.
وبحسب حديث بورتيو في تصريح لـ"خيوط"، فإنّ اليونيسف عملت على تسهيل الحصول على المياه النظيفة وخدمات الصرف الصحي للأطفال وأسرهم في صنعاء، من خلال دعمها لمؤسسة المياه بأكثر من 40 مليون لتر من الديزل والوقود المخصص لتشغيل مضخات المياه.
ذلك الدعم، إضافة إلى أوجه دعم أخرى من منظمات اليونبس وإنقاذ والأغذية العالمية، ودعم من رجال أعمال يمنيين، ساهم في إنعاش مؤسسة المياه في الثلاثة الأعوام التي أعقبت العام الأول من الحرب الجارية، وبذلك استطاع كوادر المؤسسة الوقوفَ على أقدامهم من جديد، حينها بدأت المؤسسة بتحصيل إيراداتها من خلال عمل حملات لجمع المديونية المستحقة على المشتركين، والتي تصل لـ13 مليار ريال يمني، على ذمة مواطنين ومؤسسات حكومية وتجارية في صنعاء.
واستطاعت المؤسسة رفع قدرتها الإنتاجية إلى أكثر من 40 ألف متر مكعب يوميًّا، بعد أن كادت تتهاوى إلى أدنى المستويات القياسية، بحسب تأكيد محمد الشامي، مدير عام المؤسسة، خلال حديثه لـ"خيوط".
من جانبه، يؤكّد خالد الكميم، المسؤول في إدارة العلاقات العامة بمؤسسة المياه المحلية، لـ"خيوط"، بأنّ استمرار أداء المؤسسة لن يكون إلا بتعاون المواطنين معها من خلال استمرارهم في تسديد فواتير المياه والصرف الصحي، وعدم ارتكاب المخالفات من خلال استخدام المياه دون عدادات، والعبث بشبكة المجاري.
توسع الاختلالات
الخلافات على الأموال التي كانت تُقدم من قبل المانحين، كانت سببًا لتفجير مشاكل وأزمات متعددة داخل وزارة المياه في صنعاء، وعلى إثرها تم عزل وزير المياه السابق في حكومة صنعاء غير المعترف بها، التابعة لسلطة أنصار الله (الحوثيين)، نبيل الوزير، من منصبه، وأقرت الهيئة الوطنية العليا لمكافحة الفساد في صنعاء، منعه من السفر خارج اليمن، وإحالته للتحقيق مع عددٍ من وكلاء الوزارة ومسؤولين فيها، إلى النيابة العام.
تلك الأحداث أثّرت على أداء مؤسسة المياه الحكومية، وتراجع نشاطها الملحوظ بعد أن توقف الدعم المادي الذي كانت تقدّمه منظمة اليونيسف بسبب الفساد والخلافات بين مسؤولي قطاع المياه في صنعاء، بالرغم من أنّ المنظمة الأممية كانت تنوي تخصيص أموالٍ طائلة لإعادة صيانة شبكات المياه والصرف الصحي، وإنشاء شبكات جديدة بدل المتهالكة.
إلّا أنّ تلك المشاريع قد توقّفت، بحسب تأكيد وليد نعمان، مدير مكتب اليونيسف الميداني في صنعاء، إذ يقول النعماني لـ"خيوط"، إنّ هناك علاقة شراكة قوية مبنية على الشفافية والوضوح بين اليونيسف ومؤسسة المياه، وتقدير وفهم كل طرف واستيعابه للآخر، وقدرة المؤسسة على مواكبة المتغيرات في المجتمع اليمن.