يُعَدُّ سعيد الجناحي واحدًا من أبناء الشعب اليمنيّ الذين هَجَروا مملكة الظلام وانغلاقها وضيق فرص العيش فيها خلال النصف الأول من القرن العشرين، إلى مستعمرة عدن البريطانية؛ بحثًا عن الدراسة والعمل واكتساب الخبرة. خرج طفلًا من قريته القريبة من حدود المحميات الغربية البريطانية في النصف الأول من خمسينيات القرن العشرين بحثًا عمّا أمكن من تعليم، ليتحرر من الجهل المتفشي في الريف اليمني، وعن أي عمل يوفر له لقمة العيش، وأي فرصة للنجاح، وشق طريقه في الحياة.
وفي عدن واصل التعليم الذي كان قد بثَّه في مخيلته أب مزارع فقيه يُعلِّم الأطفال القرآن وأبجديات القراءة والكتابة. وسرعان ما تفتح وعيه وهو ما يزال مراهقًا على الموجة القومية التي أطلقها الزعيم العربي جمال عبدالناصر في كل مكان من الأرض العربية، فبدأ يقرأ ويتفاعل ويبحث عن دور للمشاركة في المسيرة العربية. واتَّسعت معارفه وطموحاته من خلال العمل السياسي والنقابي والصحفي في مستعمرة عدن في أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات من القرن العشرين، فكان ابنًا نجيبًا للازدهار الثقافي والسياسي الذي عرفته مستعمرة عدن في الخمسينيات، وهو الازدهار الذي تخرّج منه صفٌّ واسع من الصحفيين الكبار المؤهلين ومن المثقفين والسياسيين النابهين، ترك بصماته على تطور الحركة السياسية والثقافية في اليمن كلها، في الخمسينيات والستينيات.
اختار الجناحي التيارَ السياسي القومي ثم اليساري الذي كرّس له أغلب حياته وأمضى تحت رايته العمر كله منذ سن المراهقة، ناشطًا متفانيًا متفائلًا مندفعًا حتى انتهت الرحلة محمّلة بالجمر والرماد. وكان بتفانيه وقوة نشاطه مَن أدخل إلى هذا التيار القومي عددًا من القادة السياسيّين الذين برزوا فيما بعد، وفي مقدمتهم عبدالفتاح إسماعيل، عمّه أخو والده. والعجيب أنه لم يختر تياره السياسي فحسب، بل اختار اسم "الجناحي" الذي لم يتخلَّ عنه قطّ حتى رحيله، ولو لم يكشف عن ذلك في مذكراته لَمَا عرف حقيقة هذا الاسم سوى أسرته المقربة (انظر: حياة في خضم أزمنة متداخلة، ص 11).
امتاز الجناحي في عمله الحزبي بالإيمان بمبادئ الحزب الذي انتمى إليه والتفاني في نشاطه والاستعداد للعمل في أيّ موقعٍ يختاره الحزب، فكان من المؤسسين لحركة القوميين العرب في عدن، واكتسب إلى صفوفها عددًا ممّن أصبحوا سياسيين بارزين. وانتقل بنشاطه إلى تعز ليساهم في تأسيس خلايا الحركة هناك، وأدخل إليها عددًا من القيادات السياسية ومن الناشطين السياسيين. وكان في تلك المرحلة مثالًا للحزبي المخلص المتفاني في تطبيق ما ترسم قيادة الحزب من سياسات دون تردد ودون نقاش.
وعلى الرغم من خوض الجبهة القومية، التي ساهم في التحضير لإنشائها، للكفاح المسلح بهدف طرد الاستعمار البريطاني من جنوب اليمن، ومن الكفاح المسلح الذي خاضته الجبهة الوطنية الديمقراطية في شماله، كان الجناحي مدركًا تمامًا أنّ دوره تنظيميٌّ سياسيّ صحفيّ ثقافيّ، فلم يذكر مثلًا أنّه تدرّب على السلاح مثل كثيرين غيره من الناشطين الحزبيين، أو قام بعمليات مسلحة حتى ضد المستعمر البريطاني، مع أن ذكر المشاركة بالسلاح في كفاح الجبهة القومية من أجل التحرر كان مصدر فَخَار، على الأقل أثناء وجودها في السلطة.
وقد تميَّز بالشجاعة في تعامله مع المبادئ التي آمن بها، وبالإقدام على مواجهة المخاطر، سواء في ظلّ الاستعمار البريطاني في عدن، أم خلال الاتصال بالضبّاط الأحرار الذين كانوا يعدون سرًّا للقيام بالثورة وإعلان الجمهورية، فتولى دون تردد أو خوف نقل المعدات المدنية والعسكرية والأسرار إليهم في صنعاء لمساعدتهم في تحقيق النجاح، تحت غطاء عمله في شركة الطيران اليمنية. وامتاز دائمًا بروح الفكاهة خلال عمله السياسي والصحفي. ولعل الضحك قد ساعده على الاستهانة بالمخاطر وتخفيف التوتُّر في لحظات الضغط النفسي الشديد، على الرغم من أنّه أحيانًا عصبيّ المزاج.
ويعدُّ توليه مسؤولية إصدار صحيفة "الأمل" باسم الجبهة الوطنية الديمقراطية مقابل إسكات إذاعة الجبهة، بعد الاتفاق بين السلطتين في صنعاء وعدن، موقفًا شجاعًا في وقت كانت فيه طلقات البنادق في مناطق الاشتباك لم تصمت بعد، ولا تتردد الأجهزة الأمنية المتوحشة في القيام بأي تصفيات جسدية للمعارضين في وقتٍ بدا فيه للمراقب السياسي أن السلطتين الشطريتين، ومن ورائهما حلفاؤهما الدوليون، قد توافقتا ضمنيًّا على التخلص من عبء الجبهة الوطنية واعتبرتاها إزعاجًا للممسكين بالسلطة لا حاجة لهم إليها.
وقد تولى الجناحي بنجاح رئاسة تحرير صحيفة الأمل، وأكسبها بسرعة مكانة صحفية وطنية كبيرة على الرغم من عدم وجود أيّ هامش للحريات الصحفية، وتحمَّل الضغط والتهديدات ورفع الدعاوى الكيدية أمام المحاكم، فقضى الكثير من الوقت في إدارة الرقابة على الصحف في وزارة الإعلام أو أمام النيابات والمحاكم.
ويمكن القول إنّ الفترة التي مارس خلالها النشاط السياسي منذ انتمى إلى حركة القوميين العرب في أواخر سنة 1958، وحتى الأحداث الدامية في عدن في 13 يناير 1986، قد كانت الفترة الذهبية في عمله السياسي، فكان خلالها مستعدًّا للقيام بأي مهمة يكلفه الحزب بها، ولا يبدو أنّه داخَلَه أي شكّ خلال هذه الفترة في صواب ما ترسمه قيادة حزب يقع في صميم وجدانه، حزب كان كلَّ فخاره وبوابته للإطلال على العالم العربي وعلى القضايا المصيرية في عالمه.
وهو ما جعل صدمته بكارثة 13 يناير 1986 في عدن، مضاعفة. فقد كان مشاركًا في الصراع السياسي الدائر آنذاك داخل الحزب الاشتراكي باعتباره مقربًا من عمّه عبدالفتاح إسماعيل، لكنه بعد أن اعتاد على خوض الصراعات الحزبية والسياسية، كان يراهن على أنّ أيًّا من التيارين المتواجهين لن يفجِّر القتال، ولن يبدأ بفتح أبواب جهنم على الحزب وعلى البلاد، ولن يضحي بالحزب وبتجربته من أجل تحقيق طموحات سياسية، خاصة أنّ الطرفين كانا يعلنان تمسكهما بمبادئ الحزب وحرصهما على صيانة التجربة وتطويرها. لكن الوقائع هزمت النظرية، وتبدّت المطامح السياسية فوق كل الحسابات. فوقعت الواقعة وحدث الانفجار الذي لم يتوقعه الجناحي، فكانت نتائجه مرعبة بالنسبة له. ومع أنّه نجا بأعجوبة من المجزرة باعتباره مقربًا من أحد الطرفين المتصارعين، حتى لو كان صحفيًّا ومثقفًا سياسيًّا لم يحمل السلاح ولم يقاتل، كان على يقين أنّه كان مرشحًا ليقع عليه انتقام الطرف الآخر الذي أطلق الرصاصة الأولى، وفجّر المعركة وكذَّب كل توقعاته.
وأذكر أنني كنت أتابع بفزع سيرَ أحداث المأساة وأنا طالب في باريس، وكنتُ مثل كل من تابع تلك المأساة حتى عن بُعد، مصدومًا بكل ما يجري من عنف ومن خسائر في الأرواح والممتلكات ومن ترويع للمواطنين، ومن عبث بحاضر الحزب الاشتراكي ومستقبله، وبدوره في اليمن وخارجها، وبالتجربة التي يقودها. وفي هول الصدمة العامة، كنتُ أيضًا مهمومًا بمصير من أعرفهم من الصحفيين والمثقفين والأصدقاء حتى من القادة السياسيين. كنتُ منشغلًا بمعرفة موقعهم من كل ما يجري، وما لحق بهم من مصير وسط كل هذا العبث غير المعقول والحطام المتناثر فوق سماء عدن وفي اليمن كلها. وممّن تذكرتُ في تلك اللحظات الحرجة، سعيد الجناحي، بحكم قربه من عمه القائد السياسي الذي يقع في مركز الانفجار. فمن يعرف الجناحي وروحه المرحة حتى في أحلك الظروف، لا بدّ أن يتذكره ويتساءل عن مصيره وعما حدث له، بصرف النظر عن الموقف السياسي. لأنّه وجه مألوف يصعب نسيانه، بحيويته وروح الشباب الدائم في حركاته وأحاديثه، حتى حين يَجِدُّ ويبتعد عن روحه المرحة.
وإذا كنّا جميعًا قد صدمنا بهول الكارثة التي لحقت بالبلاد كلها على نحو تعجز الأفكارُ والنظريات أن تفهمه وتستوعبه، وبدأنا تحت ضغط الصدمة التفكيرَ بما ستتركه تلك الأحداث الخطيرة من آثار بعيدة المدى على ثورة 14 أكتوبر 1963، وعلى التجربة التقدمية في اليمن الديمقراطية، وعلى مستقبل اليمن كلّها وتقدّمها ونموّها، فقد كانت الكارثة بالنسبة للجناحي إلى جانب ذلك كله صدمةً عائلية مباشرة، خسر فيها أقرب أقربائه إلى نفسه، وموجِّهه ومثله الأعلى. وفي عنفوان الحزن الشخصي والهمّ الوطني العام، حاول أن يتماسك بقدر ما يستطيع وألّا ينهار. كابر وناقش وكتب ودافع عن الأوضاع الجديدة التي تربّعت على عرش الخراب بعد الكارثة. لكنه ومثله كثيرون غيره، بدأ بالتدريج التفكيرَ بالنتائج المستقبلية الخطيرة، بعيدًا عن ردّ فعل فرحه بالنجاة والخروج سالمًا، وتجنُّب مصير قاسٍ كان يهدّده لو انتصر الطرف المضادّ.
وأذكر أنني تحت هول الصدمة بما حدث، كتبتُ رسالة مطوَّلة إلى الصديق القائد السياسي الذي كان حريصًا على توطيد علاقاته بالشباب التقدمي وبالصحفيين والمثقفين، جارالله عمر، أشار إليها في مذكراته قائلًا إنّها من الأسباب التي دفعته للبدء بطرح ضرورة أن تتجه التجربة في عدن إلى اعتماد التعددية الحزبية والصحفية، والانفتاح على حقوق الإنسان. قلت له في رسالتي، ما معناه: "على الرغم من المكابرة السياسية تحت ضغط الأحداث العاصفة، ومن اعتقاد المنتصرين في الحزب أنّهم سيمضون في طريقهم متجاهلين خطورة ما جرى، فإنّ هذه الكارثة ستترك آثارًا خطيرة على مستقبل الحزب وعلى قدرة التجربة في أن تساهم في تطوُّر اليمن وتقدمه، وعلى بقاء التجربة ذاتها. فقد أوصلتها الأحداث الدامية إلى طريق مسدود، وألحقت بها مستوى من الضرر ليس بعده سوى التراجع والانحدار". وقد صارحني جارالله عمر حين التقينا في صنعاء بعد الوحدة، بأنّه على الرغم من صدمته بقراءة هذه الآراء الصريحة، فقد ساعدته في التأمل فيما جرى، وأنّ آخرين صارحوه بخوفهم من أن تنتشر في وقت يعملون فيه للملمة الأوضاع القاسية، وأنهم في حاجة لمن يربت على أكتافهم الجريحة، وليس من إلى يجابههم بقساوة الأوضاع وينذرهم بسوء العاقبة.
الحرب الدائمة المتقطعة التي كانت دائمًا قاطرة لاستدامة الفقر والاستبداد والتخلف، سرعان ما ألقت بثقلها على حاضر اليمن ومستقبله، إذ تكالبت القوى التقليدية من جميع الاتجاهات، لوأد تجربة الوحدة التي تحقّقت بالتوافق، والعودة إلى الغلبة بالسلاح والقهر.
وعلى الرغم من أنّ الأحداث كانت كارثة شخصية وعامة في حياة الجناحي، فقد كان ممّن دافعوا عن الرسالة، وقال لي بعد الوحدة أنّه رأى أنّها وأمثالها من الآراء الصادقة يمكن أن توقظ من يريدون أن يستخلصوا الدروس والعبر حتى لا يواصلوا السير وكأن شيئًا لم يكن.
ومع أنّ الجناحي في البداية كابر وواصل الكتابة بنَفَس مستفز مما حدث من جرأة على تجاوز كل الحدود الممكنة في الصراع السياسي، فقد بدأ عمليًّا يتعاطف بالتدريج مع الأفكار التي طرحها جارالله عمر، داعيًا إلى التعددية الحزبية والصحفية وإلى الانفتاح الديمقراطي. وكان الجناحي قد شعر بالحاجة إلى مثل هذا الانفتاح خلال تجربته الصحفية والسياسية عند تأسيس صحيفة الأمل في صنعاء، وإدارة نشاطها ومشاركته باسم الجبهة الوطنية الديمقراطية وباسم الحزب الاشتراكي في بداية ثمانينيات القرن العشرين في الحوار الذي نتج عنه تأسيس المؤتمر الشعبي العام، على أمل أن يكون مظلة لجميع الآراء، وأن ينفتح على الاتجاهات السياسية اليسارية. وقد جعلته هذه التجربة يتفهّم قول جارالله: "كيف يمكن أن نطالب بالديمقراطية والتعددية في الشمال، في حين أننا حزب وحيد لا يقبل أي رأي آخر ولا أي تيار سياسي آخر؟!". وهي المشكلة التي واجهها الجناحي عمليًّا حين كان يشارك في الحوار مع السلطة في صنعاء، باسم الجبهة الوطنية الديمقراطية.
وحين تحقّقت الوحدة في 22 مايو 1990، طار فرحًا بها واعتبرها مثل كثيرين من اليساريين والتقدميين تحقيقًا لهدف وطنيّ تاريخيّ كان دائمًا في مقدمة الأهداف التي عملوا في سبيل تحقيقها. ولذلك حرصوا على أن يتضمّن دستور دولة الوحدة تأسيسًا لتجربة ديمقراطية تضمن المواطنة المتساوية والمساواة أمام القانون، وتأسيسًا لتعددية الصحافة واستقلالها، واحترامًا للحقوق الأساسية للمواطنين. لكن الحرب الدائمة المتقطعة التي كانت دائمًا قاطرة لاستدامة الفقر والاستبداد والتخلف، سرعان ما ألقت بثقلها على حاضر اليمن ومستقبله، إذ تكالبت القوى التقليدية من جميع الاتجاهات، لوأد تجربة الوحدة التي تحققت بالتوافق، والعودة إلى الغلبة بالسلاح والقهر.
من هنا بدأت متاعب الجناحي وأمثاله من الحالمين بوطن ناهض موحد متصالح مع نفسه بعيدًا عن الحرب والاضطهاد. فقد وجد نفسه متهَمًا من الجانبين؛ من جانب القوى التقليدية المهيمنة باعتباره من رموز الحزب الاشتراكي العريقِين، ومِن جانب مَن بدَؤُوا يلوون أعناقهم نحو توجّهات أُخرى لا يرضى عنها. وكانت هذه اللحظات مقدمات لصدمات أعمق أصابته في صميم قناعاته وأثقلت حياته بالألم والحسرة. فلم يكن يتوقع ولو في المنام، أنّ أمينَين عامين للحزب الذي ساهم في تأسيسه وأفنى عمره في العمل لبنائه ومنحَه عصارة عمره، سيعصفان بسياسة الحزب ويدخلانه في منزلق لا يمكن تصوّره ولا فهمه، ولا يخضع لأي منطق عقلاني أو تحليل سياسي. فخلال نحو عشر سنوات فقط، أطلق الأمين العام الأول، الذي يفترَض أنّه المسؤول الأول عن بذل كل الجهود للحفاظ على الحزب وتجنيبه أي مزالق سياسية وحمايته من المخاطر، الرصاصةَ الأولى في مقر المكتب السياسي لتبدأ الكارثة، ونافسه الأمين العام الثاني، المسؤول بحكم منصبه عن قيادة الحزب إلى برّ الأمان، فزجّ به في صراعات ومصادمات دون حساب دقيق لموازين القوى وقاده نحو الكارثة. وحين فشل لم يكتفِ بإدراك خطئه وينسحب من ممارسة العمل السياسي ليترك الحزب الذي تخلّى عنه حطامًا يتدبر أمر خروجه من الكارثة، بل تنكَّر لكل القناعات التي أوصلته إلى زعامة الحزب وللمبادئ التي آمن بها ودعا الناس إلى اتِّباعها، وبدأ الدعوة والعمل لعودة كل ما ناضل ضدّه طوال تاريخه السياسي.
وبعدها بدأت الأفكار الدخيلة على الحزب في التعبير عن نفسها، وانفتح الباب أمام انطلاق المناطقية والعنصرية في الشارع السياسي بطريقة مواربة أو مباشرة، وبخاصة من خلال تقسيم الناس إلى معسكرين؛ الأشرار الذين يتحملون مسؤولية كل الأخطاء والنكبات؛ وهم عبدالفتاح إسماعيل ومن شاركوا معه في الكفاح في سبيل التحرر من الاستعمار البريطاني ونيل الاستقلال الوطني، ومعسكر الأخيار، بمن فيهم المستعمرون البريطانيّون، الداعي لعودة "الجنوب العربي" الذي أسّسه البريطانيون بما يخالف حقائق التاريخ والجغرافيا، بهدف مواصلة تمزيق اليمن حتى بعد جلائهم عن البلاد، مدركين أنّ الإبقاء على حدود داخلية تمتد طولًا من باب المندب إلى صحراء الربع الخالي، يخلق جبهة تتواجه فيها الجيوش، وتتواصل عليها الحرب الدائمة المتقطعة، وتُهدَر الموارد الشحيحة على الدمار بدلًا من البناء لخير السكان، وتضيع فرصة تاريخية لبناء بلد كبير بمساحته وسكانه وبطاقاته المادية والبشرية، بلد قادر على المساهمة في النهضة العربية وفي الحضارة العالمية.
وهو ما يضع على شباب الحزب الاشتراكي الساعين لتحقيق غد أفضل لهم ولبلادهم، مسؤولية مغادرة الثقافة الحزبية الموروثة من القرن العشرين لرسم طريق جديد للنهضة والتقدم. فلم تعد أفكار الماضي قابلة للتعامل مع واقع اليوم، بعد كل ما جرى من انهيار للحركة السياسية وللنشاط السياسي وغلبة الميليشيات المسلحة التي تجدد تراث الغلبة بالسلاح وانتهاك الحقوق والحريات، وأولها حق الحياة والعمل.
المطلوب اليومَ حزبٌ تقدمي يركز على التضامن بين أعضائه وأنصاره في العمل مع المواطنين من أجل تحقيق المواطنة المتساوية والعدالة والمساواة واحترام حقوق الإنسان، وحشد كل الموارد والطاقات المادية والبشرية من أجل التنمية الصناعية والزراعية والاجتماعية والثقافية لرفع مستوى معيشة المواطنين، وهذا يتطلب التركيز على تحديث التعليم وتحسين محتواه ليواكب أحدث أنظمة التعليم في العالم المتقدم، والاهتمام بالتدريب والتأهيل. وهي مهمات تليق باليسار وتضمن له قبول الأوساط الشعبية التي ابتعدت عنه بعد العبث الذي أوصل تجربة اليمن الديمقراطية إلى طريق مسدود. المطلوب اليومَ إعادةُ الاعتبار للمبادئ الإنسانية النبيلة التي كانت في أساس دعوة الحزب، وتكييفها مع متطلبات القرن الواحد والعشرين، ومع احتياجات غالبية المواطنين الذي سحقتهم الحرب والفقر وانعدام فرص الحياة الكريمة.
ينبغي ألّا يتوقع أحد أن يبقى الحزب الاشتراكي صلبًا ومتماسكًا دون تماسك أعضائه وقواعده وقياداته، ودون أن يرسم تصوراته ورؤاه لخروج اليمن من الكارثة ولتحقيق نهضته الآن وفي المستقبل. أما وقد انفرط كل شيء وتبعثر دون وجود رؤى وتوجهات واضحة تتعامل مع الحاضر والمستقبل، فليس من المستغرب انتشار الإحباط واليأس، بل مغادرة دنيا سياسة بلا ضوابط إنسانية وبلا منطق يحكمها، وبلا بحث عن دور تاريخي نبيل.
وإذا لم يكن الحزب الاشتراكي من يصوغ هذا المشروع المستقبلي ليمن موحد ناهض متقدم، يُخرِج البلاد من تصارع المصالح الأنانية الضيقة للقبائل والمناطق والطوائف، فمن سيدافع عن حقوق المواطن البسيط المسحوق، ومن سيتضامن معه في السعي لتحقيق العدالة والمساواة، ومن سيعمل لفتح أبواب العمل والنجاح أمامه؟! إنّ انحدار الحزب إلى الغرق في مشاريع التمزيق الضيقة للوطن وإلى التماهي مع المناطقية والقبلية والطائفية، يجرده من تاريخه المجيد ويفقده مبرر وجوده، ويقوده نحو خسران دوره التاريخي الذي لا تستطيع قوة سياسية أخرى أن تنهض به من بين رماد الكارثة الحالية، وفي ظروف اليمن في القرن الواحد والعشرين. وسيؤدي غياب هذا الدور للحزب إلى اختفائه، لأنه سيكون دون مبررات تجعله يستحق الوجود.
صحيح أنّ الاشتراكية بالشكل الذي عُرِفت به في القرن العشرين، لم تعد مطروحة في أي بلد في العالم، لكن الأحزاب الأصيلة الصادقة مع نفسها ومع شعوبها تتهذَّب وتتغير لتستجيب لحاجات بلدانها في السير نحو المستقبل، وحاجة الإنسانية إلى الحق والعدل، إلى المساواة واحترام الحقوق الإنسانية، إلى التضامن الإنساني بين البشر لمواجهة المصاعب في المجتمعات المختلفة، إلى النمو الاقتصادي والاجتماعي للاستجابة لحاجات المواطنين، إلى مكافحة الحرب والفقر واستدامة التخلف. إلى البناء والتعمير والنهضة في جميع المجالات. أليست هذه مهمات تنتظر أن يعيد الحزب الاشتراكي صياغة نفسه وأفكاره ومبادئه، وحتى تغيير اسمه، ليكون الصوت الإنساني النبيل الداعي للنهضة والبناء في وسط غابة التكالب على المصالح الأنانية الحيوانية الضيقة وفي أجواء العنف الموروث من قانون الغاب، وليكون الحزب أهلًا لنيل ثقة المواطنين من جديد؟
ومع أنني لم ألتقِ بالجناحي منذ ما يقرب من ثلاثة عقود من الزمن، كنت أحاول أن أتتبع من بعيد ما يقوم به من تسجيل لتجاربه ومواقفه وفقًا لفهمه لتاريخ اليمن المعاصر، حيث أصدر عددًا من الكتب، وهو عمل إيجابي يستحق الإشادة به. لكنني وقد سمعت الانتقادات لمواقفه الأخيرة، أودّ أن أقول لمنتقديه: "من كان منكم بلا خطيئة، فليرمه بحجر". فقد كانت الحركة السياسية الحديثة الضحيةَ الأولى لما جرى من عبث سياسي ومن تمزيق للنسيج الاجتماعي اليمني قامر بحاضر اليمن ومستقبل أجياله. وينبغي ألّا يتوقع أحد أن يبقى الحزب الاشتراكي صلبًا ومتماسكًا دون تماسك أعضائه وقواعده وقياداته، ودون أن يرسم تصوراته ورؤاه لخروج اليمن من الكارثة، ولتحقيق نهضته الآن وفي المستقبل. أما وقد انفرط كل شيء وتبعثر دون وجود رؤى وتوجهات واضحة تتعامل مع الحاضر والمستقبل، فليس من المستغرب انتشار الإحباط واليأس، بل مغادرة دنيا سياسة بلا ضوابط إنسانية وبلا منطق يحكمها، وبلا بحث عن دور تاريخي نبيل.
ليست هذه السطور دفاعًا عن الجناحي أو اتهامًا لغيره، ولكنها كلمة صريحة حتى لو كانت جارحة، فربما دفعت من يهمهم بقاء الحزب نحو تأمل هذا الواقع المرير للبحث عن علامات أمل على طريق الخروج من الكارثة التي أصابت في الدرجة الأولى، الحركةَ السياسية الحديثة.