صخب بلا طرب
الطبول والإيقاعات صارت في هذا الزمن عماد الأغنية الحضرمية -وحتى الخليجية والعربية عمومًا- (وخاصةً في السهرات والحفلات)، صار عدد ضاربي الطبول أكثرَ من عازفي الموسيقى الآخرين في الفرقة، واستهوى شبّانَ اليومِ ضجيجُ الإيقاعات الطاغي على موسيقى العود والكمان والقانون والناي والأورغ، والمصيبةُ أن يتعداه إلى تجاهل النص الشعري والجهل بكلمات ومعاني الأغنية. الطبول تستفز فيهم طاقة الحركة والرقص للتنفيس عن الانفعالات النفسية الداخلية فيهم، ويمكن تشبيه الحال -مع شيء من الحذر والتحفُّظ- بشبّان (الهارد روك) في الغرب.
مع هذه الظاهرة في أغانينا اليومَ التي يمقتها الكثيرون من عشّاق الغناء والطرب، يمكنني أن أسجل إعجابي بما ابتدعه الفنان الرائع، متعدد المواهب الفنية، المرحوم/ علي سعيد، عندما خلق مزجًا عجيبًا متناغمًا في الإيقاعات المتداخلة للرقصات الشعبية الحضرمية التي تصاحب كل أغنية -بمتنوع ألحانها وهُويتها- أدمجَ فيه إيقاع العدّة (الشبوانيّ) والزامل والشرح والدحيفة ونعيش البقّارة، لنسمعها مجتمعة أحيانًا في الأغنية الواحدة.
هذا رأيي الشخصي، في أغنية زمانٍ غير زماني، وفي أذواق جيل غير جيلنا، يبتدع لعصره ما يناسبه سماعًا ورقصًا وصخبًا،، أو لعله مبررٌ لأتقبّل الأغنية الحضرمية، قديمها وجديدها، بأداء هذه الأيام.
قصة (مغرم صبابة)
الأغنية الرائعة اليتيمة التي جمعت الفنان الكبير أبوبكر سالم بلفقيه بالشاعر والملحن المبدع، ابن مدينته (تريم)، عبدالقادر الكاف (رحمهما الله). ولقد كنت شاهدًا على قصة هذا اللقاء الذي جمع الفنانَين الكبيرين وقصة أغنية "مغرم صبابة".
لم تكن علاقة الاثنين ببعضهما ودّيّة قبل هذا اللقاء الفنّي الناجح، وبذل بعض أصدقائهما مساعٍ حميدة لمدة ليست بالقصيرة لتصحيح ذلك، ولكن شاءت الأقدار أن يطلب فنّاننا الأكبر بلفقيه من صديقه، عاشق الفن، المحب/ حسن كرامة البحسني البحثَ عن الشاعر المناسب لنظم أغنية جميلة -وضع مسبقًا فكرة لحنها- تكون على وزن بيت شعر قديم (بني مغراة) يقول:
"قال الربيحي بن محمد سالم
جينا من الرِّتـْحِـة بلدنا الزينةْ
(دمّون) لي ما مثلها في العالم
فيها المغني بن حمد عريونةْ"
هنا وجد الصديق حسن كرامة الفرصةَ الأغلى لتحقيق حلمنا المشترك بجمع بلفقيه مع عبدالقادر، فأبلغ الشاعر بالطلب، والذي تلقّاه مستجيبًا فرِحًا، فكتب عبدالقادر يقول:
"يا مَن لقلبي كالربيع الدائم
وأيّام عمري وأشهره وسنينه
مغرم بحسنك يا حبيبي هائم
والنفس لا هامت غدت مجنونةْ" ... إلى نهاية الأغنية.
أرسل حسن كرامة الكلمات لبلفقيه ولم يخبره بشاعرها، فأعجب بها إعجابا كبيرًا وامتدح صاحبها وهاتَفَ حسن مستخبرًا عنه، فأعلَمَه أنّها لعبدالقادر الكاف، وهنا ذابت في ثوانٍ، جفوةُ الماضي بين الاثنين، وغنّاها بلفقيه بعد أن أدخل عليها بعض التعديل فجاءت:
"مغرم صبابة يا حبيبي هائم
والنفس لا هامت غدت مجنونةْ
أنت لقلبي كالربيع الدائم
وأيام عمري وأشهُره وسنينه". (في ألبوم "أحتفل بالجرح" - روتانا).
وقد هاتفتُ شخصيًّا بلفقيه وعبدالقادر-بعد سماعي الأغنية لأول مرة عبر الهاتف من الصديق سعيد سبتي الذي كان حينها في الرياض وفي مجلس بلفقيه- وأحتفظ بتسجيل المكالمة، وقلتُ للشاعر: "وكأنك بالأغنية تخاطب بلفقيه؟"، فأجابني بالإيجاب، وأثنى على تعديلات بلفقيه. فقلتُ لبلفقيه إنّ عبدالقادر يقصدك بالأغنية، فقال لي: "هذا من لطفه وكرمه. حافظوا على صاحبكم".
مع (صلاح أبو سيف) في سيئون
المخرج السينمائي الكبير/ صلاح أبو سيف (1915-1994)، زارَ حضرموت مرتين في النصف الثاني من ثمانينيات القرن الماضي، تشرفتُ في المرتين بمرافقته، أتذكر هنا بعض المشاهد والوقائع التي لا تنسى وما رواه لنا فيهما:
• افتتاحه عرض فيلمه (القاهرة 30) بدار سينما سيئون، وإلقاءه كلمة في جمهور المشاهدين دوّت لها القاعة بتصفيق المشاهدين كأول وآخر حادثة من هذا القبيل في تاريخ حضرموت.
• الندوة الثقافية الراقية جدًّا التي نُظّمت له في نادي سيئون الرياضي [كان مقرّه حينها بجوار دار السينما (نادي الموظفين سابقًا)] التي امتدحها كثيرًا في تقريره في مجلة "صباح الخير" المصرية، عن زيارة الصحفي والإعلامي المصري الشهير/ محمود سعد، الذي رافق المخرج في زيارته الأولى، ذكر فيه ما معناه أنّها من الندوات النادرة والمدهشة في حياة المخرج أبو سيف؛ لقيمة وعمق الأسئلة والنقاشات التي دارت فيها عن السينما العربية، وتجربة أبو سيف في السينما الواقعية.
• زيارة (أبو سيف) في المرة الأولى لدار الأديب علي باكثير بسيئون، التي وعد فيها بأن يهدي الدار مجموعة مؤلفات وكتب باكثير المنشورة في مصر. وصدق الرجل وأوفى بما وعد، فقد جلب معه في زيارته الثانية (45) مؤلفًا لباكثير، سلّمها لشعبة سيئون لاتحاد الأدباء.
• أتذكر ممّا رواه لنا قصتين ظلتا عالقتين بذاكرتي:
الأولى: عن كيف يدفع النجوم الكبار ثمن الشهرة وإعجاب الجمهور بهم، حتى إنهم يفقدون تمامًا حرية الحركة والتنزه كسائر الناس، فيصبحون كـ(المساجين) تمامًا بقيود معيشتهم، بالعكس تمامًا منهم (المُخْرِجون) الذين لا يعرف صورهم الجمهور، وهم الذين صنعوا أولئك النجوم.
من ذلك، أنّه عند تصويره لأحد أفلامه مع العملاق الكبير/ فريد شوقي، كان أحد المشاهد يتطلب التصوير في أحد الأسواق، فقال جربنا التصوير في مختلف ساعات الليل والنهار بما فيها الفجر، فلم ننجح لتزاحم الجمهور على مصافحة فريد شوقي، رغم استنجادنا بالشرطة. وهكذا اضطررنا لبناء ديكور كامل للسوق داخل الأستوديو بمبالغ خيالية لإكمال تصوير الفيلم.
القصة الثانية: قال في فيلم (شباب امرأة)، [من إنتاج عام 1956م، ويعتبر من بين أفضل 100 فيلم في السينما المصرية، من بطولة شكري سرحان وتحية كاريوكا]: كنت أريد أن أقدِّم رؤية تقدمية سياسية ناقدة، وكنتُ أعلم أنّه من الضروري تجاوز (الرقابة) لتمرير الفيلم كما أريد أنا، فأغرقتُ النسخة الأولى للرقابة من الفيلم بمشاهد جنسية زائدة، فتركز اهتمامهم عليها دون الحوار وأجزاء الفيلم الأخرى، وطلبوا حذف تلك المشاهد، وفعلًا قمت بحذفها، ونجح الفيلم، وعُرِض بالصورة التي تمنّيتها!