لا يختلف معنى الشائعة في اللغة والاصطلاح، بل في معظم الحالات يكون معنى الشائعة أنها: الخبر المكذوب أو هي مجموعة من الأخبار المُغرِضة أو الملفَّقة. والشائعة قديمة قدم التاريخ، ظهورًا وحضورًا وانتشارًا. وقد لعبت أدوارها في كل المجتمعات عبر كل الأزمنة والأمكنة.
وهناك من يعتبرها الوسيلة الإعلامية الأقدم في العالم، وهذا في رأينا صحيح. الشائعة تمثّل خطرًا على الفرد أو على الجماعة أو على كليهما. وناقلو الشائعات عادةً ما يتناقلونها عن غير قصد أو بدون وعي بها، ولكنهم، من حيثُ لا يعلمون، يساهمون في نشر الوعي الزائف، والبلبلة الفكرية، أو في تدمير الطاقات المعنوية للفرد أو الجماعة.
في الماضي البعيد هناك -مثلًا- شائعة الإفك التي سجّلها القرآن الكريم. وهنالك شائعات لا تُحصى انتشرت عبر التاريخ، وسافرت من جيل إلى آخر، حتى أصبحت من المقدسات عند بعضهم أو معظمهم. إنما الانتشار الأكثر للشائعات فهو ما يحدث في عصرنا الآن، وهو عصر متطور جدًّا بحيث يقدم تسهيلات وخدمات كثيرة ومتنوعة مما يؤدّي إلى سهولة وسرعة انتشار الأخبار والمرويات والأحداث في زمن سريع للغاية.
وقد بدأ هذا الانتشار الكبير على نحو كثيف وواضح في الحربين العالميتين، حيثُ استُخدمت الشائعات على سبيل الدعاية في الحروب النفسية بين الأعداء وضد الخصوم، ولكن كان المتضرر من تلك الشائعات هو الفرد العادي بل الأفراد والجماعات معًا، حتى أولئك الناس الذين لم يكن لهم شأن في تلك الحروب أو ليست لهم علاقة مباشرة بتلك الحروب العبثية.
في العادة أو الغالب تولد الشائعة من حدث مهم أو من واقعة مثيرة وتجُرُّ معها سلسلة من الأكاذيب أو الأوهام أو الاتهامات التي تستهدف شخصًا معينًا أو جماعة أو هيئة، ونحو ذلك.
والشائعة مثلها كمثل أغلب الأمور، لها أشكال وألوان ولها أهداف أيضًا، كما لها في الوقت نفسه جمهور متعطش.
الفيلسوف الهندي الشهير أوشو لم يتكلم عن الشائعات لا من قريب أو بعيد، ولكنه قال على نحو عميق: إن نصف الحقيقة أخطر من الكذب. ونحن نضيف أن الكذبة عندما تُقدم للجمهور أو الناس على أنها هي الحقيقة، فإن لهذا الأمر خطرًا كبيرًا على الوعي الفردي أو الجمعي، وأحيانًا على مختلِق الشائعة نفسه.
إنّ اختلاق الشائعات أصبح عملًا منتشرًا في هذه الأيام، وأن وسائل الإعلام والقنوات التي تروج لها، قصدًا أو عفوًا، أصبحت لا تخجل ولا تراعي شيئًا من الأخلاقيات والقيم.
"الشائعة لا تنتشر في بيت إلا دمرته ولا في مجتمع إلا أضعفته ولا في أمة من الأمم إلا مزقتها وفرقت أبناءها وقضت على مقدراتها. بسببها دمّرت الحياة الزوجية، وبسببها حلت الشحناء والبغضاء والعداوات بين الناس، وبسببها سُفكت الدماء وانتُهكت الأعراض وقامت الحروب وهزمت الجيوش وتوقف الإنتاج وتفككت روابط المجتمع وضعفت الثقة بين أفراده". (د. حسن سيد خطاب).
مع ازدياد وسائل التواصل الاجتماعي وانتشار القنوات الإعلامية وسهولة استخدامها والحصول عليها ازداد انتشار الشائعات، وأصبح الوعي العام في خطر وفي مرمى حجر من الانهزام النفسي والتخبط الثقافي.
ربما، كل شائعة هي عبارة عن عدوان غير مباشر أو هجوم واضح على الحقيقة أو الفضيلة أو عليهما معًا. وعندما تكون الشائعات أكثر من الحقائق فحينئذٍ يبدأ الاضطراب الفكري والتمزق الأخلاقي وانحطاط العقول؛ ذلك لأنّ الشائعة -كما يرى الدكتور حسن سيد الخطّاب- "هي مصدر قلق للإنسان، وقد تكون من أسباب تعاسته. وللإشاعة قدرة على تفكيك الصف الواحد والرأي الواحد وتوزيعه وبعثرته، فالناس أمامها بين مصدق ومكذب ومتردد ومتبلبل".
ومن أثر الشائعات على الفرد والمجتمع أنها تزرع ثقافة الكراهية، وتنشر الأمراض النفسية، وتضرب الأخلاقيات والقيم، وهكذا تفعل في الناس فعلها.
ومما لا شكّ فيه، أنه مع ازدياد وسائل التواصل الاجتماعي وانتشار القنوات الإعلامية وسهولة استخدامها والحصول عليها، ازداد انتشار الشائعات، وأصبح الوعي العام في خطر وفي مرمى حجر من الانهزام النفسي والتخبط الثقافي.
ولهذا، فإن هذه الوسائل والقنوات والبرامج تكون قد ساهمت بشكل أو آخر، بل وتساهم يوميًّا في تكاثر الشائعات وانتشارها وحصولها على قيمة لا تستحقها.
الكاتب المتخصص بهذا الجانب جان نويل كابفيرير درس ظاهرة الشائعة وبحثها بشكل عميق ومكثف وحلّل أسبابها وأهدافها وإلى أي مدى يمكن للشائعات أن تنشر العبث وتزيّف الحقائق وتثير الغبار أمام العيون وحول العقول والنفوس.
ويمكننا أن نستفيد ونستزيد في هذا الموضوع، وذلك بالرجوع إلى كتابه "الشائعات الوسيلة الإعلامية الأقدم في العالم"، الصادر بالعربية عن دار الساقي.
يقول جان نويل في مستهل كتابه هذا: "يمكن القول إذن، إن المصدرين الأساسيين للمعرفة هما الأخبار الواردة في وسائل الإعلام، وأيضًا الروايات التي تتناقلها الجماعة مشافهةً. فالشائعة هي صوت الجماعة. وفي حالات كثيرة يتفوق صوت الجماعة، أي الشائعة، على وسائل الإعلام".
المؤكد أنّه عندما ندرس هذه الظاهرة لا بدّ أن تثور أسئلة كثيرة في الذهن، منها: لماذا الشائعات؟ من يختلقها ولماذا؟ وما أسبابها وأخطارها؟ ولماذا يصدقها جمهور كبير من الناس دون تمحيص أو تأكُّد من صحتها؟
إنّ التصدي لهذه الظاهرة الخطيرة ومقاومة الأخبار الكاذبة يستلزم منا طرح مثل هذه الأسئلة في بادئ الأمر؛ لأن السؤال حين يُطرح بشكل صحيح، يفتح لنا البابَ لمعرفة الحقيقة من الكذبة، وتمييز الحقيقي من الزائف، والطيب من الخبيث.
في اليمن، حين اندلعت الحرب الأخيرة، بدأ اختلاق الكثير من الشائعات، وظهرت الكثير من الأكاذيب الباطلة، وراحت تنتشر في بعض القنوات وعلى منصات التواصل، منها ما تستهدف المعارضين سياسيًّا، وبعضها لها أغراض أخرى.
وتحدث الطامة الكبرى عندما يتغذى الوعي الجمعي أو الشعبي على الشائعات أو المعلومات الخاطئة أو المفاهيم المغلوطة. إذ إنّ الوعي الجمعي عندما يصبح زائفًا يصبح في أكثر الأحيان معاديًا للحقائق أو كارهًا للشفافية والموضوعية والأسئلة التنويرية، ومع ذلك ليست كل الشائعات خطيرة أو ضارة، ولكنّ هناك نوعًا من الشائعات في بعض الحالات، يتضمن النقيضين: الخطر وعدمه، أو الشر والخير في وقت واحد. وعلى أي حال، فإنّ انتشار الأكاذيب واتساع جمهورها على حساب الحقائق والمعلومات الصادقة، لهوَ شيءٌ كارثيّ حقًّا. وهذا هو الحاصل في مجتمعنا اليمني، على وجه الخصوص.
ولمّا كان هذا المجتمع ذكوري النزعة بحكم ثقافته المتخلفة أو طبيعته غير المؤنسَنة، فإن تضرُّر المرأة أو النساء من الشائعات هو الأكبر والأخطر في كل الأحوال. إنّ المتزمتين دينيًّا وأخلاقيًّا ليصنعون الاتهامات الباطلة ويختلقون الشائعات لضرب الوعي النسوي الذي بدأ يتشكل ويتفتح ويطالب بحقوق عادلة للنساء أيضًا. ونحن إذا رصدنا الشائعات المعادية للمرأة والنضال النسوي فإننا قد لا ننتهي من الرصد، والأمثلة كثيرة والشواهد تتعدد وتتنوع كل يوم.
إنّ من سُبُل المعالجة والتصدي للشائعات، وكشفها، الاشتغالَ على التساؤل والبحث والتقصي. ومن هنا يطرح الكاتب جان نويل صاحب الكتاب المذكور أعلاه، تحديدًا في الفصل الثاني منه، سؤالين مهمين، هما: ما مصدر الشائعة؟ من أي أحداث ووقائع وأشخاص انبثقت؟ ويقول: "لعل هذين السؤالين هما أول ما يتبادر إلى الأذهان لدى الخوض في هذا الموضوع". فالتساؤل الشرط الأول للبدء في مواجهة سيل الشائعات.
وغير ذلك فإنّ سبل التصدي للشائعات كثيرة وعديدة، وإنّ مسؤولية فضحها ومكافحتها واقعة على عاتق الجميع بمن فيهم الباحثون والعاملون في مجال الصحافة والإعلام والمنابر التوعوية المؤثرة بشكل مباشر على المجتمع. هكذا يمكن الوقوف في وجه الشائعات، والتي من أسبابها الجهل، والحسد، وغياب الرقابة، وحب الظهور، والسعي للشهرة، وغيرها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أهم المراجع:
١- أثر الشائعات على الفرد والمجتمع ومواجهتها في الإسلام، د. حسن سيد خطاب، طبعة خاصة، 2021.
٢- الشائعات الوسيلة الإعلامية الأقدم في العالم، جان نويل، دار الساقي – الترجمة العربية، 1987.