سيكون على سكان قرية "دفينة" التابعة لمديرية عنس، التعايش من جديد، بعد موجة صراع دامٍ استمر أكثر من 15 عامًا، كانت سنوات الحرب "مرعبة ومخيفة" وراح ضحيتها (44) قتيلًا، بينما تجاوز عدد الجرحى (143)، إضافة إلى قائمة طويلة من الخسائر المادية والمعنوية، كما يقول عباس العمدي، رئيس ما يسمى بمجلس التلاحم القبلي في محافظة ذمار (شمال اليمن).
الوجع بسبب هذا الوضع في كل بيت وعزلة وقرية في مختلف المناطق في ذمار التي تشهد حروب ثأر متواصلة خلال الفترة الماضية، لكن بدرجات متفاوتة في مستوى الانتشار والأسباب، والتي قد تصل في بعض الأحيان إلى مواجهات وثارات بين منطقة وأخرى، ويذهب ضحيتها أبرياء يُقتلون بدم بارد، بينما يزهو القتلة ويتفاخرون بأخذ ثاراتهم.
يؤكد العمدي لـ"خيوط"، أنّ الجميع يرفض ويجرّم استمرار "صراع الثارات"، وما سبّبته من إزهاق للأنفس واستباحة للممتلكات وهلاك وتصحر مزارع وخراب ودمار وانتهاكات تجاوزت الحدود، لما فيها إساءة لسمعة القبيلة.
بدأت شرارة الحرب القبلية إثر خلاف بسيط بين شابّين من أبناء القرية ليتطوّر إلى قتال، ومِن ثَمّ حمل كل طرف سلاحه لمواجهة الآخر، لتندلع حرب قبلية جديدة تشهدها ذمار، فقد تسرب الخوف إلى قلوب الكثير وبات الجميع مهدّدًا بالموت في أي لحظة. حرب قبلية ضارية، وسبعُ وساطات –وفق الناشط الحقوقي محمد اليفاعي- فشلت في إسكات البنادق.
وآخر مساعي الصلح، كان في مساء 17 يونيو/ حزيران الفائت، وأفضى إلى اتفاق؛ "التوقيع بمنع أي حرب أو إطلاق نار أو استفزاز للطرف الآخر"، ومن يعتدِ على الآخر يخضع للحكم القبلي "المحدعش"؛ يعني في العرف القبلي اليمني: دفع تعويضات بواقع (11) مرة.
الوجع بسبب هذا الوضع في كل بيت وعزلة وقرية في مختلف المناطق في ذمار، لكن بدرجات متفاوتة في مستوى الانتشار والأسباب، والتي قد تصل في بعض الأحيان إلى مواجهات وثارات بين منطقة وأخرى ويذهب ضحيتها أبرياء يُقتلون بدم بارد، بينما يزهو القتلة ويتفاخرون بأخذ ثاراتهم
امتدت نيران الحروب القبلية والثأر إلى كلّ مديريات محافظة ذمار، تصدّرت القائمة مديرية الحداء، كـ"أكثر المناطق القبلية فتحت أبوابها للشر". قال مدير أمن سابق لمديرية الحداء (فضّل عدم الكشف عن هُويته)، لـ"خيوط": "أثناء وجودي في الحداء كمدير أمن، لا يخلو يومٌ من المشاكل والحروب والثارات حتى امتدت إلى أغلب مناطق الحداء، يغذّيها عدم الوعي بين أبناء المجتمع ووجود ثقافة "الطارف غريم" وحمل السلاح".
يضيف؛ في واحدة من القصص حدث اندلاع حرب قبلية بين قريتين استمرت 14 سنة بسبب مسقى ماء -مساحة صغيرة يمر منها الماء لري المزارع- ذهب ضحيتها أكثر من 30 قتيلًا والمئات من الجرحى. وقال: "كانت معنا قوة ضاربة أمنية وعسكرية، لكنها لم تكن تتحرك في الوقت المناسب، وتأتي القرارات من أعلى بترك القبائل تتناحر حتى تكن إلى السلام، وهو ما كان يحدث في الغالب، لكن في الكثير من الحروب القبلية ما تلبث أن تهدأ لتبدأ من جديد، ويذهب ضحيتها جدد."
"مع ابن عمي"
التماسك القبلي بين القبائل ومبدأ "مع ابن عمي، مُخطِي أو مصيب" سائد في الكثير من المناطق التي شهدت أو تشهد حروبًا قبلية في ذمار، يتذكر الأكاديمي أحمد الفرصي، دوامةَ الحرب التي استمرت أكثر من عشر سنوات بين أطراف في قرية البردّون -مسقط رأس الشاعر عبدالله البردوني- ودفع الجميع ثمنها دماء وأموالًا. وقال لـ"خيوط": "أخذت الحرب أفضل سنوات أعمارنا وأنبل شباننا، ولكن تجاوزنا تلك المرحلة وشققنا طريقنا نحو التآخي، وتجاوزنا صفحات الماضي، وعدنا من جديد إلى سنوات ما قبل الحرب. ما زالت ندوب الحرب في بعض منازل البردّون، وفي المقابل تجاوز قاطنوها تلك السنوات".
وَفقَ مصادر قبلية وحقوقية متطابقة، تحدثت لـ"خيوط"، تجاوزت الحروب القبلية في مديرية الحداء الـ(23) حربًا قبليةً، بعضها ما تزال مشتعلة حتى اليوم، وجزءٌ منها يمضي أطرافها في هدنة أو تصالح، على أمل أن تسكت البنادق للأبد.
أحمد حسين العزيزي، أحد وجهاء منطقة مديرية الحداء، أوضح أنّ الحروب القبلية تمتد على كل قرى الحداء، وأنّ جزءًا كبيرًا منها يمتد لأكثر من ثلاثين سنة، مشيرًا لـ"خيوط" إلى أنّ حرب الرشدة وبنين عيسى لهم أكثر من أربعين سنة وهم في صراع دامٍ.
ويقول لـ"خيوط"، إنّ كل منطقة وقرية في الحداء أخذت نصيبها من الحروب والثارات القبلية، وصل الوجع إلى كل بيت في الحداء، متابعًا بحديث هادئ وعبارات عميقة: "اشتعال الحروب والثارات قد تحدث بسبب أمور "تافهة" بين شخصين لتشتعل حرب قبلية، وتُفتح صفحة جديدة من الثارات، وفي الغالب تكون حدود القرى والعزل هي الفتيل الذي يشعل الحرب فيما بينها".
يبيّن العزيزي أنّ الحروب القبلية قد تكون بين قريتين أو عزلتين، وقد تكون بين أبناء القرية الواحدة، وأوضح أنّ تلك الحروب تخلّف مآسيَ كبيرة بين أبناء المجتمع، إلى جانب خسائر مالية كبيرة من الطرفين "ثمن الأسلحة والذخائر" وتكاليف العلاج للمصابين، بالإضافة إلى "تصليب الأراضي الزراعية"، وانتشار الخوف في المنطقة.
يشير العزيزي، ونحن في طريق عودتنا إلى مدينة ذمار من منطقة ثوبان بالحداء، إلى منازل ما تزال آثار الرصاص في وجهاتها، هذه القرية كانت فيها حرب قبلية مع قرية أخرى على الحدود بين القريتين، ذهب ضحيتها أكثر من 12 قتيلًا. وهذه قرى أخرى فيها حرب مع أخرى، وفي الطريق إلى مدينة ذمار كان قد عدّد لي أكثر من أربع قرى تشهد حربًا قبلية أو شهدت.
نوافذ صغيرة وثارات العيد
ما يميز المنازل التي تشهد صراعات دائمة، أن تكون نوافذها صغيرة وأساسها ضخم، ولها عدة أبواب، تلك الاستراتيجية في تصميم البناء كانت مستخدمة قديمًا في بعض الحصون اليمنية القديمة، في إطار التحصين للمساكن، لتمتد حتى اليوم في مناطق محافظة ذمار.
في السياق، لم يدع المحتربون فرصة العيد لتمر بسلام، فقد أصرّ عددٌ من أبناء إحدى الجماعات القبلية أن يُدخلوا الوجع إلى صدور خصومهم في أول أيام عيد الأضحى الماضي 2022، عندما تحصّنوا في إحدى المناطق القريبة من منزل أحد الخصوم، ليظهر لهم أحد الفتيان من القبيلة الخصم ليُردُوه قتيلًا ويلوذوا بالفرار.
ولك أن تتخيل مقدار الوجع الذي صُبّ على رأس والدته وأسرته، قال عبدالله محمد، وهو سائق دراجة نارية بمدينة ذمار ينتمي إلى مديرية الحداء، لـ"خيوط"، موضحًا بوجع: "الحروب القبلية قذرة، وتدفع المتحاربين إلى أن يبتعدوا من عاداتهم القبلية الأصيلة وثقافة القتل وإيذاء الآخرين من الخصوم والعمل، وفق مبدأ "الطارف غريم"، حتى وإن كان صديقًا أو جارًا أو حتى صهرًا".
40 قتيلًا سنويًّا
مسؤول في جهاز البحث الجنائي بمحافظة ذمار -رفض الكشف عن هُويته- في حديث طويل مع "خيوط"، أشار إلى التهام الحرب القبلية وعمليات الثأر أرواح أكثر من 40 شخصًا سنويًّا، يتمركز جزء كبير منها في المناطق الشرقية من محافظة ذمار.
وبين أنّ السنوات القليلة الماضية خفّت وتيرة الصراعات عمّا كانت عليه السنوات الماضية. وقال: "تاريخ الصراعات القبلية الحروبُ طويلة، لكنها شهدت احتدامًا كبيرًا منذ العام 1990، وحتى العام 2017 عندما بدأت تنشط تحركات الوساطات الرسمية والقبلية في مساعي إنهاء الحروب القبلية والثأر، لكنها ما تلبث أن تتجدد في بعض المناطق".
معيدًا استمرار بعض الحروب إلى أكثر من عشرين عامًا إلى ضعف الدولة في ذلك الوقت، وعدم جدّيتها في إخماد أي حرب ونزع فتيلها وإطفائها سواء بالقوة أو بالضغط القبلي. وأضاف: "حتى الآن فعليًّا لا تستطيع الدولة إنهاء أي حرب ما لم يكن هناك نية من أطراف الصراع بإنهائها"، وعن تحركات السلطات المحلية في إنهاء أي حرب، أوضح: "تذهب قوة أمنية أو عسكرية كقوة فاصلة بين الطرفين تسبقها أو تتبعها وساطات قبلية ورسمية، وفي حال استمرار الحرب يتم الزج بمحركي الحرب من الطرفين في السجن، بعض المناطق ترضخ للصلح، والبعض الآخر تواصل الحرب.
الآثار الاجتماعية لهذه الظاهرة: زعزعة أمن واستقرار المجتمع وإقلاق الأمن والسكينة العامة، وتفشي ظاهرة اليُتم والبؤس والحزن والكراهية والحقد في صفوف الأطفال، وما ينتج عنهم من آثار نفسية وانحرافات اجتماعية ناتجة عن فقدان آبائهم أو مربيهم، وهو ما قد يدفع الأطفال إلى العنف والعدوان أو الأسى والحزن
جزء من قائمة الحروب انتهت بعد وساطات قبلية ورسمية، ولكن ما أن تنتهي حربٌ تشتعل أخرى في منطقة جديدة. في نظر المسؤول الأمني أنّ "ثراء بعض المناطق، خاصة التي يمتهن سكانها بيع وزراعة القات أو جزءٌ من سكانها من المغتربين أو التجار" ساهم في اشتعال الحروب؛ لقدرتهم على تسديد فاتورة الحرب، فيما القرى والمناطق الفقيرة انصاعت للسلم أكثر من غيرها.
تفكك وفقر وضياع للأطفال
فضلًا عن كون الثأر ظاهرة ومشكلة اجتماعية تؤثر على وحدة النسيج الاجتماعي بين أبناء المجتمع الواحد، فهي "تزعزع سكينة المجتمع وتورّث الحقد والكراهية والرغبة في الانتقام، وفق رئيس فرع نقابة الأخصائيين الاجتماعيين والنفسيين بذمار، مهدي العبري.
ويرى العبري في حديث لـ"خيوط"، أنّ هذه الظاهرة تبرز كلما انخفض المستوى التعليمي وغاب الدور القانوني والتنفيذي والقضائي للدولة، مشيرًا إلى مساعٍ حثيثة لإيجاد حلول لهذه الظاهرة في كثير من مناطق ذمار.
مؤخرًا كان هناك تحركات ومصالحات قبلية تهدف لمعالجة ظاهرة الثأر بشكل كبير في ذمار، مقابل استجابة من أبناء المجتمع ومن أطراف الثأر، وهو ما يؤكد -بحسب رئيس فرع نقابة الأخصائيين الاجتماعيين والنفسيين- على أهمية القيم الاجتماعية والقبلية النبيلة.
يعرج العبري على الأعراف الاجتماعية الممارسة في القبيلة والمجتمع، التي تجعل من الأخذ بالثأر أنسب الحلول، بالإضافة إلى "ضعف أداء الأجهزة الأمنية في التعاطي الإيجابي والمسؤول والرادع في قضايا الثأر"، و"فقدان الثقة بين المواطن والدولة، وتطويل إجراءات التقاضي"، في هذه الجزئية يأمل الأخصائي النفسي مهدي العبري "أن تكون قضايا الثأر من القضايا المستعجلة، والتي يجب الاستعجال فيها". وأوضح أن أسباب الثأر هي الخلافات والنزاعات بين المواطنين، وعدم تدخل الجهات الأمنية والقضائية في حسم الخلافات وحلها في بدايتها، لا سيما نزاعات الحقوق والأملاك والتعدي عليها.
ويسرد رئيس فرع نقابة الأخصائيين الاجتماعيين والنفسيين بذمار، الآثارَ الاجتماعية لهذه الظاهرة: زعزعة أمن واستقرار المجتمع وإقلاق الأمن والسكينة العامة، وتفشي ظاهرة اليُتم والبؤس والحزن والكراهية والحقد في صفوف الأطفال، وما ينتج عنهم من آثار نفسية وانحرافات اجتماعية ناتجة عن فقدان آبائهم أو مربيهم، وهو ما قد يدفع الأطفال إلى العنف والعدوان أو الأسى والحزن، وهذا بدوره يؤثر على صحة الطفل النفسية، وعلى نموه السليم.
كما تُنتِج هذه الظاهرة فقرًا وبطالة وعمالة للأطفال والنساء بعد فقدان معيلهم؛ وبالتالي البحث عن مصدر رزق لتلبية احتياجاتهم وسد حاجتهم بعد فقدانهم لمعيلهم الحقيقي، وهذا قد يدفع الأطفال والنساء للعمالة والتسوّل والانحراف، وأيضًا تفكّك النسيج الاجتماعي بين أبناء المجتمع الواحد والتأثير على وحدة الروابط الاجتماعية والاقتصادية.