"رماية ليلية"

في الحرب التي لا تشبه الحرب
د.عبدالحكيم باقيس
July 30, 2024

"رماية ليلية"

في الحرب التي لا تشبه الحرب
د.عبدالحكيم باقيس
July 30, 2024
.

للحروب سردياتها الخاصة المفتوحة على ما لا يُحصى من التفاصيل والحكايات، ولكلّ حكاية منها ألف طريقة يمكن أن تُروَى بها، وهنا مكمَن عبقرية الكاتب في تخيّر أيّ القضايا وأيّ الزوايا نطلّ من خلالها مع الكتابة على مشهدية الحرب، ومن أيّ الأبعاد يمكن أن يأتي التناول، فكيف بهذه الحرب الأهلية في اليمن، التي تجري في داخلها حروبٌ عديدة، والتي لا تشبه الحرب كذلك! إنّها حرب خصبة متناسلة متوحشة ومنفتحة على المزيد من الجنون والعبث والأوجاع، وخصوبتُها ملهِمة للكتّاب، على المزيد من التمثيل والتخييل.

و"رماية ليلية"، لأحمد زين، 2024، حلقةٌ أخرى في سرديات هذه الحرب التي لا تشبهها الحرب؛ كما تقول الرواية، في أحداثها ووقائعها ومصائر أهلها، وتفاصيلها حتى لحظة الكتابة، أما الروائي اليمني أحمد زين، فإنّ كتابته الروائية مضمخة بأعنف تفاصيل الوقائع التاريخية وتحولات المشهد السياسي في اليمن، منذ (تصحيح وضع) 2004، التي تصف سرديًّا انعكاسات التحولات السياسية التسعينية والحرب في منطقة الخليج العربي، وأثرها على اليمنيين في مهاجر الخليج العربي، ثم جاءت (قهوة أمريكية) 2007، التي تتناول صورة سردية لأزمة التجربة السياسية ونخبها، ونكوص الديمقراطية في اليمن، وكذلك جاءت (حرب تحت الجلد) 2010، التي تحكي فشل النخب وصراعات الخطابات في مرحلة ما بعد الوحدة اليمنية، وكيف تعيش الذات نفسها في صراعاتها وفي حروبها الداخلية، و(ستيمر بوينت) 2015، التي تنتزع لحظة تاريخية قلقة متوترة من حياة مدينة عدن عشيةَ تحوّلها من العهد الكولونيالي إلى العهد الثوري البروليتاري، أمّا (فاكهة للغربان) 2020، فتقدّم سرديتها عن صراع الرفاق في عدن وحروبهم في منتصف الثمانينيات واختناق المدينة بالصراعات السياسية والمؤامرات. وهكذا كانت روايات أحمد زين تمثيلًا سرديًّا لأكثر التحولات العنيفة التي مرّت بها اليمن في تاريخها المعاصر. 

طبقة الحرب الفاسدة

وفي رواية (رماية ليلية)، ينفتح خطاب التخييل على أشدّ تراجيديا الواقع اليمني الآنيّ جنونًا وسُريالية، حيث الحرب التي فقدت معنى الحرب ورومانسيتها؛ كما يعبر عن ذلك المجند الذي وجد نفسه محشورًا مع رفاقه في تلة عزلاء ينتظرون هلاكهم، يمضون إلى الحرب بدون تقاليد الحرب وأهازيجها وبدون ضبّاطها وبدون خرائط أو تشكيلات عسكرية للقتال، حرب لا تفتن أحدًا، بل تشوّه صورة الحروب ورومانسيتها. هكذا يمضي المجنَّد الذي لا يحمل اسمًا، في استعادة الوقائع والمعارك من فوق سرير في أحد المشافي، وتصبح حكايات الحرب التي يرويها في رسالة إلى مجهول، جزءًا من العلاج النفسي الذي يتلقّاه، وشهادة في هتك أسرار الحرب وتفاصيلها من الداخل، في خطٍّ سرديٍّ دراميٍّ نعايش فيه تفاصيل وانفعالات ومواقف وأحداث ومشهديات المعارك وضحاياها، ثم ينتقل من التفاصيل الميدانية إلى مشاهداته لما تخلّفه الحرب من آثار على الجنود أنفسهم؛ حيث زملاء الغرفة من الجرحى والعائدين من الحرب بأطراف مبتورة، وهم يُزجون أوقاتهم، ويحلمون بزيارة ضبّاط كبار، يأتون إليهم يشكرونهم ويقلدونهم الأوسمةَ والنياشين.

يقابل هذا الخطَّ السرديّ المحشوّ بتراجيديا الحرب من داخلها، خطٌّ سرديّ آخر مفارق له، تصف الرواية من خلاله فساد الحرب وتحوُّلها إلى شبكة من العلاقات والمصالح في ظلّ وجود طبقة ناعمة تعيش في الخارج من ساسة ومسؤولين حكوميين وضبّاط كبار وشيوخ قبَليّين وإعلاميّين وناشطين ومحلّلين سياسيّين ومنظمات إغاثة وغيرهم، يعيشون في الفنادق ومدن الدول الحليفة، ويتحدثون عن حرب لا يعرفونها وعن أحداث لم يشهدوها، يجري تسريد كلّ هذه القضايا والمواقف لتحولات الحرب ومفارقاتها من خلال الخط السردي الثاني وبواسطة شخصيتين سرديّتين؛ الشخصية الأولى (ليلى) الإعلامية التي تعمل مذيعة في إحدى المحطات الإذاعية التابعة للحكومة في الخارج، ومن خلال عملها والمقابلات التي تُجريها مع من تصفهم الرواية دائمًا بـ(الفارّين)، تكتشف تفاصيل فساد النخب الإعلامية؛ محللون سياسيون يتحدثون عن أحداث وتفاصيل معارك من خلف شاشات بعيدة في مدن بعيدة عن الحرب، وعن أوضاع لا يعيشون معاناتها، وحيث المتاجرون بمعاناة الفقراء من منظمات دولية ومسؤولي إغاثة ومسؤولين إعلاميين يتلاعبون بالرأي العام ويُزيّفون الوقائع.

وهكذا يصبح المروي المتصل بهذه الشخصية الروائية تمثيلًا دقيقًا لأحداث واقعية في مشهديات الحرب التي تطل على نفسها من الخارج، وحين تشعر ليلى بالاختناق، وأنّ قوقعةً من الفساد تُحيط بها وتُوشك أن تلتهمها، تُقرّر الخروج من هذه المؤسسة الإعلامية، والانتقال إلى مدينة القاهرة، وهناك تطر إلى العمل نادلة في أحد المطاعم، وتتحول رحلتها في القاهرة إلى رحلة كاشفة عن المزيد من الآثار التي تركتها الحرب على الفارّين منها، وتلتقط الرواية في أثناء ذلك العديدَ من اللوحات عن شتات اليمنيّين ومعاناتهم.

أمّا الشخصية الثانية التي تتقاسم مع الأولى بؤرةَ الخط السردي الثاني، فهي (فائزة) التي تعمل منسِّقة في أحد الفنادق في الرياض، والمخصص لخليط من "الفارّين" من الحرب، وتكون وظيفتها كاشفة عن فساد هذه الفئة الانتهازية المهزومة التي أفرزتها الحرب. حفلات مستمرة لفارّين، وفارّين جدد، ضباط كبار تركوا جنودهم في الميدان ويتحدثون عن بطولات زائفة، مشايخ قبليّون تركوا قراهم وذويهم يواجهون مصيرهم ويسعون إلى المزيد من غنائم الحرب في الخارج دون أن يشعروا بالعار، ناشطون سياسيون واجتماعيون وجدوا في الحديث عن الحرب مناسبة للثراء على حساب معاناة الناس في الداخل، صور عديدة زائفة تتحدث عنها فائزة التي يتضاعف معها شعورها بالقرف والاشمئزاز من هذه الفئة؛ ما يدفعها إلى اللجوء في أحد البلدان الأجنبية.

حرب فاسدة تحوّلت إلى شبكة من العلاقات والمصالح، في ظلّ وجود طبقة ناعمة تعيش في الخارج، من ساسة ومسؤولين حكوميين وضبّاط كبار وشيوخ قبَليّين وإعلاميين وناشطين ومحللين سياسيين ومنظمات إغاثة وغيرهم، يعيشون في الفنادق ومدن الدول الحليفة، ويتحدثون عن حرب لا يعرفونها وعن أحداث لم يشهدوها.

السرد ووظيفة البوح

يمضي الخطان السرديان؛ خط الجندي الذي يكتب الرسالة عن الحرب من الداخل، وخطّ مرويّ فائزة وليلى عمّا أفرزته الحرب من فساد في الخارج، في مسارَين متوازيَين، وفي تناوب سرديٍّ خلقَ إيقاعًا جميلًا، في تقديم الصورة والصورة المفارقة، إلى أن توشك الرواية على نهايتها، حين يُثار اهتمام ليلى في أثناء زيارتها أحدَ المشافي في القاهرة المخصصة لعلاج مرضى الحرب، الذين تحوّلوا إلى مادّة للتصوير والدعاية، للمنظمات الدولية، ومن بينهم صورة جندي مصاب منهمك وحده في كتابة أوراق، فتقرّر العودة إليه. وهنا، تُلمِح الرواية بذكاء سرديّ إلى الانفتاح إلى حكاية جديدة من حكايات الحرب التي لا تنتهي. 

العديد من المشاهد والشخصيات تحتشد في (رماية ليلية)؛ ما يجعلها لوحةً بانورامية كبيرة عن الآثار التي أنتجتها الحرب الأهلية اليمنية، تخيّر السرد تمريرَها في لغة سردية تعتمد المفارقة على مستوى الشخصيات والأحداث والأمكنة، وهي تمثيل سرديّ يُماهي تشظيات الواقع ومفارقاته.

كما تخيّر تمريرَها بتعدّد الرواة والضمائر السردية التي يؤدّي كلُّ واحدٍ منها وظيفة خاصة؛ فهناك ضمير الغائب (هو)، الأكثر سلطة في تقاليد الحكاية، ويتحرك من خلاله السرد في جميع الاتجاهات، ويلملم العديد من الأحداث والشخصيات والتفاصيل. وهناك ضمير المتكلم (أنا) الذي يتيح للشخصيات أن تتحدّث عن نفسها، وهو ما سمح بالعديد من الشذرات أو الحكايات الفرعية أن تنمو في الرواية، وكأنّما الرغبة في الحكي هي المحرك الرئيس في السرد، منذ الراوي المجند في الخط السردي الأول، الذي يتحدث عن نفسه وعن رفاقه في أثناء العمليات القتالية، وفائزة التي تصف مشاعر الضيق والانتقام تجاه الفارّين في الفندق، والحكايات التي يرويها هؤلاء الفارّون عن أنفسهم، مثل: الشيخ القبلي، وسلوى التي كانت إحدى الزينبيات قبل أن تفر إلى الخارج، ونادر السياسي الثائر الذي تحول إلى سياسي فاشل، والمصوِّر الأممي الذي يلهث خلف الصورة متجرّدًا من الإنسانية، والجندي المعاق الذي ينتظر زيارة قائده؛ العديد من الحكايات التي تتضمن في داخلها انفعالاتها ورؤاها الخاصة للحرب، ممّا عزّز رغبة الحكي والبوح لذوات مأزومة تعاني من صراعاتها وحروبها الداخلية. أما ضمير المخاطب أو "سرد الأنت" الذي يحضر بقوة في (رماية ليلية)، حيث السرد يتجه حينًا إلى مخاطب بعينه، معلوم أو مجهول في إطار ثنائية الراوي والمروي عليه، وحينًا يتجه من الذات إلى نفسها، في صورة مونولوجات طويلة داخلية، وخصوصًا في الخط السردي الأول، فقد جاء مؤدّيًا وظيفة البوح والانفعال والاحتجاج النفسي الداخلي، معبرًا عن انشطار الشخصية إلى كائِنَين يسأل أحدهما الآخر بحثًا عن إجابة أو تفسير مرة، وسخرية وتهكمًا عنيفًا في مرة أخرى، واستخدام ضمير المخاطب أو سرد الأنت وتوظيفه، هو أحد السمات السردية في روايات أحمد زين عامة.

•••
د.عبدالحكيم باقيس

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English