بعد ست سنوات من تدخل (التحالف العربي)، تبدو الحكومة اليمنية، وكأنها تسيطر على رقع شطرنج صغيرة في الخارطة العامة للبلاد، لا يمكن أن تشكل في مجملها قوام دولة واحدة بحدود قابلة للحياة.
فمن شبوة ومأرب وسطًا، إلى تعز جنوب غرب إلى أجزاء من حضرموت شرقًا، لا يمكن إعطاء الحكومة المعترف بها دوليًّا، نسبة أكثر من 20% إن لم يكن أقل بالنظر إلى خارطة السيطرة الفعلية لبقية الأطراف، ولم يكن للتحالف (باستثناء مأرب وأجزاء صغيرة من شبوة) دور رئيسي في احتفاظ الحكومة بهذه المناطق لحسابها. ويعزى صمود هذه المساحات، إلى تمتعها بقادة محليين ذوي نفوذ قبلي، وقدرتهم على إدارة المعارك وشؤون القيادة - شبوة ومأرب نموذجًا.
في أكثر من مرة، سعت الإمارات إما بالتدخل المباشر، أو عن طريق دعم حلفائها (قوات الانتقالي)، إلى تقويض وجود الحكومة اليمنية المعترف بها دوليًّا في المحافظات الجنوبية، ما استدعى الحديث عن صراع أسفل الطاولة بين السعودية الداعمة للحكومة المعترف بها دوليًّا، وبين الإمارات الداعمة للقوات الجنوبية ذات النزعة الانفصالية.
وفي النتيجة، تذهب الأمور لترسو على النتائج التي تأملها الإمارات وحلفاءها، وحتى اتفاق الرياض الذي على أساسه عادت الحكومة إلى عدن، بقى نجاحه محكومًا بتنفيذ الشق الأمني والعسكري، الذي ظل العمل به معلقًا، لاشتراطه إعادة رسم خارطة السيطرة العسكرية بالتساوي بين الطرفين المتنازعين (الانتقالي الجنوبي-الحكومة).
بعد ست سنوات من قيادة التحالف لمعركة (إعادة الشرعية)، أصبح الحديث عن يمن واحد، يبدو وكأنه شيء من الماضي، أو هدف خيالي بعيد المنال. بالتأكيد، لسنا ساذجين -نحن اليمنيين- لنعتبر أن هذا الأمر، تم بالمصادفة، أو بمعطيات قتالية سيّرت نفسها.
في الفجر الباكر، للسادس والعشرين من مارس 2015، صحا اليمنيون على صدى انفجارات غريبة، تشبه هزيم الرعد في المواسم الماطرة، لكن هذه المرة، تهتز لها النوافذ والقلوب. لم يكونوا قد أفاقوا بعد من صدمة سيطرة جماعة أنصار الله (الحوثيين) المسلحة على دولتهم وتغولهم في مفاصلها
لقد رأينا، كيف تم هدم النسيج الوطني، لبنة لبنة، وخلق مسميات ذات بعد مناطقي وشطري، واستحضار الماضي لمعالجة شؤون مستقبلنا، ومحاولة اختراع هويات جديدة، وإن بأثر استعماري. كيف تم التحكم بالمعارك وقيادتها، بما ينسجم مع الأهواء (الشريرة) لقادة إقليميين، لا يزالون يعتقدون أن في أبادتنا وتقسيمنا على هذا النحو، عبرة لشعوب أخرى، تتهيأ للحلم -إن لم يكن أبعد من ذلك- اعتبار قيام دولة قوية في اليمن تهديدًا لدولهم.
بعد هذه السنوات من تجويع اليمنيين جماعيًّا، وتشريدهم، وقتلهم، وتجريف الهوية الوطنية، تبدو (الشرعية) متضاءلة أكثر من أي وقت مضى، أمام جماعات مسلحة داخلية تعتقد أن كل مشروعيتها قائمة في السلاح، والحديث عن المطامع الخارجية في الجزر والشواطئ اليمنية، والمحاولات الدؤوبة التي لا تكف عن تعطيلها لصالح موانئ المنطقة، عن منع ممنهج لمنشآت النفط والغاز، من تصدير إنتاجهما إلى السوق العالمية، لبقاء الأزمة الاقتصادية قائمة.
عن جيوش تعمل مع التحالف نفسه، ولا تدري لأي (شرعية) تنتمي، ولا لأي دولة تنقاد. عن قادة لا يكتفون بخلع أرديتهم الوطنية، بل الذهاب أكثر من ذلك، للارتهان للدعم الإقليمي، ومجاراته في كل شيء، بما في ذلك التطبيع مع إسرائيل وإن هذه المرة بلحى سلفية.
بعد ست سنوات، لا يمكن الحديث، إلا عن بلد غارق في الظلام من رأسه حتى أخمص قدميه، عن أكثر من مليون يمني فقدوا وظائفهم في أجهزة الدولة، وعن الدولار حين أتى التحالف وقيمته لا تتجاوز الـ250 ريال، وأضحى يتجاوز حاجز 600 ريال في مناطق سيطرة الحوثيين، و900 ريال في مناطق سيطرة الحكومة المعترف بها دوليًّا.
ما الذي حدث أولًا؟
في الفجر الباكر، للسادس والعشرين من مارس 2015، صحا اليمنييون على صدى انفجارات غريبة، تشبه هزيم الرعد في المواسم الماطرة، لكن هذه المرة، تهتز لها النوافذ والقلوب. لم يكونوا قد أفاقوا بعد من صدمة سيطرة جماعة أنصارالله المسلحة على دولتهم وتغولهم في مفاصلها.
حاولوا أن يصنعوا تفسيراتهم، خاصة وأن معالم الصيف كانت قد قدمت. لكن هذا الشيء الرهيب ليس صيفًا، أكبر من أن تفسّره نشرات الطقس الجوي، وإنما نشرات الأخبار، لذا لاذوا بأجهزة التلفاز، ليروا العواجل تتسابق في الشاشات الصغيرة: تحالف عربي من 12 دولة، يقصف اليمن، بغرض إعادة الشرعية الدستورية إليه. وتلك الأصوات هي لأولى الطلعات الجوية لقصف البنية التحتية العسكرية للجيش اليمني، الذي أصبح تحت السيطرة الكاملة لجماعة أنصارالله (الحوثيين).
تباينت المشاعر، حول هذا المعطى الجديد، بين من رآه فعلًا متهورًا ولا مدروسًا، وبين من اعتبره ردة فعل طبيعية، لسياسات توازن الرعب في المنطقة، لكن ما لم يظهر وسط مشاعر الارتباك والخشية، هو أن ما بعد هذه اللحظات لن يكون كما قبلها، على وجه الإطلاق. سيعرف جميع اليمنيين بعد أسابيع قليلة فقط، بما في ذلك جماعة أنصارالله المتهورة، معنى أن تتم المقامرة ببلد عريق، اسمه: اليمن.
هنا، وفي الذكرى السادسة، لإعلان هذا التحالف، سنعمل في منصة خيوط الإعلامية على ضبط ساعاتنا، على اللحظات الأولى لإعلان هذا التحالف، لنرى بعد كل هذه السنوات، ما الذي حققه في الطريق إلى تنفيذ الأهداف التي أعلنها، لطالما كان الجدل قائمًا، عن مدى قانونية وأخلاقية هذا التدخل، ومشروعيته.
قال التحالف أنه تدخّل "بناءً على طلب الرئيس هادي"، وأعلن ابتداءً بما لا يقل عن عشر دول، وشاركت في عملياته طائرات مقاتلة من مصر والمغرب والأردن والسودان والإمارات والكويت وقطر والبحرين. وقدمت الولايات المتحدة دعما لوجستيًّا للعمليات؛ فما الذي آلت إليه شؤون هذا التحالف، اليوم؟
في الخامس من يونيو/ تموز 2017، انفرط أول عقد في هذا التحالف، بقطع دولة الإمارات ومعها السعودية والبحرين ومصر واليمن، علاقاتها الدبلوماسية مع دولة قطر المجاورة، بسبب التنافس الشرس على النفوذ في المنطقة، انسحبت الأخيرة على إثره من التحالف، وتبنت سياسات إعلامية مضادة وشرسة تجاه (دول المقاطعة)، ما قسّم الأطراف اليمنية الداخلية ومصالح.
وفي مطلع العام 2019، أشارت وكالة الأسوشيتدبرس، نقلًا عن مصادر حكومية، تجميد المغرب لنشاطه العسكري ضمن التحالف، واستدعاء سفيره في الرياض. أتى هذا التطور بعد توتر شاب العلاقة بين المغرب والسعودية، تبع ذلك أزمة بين المغرب والإمارات للضغط على الأولى باتجاه قطع علاقاتها الدبلوماسية والاقتصادية مع قطر، ما حدا بالإمارات إلى تأخير تعيين سفير لها في المغرب طيلة العام 2019. وبالرغم من أن المغرب لم تفصح عن حجم مشاركتها في التحالف، إلا أن طائرة واحدة على الأقل سقطت أثناء مشاركتها في هذا التحالف.
باكستان أيضًا، الدولة المسلمة التي كانت تعوّل السعودية على تدخلها المباشر، لامتلاكها قوات برية مدربة على التضاريس الجبلية وحرب العصابات، أبدت فتورًا حيال طلب التدخل، واكتفى المسؤولون هناك بالقول إنهم سيتصدون لأي "تهديد لوحدة أراضي السعودية"، على أن البرلمان الباكستاني حسم المسألة باكرًا في أبريل/ نيسان 2015، وعارض طلبًا بالتدخل وضع على طاولته.
أمام هذا التفكك في القوام المعلن للتحالف، أصبح من السهل الإشارة إلى هذا التحالف باعتباره مصلحة إماراتية-سعودية، إلى أن أصبح التعارض في مصلحة هذين البلدين متعارضة هي الأخرى، وانتهى بهما في نهاية العام 2020 إلى خسارة، الولايات المتحدة، أهم شريك لوجيستي لهما في هذه الحرب، لكن مع كل ذلك، يبقى التساؤل الأهم، عن المصلحة الوطنية اليمنية التي قال التحالف إنه ينشدها، من خلال مئات الآلاف من الغارات الجوية وخلق عشرات البؤر من الصراع البري.
من البديهي، أن يكون تدخل السعودية التي يربطها باليمن عاملا الجغرافيا والتاريخ، قائم تحت ذريعة فقدانها الكامل لنفوذها في اليمن لصالح من تعتقدهم حلفاء إيران، لكن لنرَ كيف دافعت المملكة عن هذا النفوذ.
اتجهت لإعادة بناء الجيش اليمني من خلال عدد من الألوية العسكرية التي بقت تدين بالولاء للرئيس هادي، لكن الدعم المالي والعسكري الأكبر ذهب لتكوينات مسلحة أخرى أطلقت على نفسها مسمى "المقاومة"، لكن الأخيرة ظلت تدين بالولاء لقادة من حزب الإصلاح، المكوّن السياسي الأبرز الذي أبدى انخراطًا واضحًا ومعلومًا في القتال شمالًا.
لكن ماذا عن دولة الإمارات؟ علم في فترة لاحقة من الصراع أن الإمارات، لعبت دورًا كبيرًا في تشجيع السعودية على التدخل العسكري في اليمن، مستغلة تزامن الصراع اليمني مع وفاة الملك عبدالله، وانتقال السلطة إلى الملك سلمان، وابنه المتهور محمد بن سلمان.
وعلى عكس السعودية، أظهرت القوات الإماراتية مرسة وخبرة في العمليات القتالية، ما أعطى المحللين مؤشرًا واضحًا على أنها الممسكة بخيوط اللعبة القتالية على الأرض. هذا الأمر أتاح لها رسم سياسات خاصة، أتت في معظمها نقيضة لما تطمح له الأطراف المنضوية تحت (شرعية) الحكومة اليمنية المعترف بها دوليًّا.
ركزت الإمارات على مدينة عدن، والمحافظات الجنوبية لخلق نفوذ، يدين بالولاء لقادتها، بعيدًا عما تريده حكومة هادي، وحلفاؤها الإسلاميين (الإصلاح)، ولذا لم تتوانَ عن دعم تشكيلات مسلحة، أطلقت على نفسها "النخبة" و"الأحزمة الأمنية" و"القوات المشتركة" و"المقاومة الوطنية"، بمنأى عن الحكومة، تتلقى أسلحتها ورواتبها من الإمارات، وقائمة على فكرة السعي لاستقلال (الجنوب).
ورغم المقدرة والإمكانيات العالية لهذه القوات، إلا أنه، ومع تقادم السنين، بدت وكأنها تسعى إلى تقديم مصلحة الطرف الإماراتي، على أي اعتبارات وطنية أخرى، فتفاوتت أهدافها بين إنهاء نفوذ جماعة أنصارالله (الحوثيين) على السواحل اليمنية، ونفوذ حزب الإصلاح في المحافظات الأخرى باعتباره أحد أجنحة جماعة الإخوان المسلمين (الخصم الأيديولوجي لأبوظبي).