قد يتجه أحدهم إليك طالبًا منك اقتراح كتاب يقرؤه، أو يسألك عن رأيك حول كتاب قد قرأته، أو عن كتابك المفضل الذي غير حياتك، لكن ماذا لو لعبت بك الذاكرة وأطاحتك في فخ النسيان ولم تستطع تذكر رأيك بشأن الكتاب أو الكاتب!
يواجه من ينغمس في القراءة والكتب، العديدَ من الأسئلة المتعلقة حولها؛ فالقراءة هي شغف يتولد لدى محب الكتب والمكتبات، ويتوالد معها شغف امتلاك المزيد منها ومحاولة الإحاطة بكل كتاب يقع باليد، فلا يكتفي القارئ بما يقرأ أو ما يتوفر لديه، يتطلع دومًا للبحث والتهام المزيد منها وتكوين مكتبته الخاصة به والتي يصنفها كيف يشاء. عُمرت كثير من المكتبات بآلاف الكتب في مختلف المجالات، كان منها مكتبات الأدباء، كالعقاد الذي كان صاحب أكبر عدد من الكتب في زمنه، وألبرتو مانغويل وأمبرتو إيكوـ وغيرهم.
لذا حين نسمع بالأرقام التي جمعت، يتبادر لذهننا سؤالين؛ أولهما: هل كانت الحياة أمامهم كافية حتى قرأوا فيها هذا الكم الهائل من الكتب؟ والثاني والأهم، الذي يعاني منه كل قارئ مهما كان مدى اطلاعه: هل يتذكرون كل ما قرَؤُوه من تلك الكتب؟
ولأن عملية نسيان المقروء هي المعاناة الدائمة لأي قارئ، أعود لأطرح سؤالًا آخر صادفته أثناء قراءتي لكتاب بيير بايار: الكتب التي قرأناها ونسيناها تمامًا، هل تبقى كتبًا قرأناها؟
قد يبدو السؤال غريبًا بعض الشيء، لكنني -كقارئة- دائمًا ما أواجه النسيان فيما قرأت من كتب، وقد أتذكر جملة قد قرأتُها ولا أتذكر أين قرأتُها أو لمن تعود، لكن هل أستطيع أن أقول إنني قرأت كتابًا ما وأنا لا أتذكره؟
واجهت هذا التساؤل في كتاب "كيف تتحدث عن كتاب لم تقرأه؟" للكاتب بيير بايار، كان يضمّ فصلًا عن نسيان المقروء، وسلّط الضوء فيه على تجربة الكاتب الفرنسي ميشيل دي مونتين، صاحب كتاب المقالات، كانت مشكلته النسيان الدائم، فقد ينسى حتى أسماء الخدم ليس فقط الكتب، لكن المشكلة الأصعب التي واجهها وتسبب له الحرج، أنه ينسى أيضًا مؤلفاته وآراءه التي كتبها، فقد يصادف أن يكون حاضرًا جلسة نقاشية تطرح فيه أفكاره لكنه لن يتذكر أنه قالها، يقول عن نفسه: "إن كنتُ رجلًا يقرأ، فلست بالرجل الذي يحفظ ما يقرأ".
لا يمكننا القول أن ما نقرؤه ثم ننساه لا نستفيد منه بشيء، إذ تظهر فائدة ما قرأناه على بقائه وراء الوعي وتكوين أفكارنا وتشكيل آرائنا ومعرفتنا، بشكل لا نلاحظه نحن، فتصبح للقراءة فائدتها العميقة
للذاكرة –إذن- خيانة عظمى هنا؛ ففعل القراءة والنسيان قد يحدث للجميع، ولا بأس، فكلنا معرضون لنسيان ما نقرؤه، لكن بالنسبة للكاتب، أن تمتد يد النسيان وتمس إنتاجاتك الأدبية فهو شيء قاسٍ ومحرج في الوقت ذاته، فتقع في فخه حين تُسأل عنها ولا تستطيع الإجابة بشكل واضح ودقيق. سأختص الآن حول نسيان المقروء، أما عن نسيان المكتوب فربما يحتاج موضوعًا آخر.
يقول الكاتب الألماني باتريك زوسكند عن الذاكرة الأدبية في كتابه "ثلاث حكايات وملاحظة تأملية"، حول قراءته لرواية "دوستوفيسكي "الشياطين" أستطيع القراءة منذ ثلاثين عامًا وقرأت، وإن لم يكن الكثير، إلا أنني قرأت بعض الكتب، وكلُّ ما تبقى لي ذكرى ضعيفة جدًّا، عن شخصٍ ما يطلق النار على نفسه من مسدس في المجلد الثاني من رواية بلغ عدد صفحاتها الألف".
ينخرط كلُّ ما نتعلمه ونعيشه ونقرؤه في عملية نسيان لا يمكن أن نوقفها، لكن قد نواجه في يومٍ ما ذاكرتَنا المفقودة، ونتذكر مقولة ننسى لمن تنسب أو العكس (في تذكر الصاحب ونسيان المقولة)، قد تنتهي من كتاب تظن أنك مدركٌ جيدًا لما يقوله، وحين يمر عليك الزمن قد يضعك أمام الكتاب مرة أخرى، لكنك لا تتذكر إن كنت قرأته أو لا. واجه مونتين، الذي عانى من النسيان الدائم وخيانة الذاكرة، هذه المعضلة عن طريق إيجاد حل في كتابة ملاحظات هامشية تسجل رأيه نهاية كل كتاب، يساعده هذا على تذكر الرأي الذي كوّنه وفترة قراءته وملاحظاته حول موضوع الكتاب. وتبدو لي هذه العملية جيدة جدًّا في ترك أثر نسترجعه عندما نتصفح الكتاب، يقابلها في الوقت الحالي العديد من برامج التواصل الاجتماعي التي تسهل عليك مشاركة ما قرأته ومناقشته، وتكوين مراجعات عن الكتب، تسهل لك الوصول إليها في أي وقت.
لكن يعود الكاتب باتريك ليتساءل: "هل قرأت ثلاثين عامًا عبثًا؟ آلاف ساعات طفولتي، شبابي، وكهولتي أمضيتها في القراءة ولم أحتفظ منها إلا بنسيان شامل". هنا يطرح علينا ذات السؤال: هل ثمة فائدة مما نقرؤه وننساه؟ يجيب الكاتب ليقول: "ربما كانت القراءة بالدرجة الأولى عملية تشرُّب، رغم أن الوعي يغرق فيها كليًّا، إلا أنه يغرق بطريقة تناضجية غير ملحوظة، بحيث لا تدرك العملية". يشاركه الرأي أيضًا الكاتب المصري أنيس منصور في أنه: "لا شيء يضيع، كلُّ ما تقرؤه يفيدك، وكل ما تقرؤه في أعماقك أنت لا تعرف أين يبقى، ولا كيف، ولا متى يظهر بعد ذلك، ولكنه سوف ينفعل وسوف يظهر".
إذن، لا يمكننا القول إن ما نقرؤه ثم ننساه لا نستفيد منه بشيء، تظهر فائدة ما قرأناه على بقائه وراء الوعي وتكوين أفكارنا وتشكيل آرائنا ومعرفتنا، بشكل لا نلاحظه نحن، فتصبح للقراءة فائدتها العميقة. وبرأيي أن الكتب التي ننساها يمكن أن تصنف كتبًا قرأناها، حتى ولو لم نتذكر منها شيئًا. لا أتذكر أنني استطعت توحيد إجاباتي عن سؤال: ما الكتاب الذي ترك أثرًا في حياتي، لكنني أتذكر مدى تعلقي بكتاب "في صالون العقاد كانت لنا أيام"، بعد قراءته، ورغم أنني لم أعد الآن أتذكر أي شيء منه، لكن أجزم أنه أثّر في عقلي ودفعني للاطلاع أكثر على كتب الفلسفة والتاريخ، وترك في نفسي اندهاشًا من عدد الكتب التي حوتها مكتبة العقاد، وكيف أنه كان ملمًّا بشتى المجالات الثقافية والعلمية.
تصبح تجربة القراءة ممتعة، وكما يقول الأديب عباس العقاد: "القراءة وحدَها هي التي تُعطي الإنسان الواحد أكثر من حياة واحدة؛ لأنها تزيد هذه الحياة عمقًا، وإن كانت لا تطيلها بمقدار الحساب".