رمضان، شهرٌ مباركٌ يطل علينا كلَّ عامٍ حاملًا معَهُ فرصةً ذهبيةً للتّسامي الروحيّ والارتقاءِ بالنفسِ. ففي هذا الشهرِ الفضيلِ، يُقبِلُ المسلمونَ على اللهِ بقلوب خاشعة مطمئنة راجية الرحمةَ والغفران، تاركينَ وراءَهم همومَ الدُّنيا، معتمدِين في تيسيرها على مَن تكفّل بها. وهذا الشهر الذي يمثّل سعيًا إنسانِيًّا دؤوبًا نحوَ الله، يتضاعف فيه الجهدُ الروحي والتأملي، تبدأ النفسُ بخوض غمار رحلةٍ روحية فريدة وشاقة نحوَ الكمالِ، نحوَ الجوهرِ والمعنى، لتُلامسَ فيها ذروة صفائِها وطهارتِها، وتُصبح أكثرَ قربًا من اللهِ. رحلةٌ تبدأُ بخطواتٍ خفيفةٍ نابعة من نية صادقة لتتدرج إلى أن تصبح جُهدًا عظيمًا وتضحيةً كبيرةً لمقارعة أهواء النفس ونزواتها.
في رمضان، نسعى إلى التخلّص من رغباتِنا الدنيوية عبر تنمية عزيمة التَّرك والاستغناء، فالصيام كما قال عليه الصلاة والسلام "جُنّة ووِجاء"، وسبب تقوى؛ لأنه يميت الشهوات. فنحن عندما نصومُ عن الطعامِ والشراب، ونُصلّي التراويحَ، ونُكثرُ من تلاوةِ القرآنِ الكريم، ونبذلُ قصارى جهدِنا في فعلِ الخيرات؛ نتعلّمُ الصبرَ والتحكّمَ في رغباتِنا، فتُزهرُ في جوانحنا مشاعرُ السكينةِ والطمأنينة، وعند تدرُّجنا في رحلتنا التعبدية نصل إلى الذروةِ الروحانية، المتمثلة في ليلةِ القدرِ، التي هي بمنزلة الجائزة التي يمنحها الله لعباده بعد أن اجتهدوا في الطاعات وأخلصوا في العبادات، وبعد أن تصفّدت الشياطين، وأُشرِعت أبوابُ الجنة، وأُغلِقت أبوابُ النار.
ولكن، حالما ينتهي رمضانُ، ويحلُّ عيد الفطرِ، تنحدرُ أرواحُنا ثانيةً، ونهبطُ مجدّدًا إلى ساحةِ الحياةِ اليومية، ونعودُ إلى عادتِنا القديمة، وكأنَّنا لم نصعدْ تلكَ القمةَ الروحيةَ أبدًا من قبلُ، فنُكرِّر الأخطاء نفسها، ونُمارس السلوكيات نفسَها، ونُهمل ما كنّا قد سعينا جاهدينَ لتحقيقهِ، ونعيد الكرّةَ سنةً تلوَ أخرى، دونَ أن نُحقّقَ تغييرًا حقيقيًّا في أنفسِنا، أو أن نتأملَ فيما تعلّمناهُ من رمضانَ.
هذه هي محنتنا السنوية المتكررة، التي تشبهُ محنةَ "سِيزيف"؛ البطل الأسطوري، الذي عوقبَ بِحملِ صخرةٍ ضخمةٍ إلى قمةِ جبلٍ، ليراها تتدحرجُ إلى أسفلِهِ كلَّما اقتربَ من القمة، ليبدأ رحلةَ صعودِهِ ثانيةً من جديد، مكرِّرًا نفسَ الجهدِ إلى الأبد. فنحن نُحاولُ الصعودَ إلى القمّةِ كلَّ عامٍ، ولكن دونَ جدوى، فعندما نصلَ إليها، نعودُ إلى أسفلِ الجبلِ من جديدٍ. صعودٌ نُحَقِّقُ فيهِ إنجازاتٍ روحيةً عظيمة، وهبوطٌ نُضيّعُ فيهِ تلكَ الإنجازاتِ دونَ تحقيق الهدف المرجو.
ولكن، هل تُمثّلُ محنتنا "السيزيفية" قَدَرًا لا مفرّ منهُ؟ أحقًّا نحن نتغيّر أم أنّنا نُكرّرُ نفسَ الجهدِ "السيزيفيّ" عامًا بعدَ عامٍ دونَ أيّ تغيير؟ ثم بعد ذلك، ما هي قيمة هذا العمل الروحي المستمر؛ أتكمنُ القيمة في الجهد التعبدي الذي نكرره كل عام أم في الأثر الروحي الناتج عنه؟
في الحقيقة، إنّ الإجابةَ عن هذه الأسئلة تعتمدُ على فهمنا لمغزى الصيام، وعلى إرادتنا وعزيمتنا. علينا أن ندرك بدايةً أنَّنا لن نصلَ إلى القمةِ بسهولة أبدًا، فالصعودُ الروحيُّ رحلةٌ طويلةٌ، لا تنتهي بِانتهاءِ رمضانَ، بل هو رحلةُ حياةٍ كاملةٍ محفوفة بالمجاهدة والصبر، يجب المضيّ فيها مهما كانت العراقيل مُضنية.
ثم إنّ جوهر الصيام الحقيقي يتمثل في الإدراك العميق لطبيعة الجهد والعمل التعبدي ذاته. فالصوم يعلّم النفس الصبر عن مألوفاتها، وإمساك الجوارح عن جميع شهواتها، ويذكرها بأن الحياة مجاهَدة مستمرة ضد رغباتها. إنّ رمضانَ ليس مجرد فترة زمنية محددة تتكرر كل عام، بل هو رحلة دائمة نحو السموّ الروحي والإنساني، حيث يتغير الإنسان بفعل هذا الجهد التعبدي، وإن لم يبلغ ذروة التغيير المثالية المرجوة.
علينا أن نُدركَ أنّ رمضانَ ليسَ مجرّدَ شهر للصومِ والصلاةِ لذاتهما بوصفهما فريضتين دينيتين، بل هو فرصةٌ ذهبيةٌ لتغييرِ أنفسنا وتحسينِ سلوكِنا، فرصةٌ لِكسرِ دورةِ الهبوطِ والصعودِ، وتحقيقِ النصرِ على محنتنا "السيزيفيّة". في كلِّ رحلةٍ رمضانية نستعيد رحلتنا الروحيةَ نحوَ القمة، وكلَّما صعدنا روحيًّا، ازددنا قربًا من اللهِ، واكتشفنا أنفسَنا أكثر، وتعرّفنا على نقاطِ ضعفِنا وقوتِنا.
علينا أن نُدركَ أنّه رحلةٌ روحيةٌ تبدأُ من داخلِنا، رحلةٌ تتطلّبُ منّا بذلَ الجهدِ والصبر. لذا، فلْنجعَلْه فرصةً حقيقيةً للتغييرِ وتقييم أولوياتنا للارتقاء بأنفسنا نحوَ الأفضل، حتى لو كانت تلك الرحلة تشبه بعض الشيء جهد "سيزيف" اللامنتهي.
لسنا مُحكومينَ بتكرارِ نفسِ الأخطاءِ إلى الأبد، ففي رمضانَ، تكمنُ فرصةٌ حقيقيةٌ للتغيير، فرصةٌ لِنصعدَ بأرواحِنا، ونتأمّلَ أنفسَنا وما فيها من عيوب ومثالب، ونُقرّبَها منَ غاياتها وأهدافها. إذ لا يكفي أنْ نصعدَ، بل يجبُ أن نتأمّلَ صعودَنا، ونُثبّتَ أقدامَنا على القمّة. يجبُ أن نُغيِّرَ من سلوكياتِنا، ونُمارسَ القيمَ الذي تعلّمناها من تجاربنا السابقة، ونُطبّقَها في جميعِ جوانبِ حياتِنا الحاضرة والقادمة. فما فائدةُ كلِّ هذا التجلي الروحي إن لم يكن له أثره في حياتِنا اليوميةِ بعد رمضان؟!
لا تخلو الحياة من وجود فرصةٍ للتغيير، ورمضانُ هو فرصةٌ لتغيير نظام حياتَنا، وإثباتٌ بالتجربة أنه يمكن التغيير، لكنّهُ ليسَ ضمانةً للتغيير. التغييرُ مسؤوليتُنا نحن، ونحنُ فقط من نستطيعُ تحقيقَهُ إذا صدقت فينا الإرادة. رمضانُ بما يعزّز فينا من قيم هو بمثابةِ مُحفّز، يُشجّعُنا على الصعودِ، لكنّهُ لا يُمكنُهُ أن يُصعِدَنا بدلًا منّا. علينا أن نُدركَ أنّه رحلةٌ روحيةٌ تبدأُ من داخلِنا، رحلةٌ تتطلّبُ منّا بذلَ الجهدِ والصبر. لذا، فلْنجعَلْه فرصةً حقيقيةً للتغييرِ وتقييم أولوياتنا للارتقاء بأنفسنا نحوَ الأفضلِ، حتى لو كانت تلك الرحلة تشبه بعض الشيء جهد "سيزيف" اللامنتهي. فلنُغيّر من أنفسِنا وعاداتنا السلبية التي لم تُغيَّر ولم تتغيّر، ولنكسر محنتَنا "السيزيفية" التي ربما تكون مجرد وَهْمٍ نعيشه.
إذا ما فعلنا ذلك، فإنّنا سنُحَقّقُ النصرَ على محنتنا "السيزيفيّة"، ونُحَوّلُها إلى رحلةٍ مُثمرةٍ نحوَ الكمالِ. فكلّما وصلنا إلى قمةِ الجبلِ؛ أي كلّما حقّقنا تقدمًا في رحلتنا الروحية، ازدادَ شعورُنا بالسكينة والطمأنينة. وكلّما واجهنا صعوبةً في رحلةِ التغيير، ازداد إصرارُنا على إكمالِها حتى تتحقق الغاية.
وختامًا، فإنَّ رمضانَ هوَ فرصةٌ ذهبية للتأملِ والارتقاءِ بأنفسنا روحيًّا وأخلاقيًّا، ولتغييرِ حياتِنا نحوَ الأفضلِ. ولكي نُحقّقَ أقصى استفادةٍ من هذهِ الفرصة، علينا أن نسعى إلى إحداثِ تغييرٍ حقيقيّ في أنفسنا، ومُساعدة الآخرينَ على إحداث ذلك التغيير. علينا أن نُؤسّسَ خلالَ هذا الشهرِ لِعاداتٍ جديدةٍ، ونُثبّتَها في حياتِنا بعدَ انتهاءِ رمضانِ. بهذهِ الطريقةِ فقط، نستطيعُ أن نجعلَ رحلتنا الروحية رحلةً ناجحةً، ونُحوّل محنتنا "السيزيفيّة" إلى رحلةٍ مُثمرةٍ تُثري حياتنا وتزيدها اكتمالًا.
ومنْ هنا، نرى أنَّ رمضانَ ليسَ محنةً سيزيفيةً بالمعنى السلبي، بل هوَ تحدٍّ روحيٌّ مستمرّ، يُذكِّرُنا بأنَّ الصعودَ الروحيَّ لا ينتهي بانقضاءِ شهرِ رمضانَ، بل هوَ رحلةٌ دائمة نحوَ التغير الكلي. فلْنجعَل من هذا الطقس التعبدي فرصةً للتغييرِ والتجديدِ، ولنُحاول خوض هذه التجربة الروحيةِ بإرادةٍ وعزيمةٍ لا تنتهي. لنكن مثل "سيزيف" في تصميمنا على الصعود، لكن لنحتفظ بالثقة في أن هذا الصعود يحمل قيمةً في حدِّ ذاته، حتى لو لم نصل إلى القمة المطلوبة. فرمضان يذكرنا أن العمل الروحي ليس مجرد وصول إلى هدف نهائي، بل هو مسيرة دائمة نحو تحقيق الهدف.
وأخيرًا، رمضان كريم لكم جميعًا، ورحلة روحية سامية تُقَرّبُكم من اللهِ (سبحانهُ وتعالى)، وتُحسّنُ علاقتكم به، وتُحدِث فيكم تغييرًا فعليًّا يزكي النفوس ويطهر القلوب.